أرشيف الفنانة الأمّ
خلال افتتاح معرض والدي النحات جميل قاشا في غاليري C ART GALLERY في اللاذقية عام ٢٠١٤، قبيل التحاقي بكليّة الفنون الجميلة، جاءت سيدة أنيقة في أواخر السبعينيات من عمرها تتكئ بوقار على عكازها. عند دخولها الصالة التفت إليها أغلب زوار المعرض محين إياها بتقدير واضح. تجّولَت في المعرض مع والدي وصاحب الصالة ومدير الصالة شادي نصير وهو من أقربائها، وكانت تصرّح بملاحظات ونقد لا يُنسى للأعمال الفنية المعروضة. كانت تلك السيدة هي الفنانة ليلى نصير. بعد المعرض دفعني فضولي للتعرف إليها عن قرب، واطلعت على أعمالها بشكلّ حيّ لأوّل مرّة في مرسم العزيز شادي نصير الذي كان قد حدثني باستفاضة عن الفنانة ليلى التي كان يعتبرها عمّته. في وقت لاحق، طلبتُ من صديق العائلة الفنان الفوتوغرافي إليان شكور أن يأخذني إلى مرسم الفنانة ليلى نصير بعد أن حدثني عنها مطولاً هو أيضاً. لم يتردد إليان بتنسيق الزيارة، وبعد أيام ذهبت معه في رحلة اسسكتشاف منزل الفنانة حيث كانت تعمل.
تبع تلك الزيارة زيارات عديدة، في واحدة منها تحدثت ليلى عن مرضها وأوجاعها وحاجتها للسفر إلى بيروت من أجل العلاج في مستشفى أوتيل ديو، وشرحت كيف أن ضيق الأحوال يعيقها، وأنّها تنتظر بيع بعض من رسوماتها من أجل سد التكاليف. بادرتُ بدافع الرغبة في مدّ يد العون باقتراح إرسال صور أعمالها لبعض المقتنين والمعارف، وقبلَت هي بشروطها الصارمة، ودون مساومة من قبلي أو قبلها فيما يتعلق بقيمة أعمالها. وبالفعل، على إثر ذلك المسعى تم اقتناء أربعة من لوحاتها و تمكّنَت بذلك من الذهاب إلى بيروت للعلاج. عند عودتها دعتني إلى الغداء وجلسة رسم في منزلها، وتوطّدت العلاقة بيننا وتتالت الزيارات، ومع مرور الوقت أصبَحتْ تعتمد عليّ بالكثير من أمور الحياة اليومية و المهنية. أصبحت بالنسبة إليّ المعلّمة والأمّ بعد غياب الأهل الذين اضطروا مرغمين لمغادرة سوريا. كانت تقول دائماً في احاديثها وشعرها: «أشعر بأمومتي طاغية». خلال جلساتنا، حدثتني عن نفسها كإنسانة وكفنانة. كانت طالبة في كليّة الفنون الجميلة في القاهرة في أوائل الستينات من القرن الماضي، لقد خاضت بجرأة مراحل التجريب الأسلوبي والتقني. بدأً بالواقعية ومن ثم السريالية سنة ١٩٦٥، ومن ثمّ التبسيط والبحث عن الخصوصيّة الفنيّة والتجريب في التجريدية التعبيرية حسب تعبيرها في معرضها الأول في دمشق سنة ١٩٧٣، وانخراطها بعد ذلك في التعبيرية، إضافة إلى بحثها وتجريبها بالرسم الخطيّ ((Line art الذي اشتُهرت به، بل كانت متخصّصة ومتفردة برسوماتها الخطية على نحو بارز، لأنها ابتكرت وبحثت ونوّعت في رسوماتها الخطيّة مثل الخط الواقعي والخط المبسط والخط المحوّر، إضافة الى تفردها في الباستيل الزيتي وعالم الطباعة الذي استهواها الى درجة الانغماس الكامل في البحث الفني.
كما حدثتني عن همومها الإنسانيّة التي ظهرت في لوحاتها، فتناولت آلام الإنسان المعاصر فصوّرت الفقر والجوع والمتسولين والفلاحين والوجوه البائسة المكسورة ورصدت الحروب والمآسي الانسانية في كل مكان من بقاع الأرض، فقد أوصلها دافعها الإنساني لترسم حرب الفيتنام التي كانت تترصدها عن طريق النشرات الإخبارية والصحف, وعن حرب بيروت التي سافرت اليها اثناء الحرب ووصولها الى جبهات لتشاهد الحرب عن كثب ولتصور بعض الجنود في لبنان ومن ثم فلسطين.
كانت ليلى تشعر على الدوام بالإهمال الرسميّ لدورها كفنانة بارزة في سوريا. أمام غناها الفكريّ وشخصيتها الفنيّة الفذّة، تشكّلت لدي مع الوقت رغبة في المساهمة بإعطائها حقّها من التقدير عبر توثيق أرشيفها وفنّها وسيرتها بالتفصيل وبكل شغف وحب وبدون كللّ أو مقابل. لقد مثّلت لي اكتشافاً إنسانيّاً قيّماً. كانت الدهشة الحقيقية هي الاكتشافات الجديدة والمثيرة عن حياتها المليئة بالكدمات والآلام ومسيرتها الإنسانيّة ونقدها اللاذع.
ومن هنا بدأت فكرة جمع الأرشيف وكانت هي أيضا مهتمة بذلك على قدر استطاعتها. ابتداءً من عام ٢٠١٦، أخذت تجمع لي المقالات والأوراق والصور وكنا نعمل على تنسيقها، ولحسن الحظ، كانت المعلمة ليلى نصير معتادة على جمع أوراقها بعناية والاهتمام بها بشكل جيد، واستمر العمل إلى أن انتهينا بحلول عام ٢٠١٩ من جمع المقالات والصور والأوراق المهمة للأرشيف من مرسمها ومنزلها في اللاذقية. بقي مرسمها في دمشق لم نكن نعلم ما به من أرشيف. وفي ذلك الوقت (٢٠١٩)، تعرّضت ليلى لكسر بالحوض ودخلت المستشفى وبقيت الأوراق في مرسمها الصغير في دمشق، إلى أن اتصلت بي وقالت أن صاحب العقار قد وضع يده على المكان وفتح المرسم وسوف يرمي بأغراضها. اتصلتُ بالسيدة صبا العلي، صديقة قديمة لليلى لطالما كانت سندا لها، والتي قامت بزيارة المرسم وحاولت المحافظة على جزء من الموجودات. عندما ذهبتُ وجدت كل الأوراق معبأة بأكياس مجهزة للرمي ولحسن الحظ لم يكن الوقت قد أسعف المالك لرميها بعد.
إلى جانب جمع الأرشيف قمت بالبحث عمّا توفّر من مقابلاتها التلفزيونية في أرشيف هيئة الإذاعة والتلفزيون في دمشق، وأجريت معها تسجيلات صوتية توثيقيّة تزيد عن مئة ساعة عن تجربتها وحياتها الشخصية وحياتها الفنية في مصر ودمشق واللاذقية، كما قمت بتصوير جميع أعمالها المتوفرة في سوريا لدى الغاليريات والمقتنيين و أرشيف كل من نقابة الفنون الجميلة ومقتنيات مديرية الفنون ووزارة الثقافة السورية والمتاحف في دمشق. عملتُ مع وديع عطفة على تفريغ وتنضيد العديد من كتاباتها الشعر والقصة القصيرة ومسرحيّة واحدة. في المحصّلة يحيط الأرشيف بتاريخها الفني الطويل الذي امتد من ١٩٥٨ أثناء الدراسة إلى أن توقفت عن الرسم سنة ٢٠٢٢، إضافة إلى بعض الرسوم الخطيّة التي رسمتها في دار الراحة أثناء إقامتها والتي اختتمت بهم مشوارها الإبداعي الطويل.
وأصبحت اشعر حيال كل ذلك الأرشيف والتوثيق بالمسؤولية والخشية، ورغبت بأن يصل إلى الأيادي الأمينة لأنه كان ما يزال بحاجة الكثير من العمل الممنهج والاحترافي، فما كان مني إلّا أن بادرت بمنح نسخة رقمية كاملة إلى مؤسسة أتاسي، لهم كل الشكر والتقدير.
بقلم أحمد قاشا
تقرير الأرشيف- ليلى نصير
ننشر أرشيف الفنانة السوريّة ليلى نصير (١٩٤١-٢٠٢٣) كثالث مجموعة ضمن مبادرة أرشيف الفن السوري الحديث MASA.
وصَلنا هذا الأرشيف القيّم عبر الفنان السوري الشاب أحمد قاشا بعد موافقة شفهية مسجّلة من الفنانة ليلى نصير نظراً لحالتها الصحية في حينه وذلك بحضور كلّ من الشاعرَين منذر المصري وماهر الراعي والفنان الشاب وديع عطفة. كان قاشا على مدار العقد الأخير من حياة ليلى نصير بمثابة ابن روحي لها. مدفوعاً بهمّ يتقاطع مع مبادئنا الأساسيّة في حفظ وتثمين الفن السوري، كان قد قام بمسح ضوئي لكافة الوثائق التي ترد في هذا الأرشيف. استلمنا إذا هذه المواد بصيغة رقميّة بتعداد يقارب ٧٠٠ وثيقة تم إدراج ٤٧٨ منها، واستثناء المتبقي لعدم صلاحيته للنشر أو للتكرار أو النقص المؤثر في طبيعة الوثيقة أو تعارض الحقوق.
قُسّم هذا الأرشيف إلى سبعة ملفات رئيسيّة وهي : القصاصات الصحفية (١٧٨) الوثائق (١٢) مواد المعارض (٢١) الرسائل (٣) الصور (٢٢٦) الكتابات (١٥) التسجيلات (٢٣- غير منشورة متوفرة عند الطلب)، وجاءت الغالبية العظمى من هذه الوثائق باللغة العربية.
يكشف الأرشيف عن حياة شخصيّة وفكرية كرسّتها الفنانة للفن بالكامل. ضمن المقالات المكتوبة عنها والتي جاء معظمها في الصحف المحليّة، وكذلك وبشكل أوضح ضمن ثلاثة وأربعين مقابلة معها، يظهر كيف عبّرت نصير عن مواقف نقديّة ذاتيّة وعامّة، تعلّقت بالمجتمع أو القضايا السياسية أو السجالات الفنيّة. لقد آمنت نصير بأن الفن لا ينفصل عن المجتمع فرسمته ورسمت له. وتطرّقت في فنها إلى الحروب مثل لوحة الفيتنام (١٩٦٦) ولوحة العنصرية (١٩٦٥) اللتان قد عُرضتا في «المعرض السوري المتجول في أوربا» (١٩٨٦). وتحدثت عن الأسئلة الوجوديّة ومشكلات الفنان السوري المهنيّة والإبداعية وعن الهوّة بينه وبين الجمهور، وكانت ترى أن : «الفنان ينتمي إلى عصر وطبقة وأمّة» (١٩٨٠). كذلك أوضحت آراءها من التوجهات التجريدية في سوريا والنقد الفني وضرورة التجريب والحريّة في الممارسات الفنيّة. وعبرت عن مواقفها من قضايا نسوية بشكل ذاتي عندما قالت : «لم أتزوج لأن أمومتي طاغية» (١٩٨٣) ولكن أيضاً على شكل التزام اجتماعي-سياسي عندما أرجعت على سبيل المثال ندرة الفنانات في سوريا إلى حقيقة أنّ : «المرأة المتفوقة تعاني من ساديّة الرجل» (١٩٨٩).
تفيد الوثائق الواردة في الأرشيف أيضاً في تتبع عروضها الفنيّة الفردية والجماعيّة، خصوصاً الداخلية التي أقيمت في المدن السوريّة. والجدير بالذكر أن المقالات وكتيّبات المعارض تشير إلى تاريخ من معارضها ومشاركاتها الجماعية في بلدان عديدة مثل موسكو وصوفيا و باريس وبودابست والرباط والكويت وبغداد، إلّا أن محتوى الأرشيف لا يتضمن أياً منها. عبر المعارض يظهر مجدداً موقفها النسوي عندما شاركت في عروض جماعية مثل : «المرأة العربيّة والإبداع الفنيّ» الذي أقامته نقابة الفنون الجميلة بدمشق بالتعاون مع الاتحاد العام النسائي عام ١٩٧٥ ، ومعرض «الفنانات (ليلى نصير، أسما فيومي، غريتا علواني، شلبية إبراهيم)» بتنظيم القسم الثقافي البلغاري في دمشق و نقابة الفنون الجميلة عام ١٩٨٤. كما انخرطت ليلى بالحياة النقدية وكتبت عن ذاتها وعن فنانات أخريات في دراسة بعنوان «مساهمة الفنانات السوريّات في الفن التشكيلي السوري» نُشرت ضمن إطار معرض في صالة بلدنا في عمان ١٩٩٦.
إن أحد أهم وثائق هذا الأرشيف هو «دفتر الشعر والنحت» الذي أنجزته على مدار السنوات منذ ١٩٦٩ إلى غاية ١٩٧٢. تضمّن الدفتر يوميات شعريّة وبعض القصص القصيرة والرسوم التخطيطيّة لمنحوتات. تجدر الإشارة إلى أن الرسوم ليست تصويرية لما هو مكتوب بل هي رسوم مستلقة تبرز من خلالها رؤية ليلى نصير النحتية الكلاسيكيّة للكتل، وتأثرها بنحت الحضارات المحليّة، فقد عَنيت بإبراز الكتل وقيم الظل الصريح والنور الساطع. ولقد كُتبَ شِعرها بأسلوب شعر التفعيلة (النَظم المرسل) ويُظهر نزعة رمزية بودليريّة. تذكرُ نصير مراراً العيون المفقوءة والجرذان والأسماك المنزوعة الحراشف والأزهار التي اقُتلعت بتلاتها والقبور والصمت والسواد. تبثُّ معظم أشعارها أوجاع الحياة من قصص الحب والوحدة. نقرأ فيها على سبيل المثال : «الأوراق تتساقط - عيوني مخضّبة- لبقايا زهرة..-نُتفت كلّ يوم - جرّدت - قطعة - قطعة» (٢٩ يوليو١٩٧٠) و «السمكة الصغيرة سجينة - والسماء تمطر سمكاً- لتمتلئ الحفرة - بأسماك - بلا حراشف – سطح الحفرة - التمعت - بعيون مفقوءة - وعلى الحافة نبتت - حراشف جديدة» (١١ كانون الأول١٩٧٠).
يحتوي ملفّ الصور على خمسة ملفّات فرعيّة : «سنوات الستينات»، وفيه صور شخصيّة وأخرى عامّة تتعلق بلقاءات مهنيّة ، «القاهرة-بداية الستينات» متضمناً صوراً تشهد على مراحل دراستها في القاهرة مع زملائها في المراسم ومشاغل النحت، «المعارض» يحتوي على صور بعض معارضها وليس جميعها، تظهر في معظم الصور مع الجمهور والزملاء الفنانين، «بورتريه» يتضمن صوراً شخصية لليلى نصير في مراحل عمريّة منذ العام ١٩٥٩ وحتى عام ٢٠٠٨، وأخيراً ملف «منوّعات».
رغم أهميّة هذا الأرشيف خصوصاً القصاصات الصحفية الغنيّة فكريّاً، تجدر الإشارة بأنه غير شامل، حيث أن هناك عدداً من الوثائق التي ما تزال عالقة في سوريا والتي لم يتم مسحها بعد، خصوصاً عدد من الرسائل ومواد المعارض ومسوّدات كتاباتها من القصّة القصيرة وسيناريوهات المسرح، والتي سوف نقوم بمعالجتها وإدراجها حال وصولها، وذلك بالإضافة إلى تسجيلات الفيديو التي وصلتنا ضمن الأرشيف. كنّا قد وجدنا في عدم التأخر بنشر أرشيف ليلى نصير خطوة إيجابيّة، وقد كانت رغبتنا الأساسية أن نقوم بنشره قبل وفاتها لتشهد تقديرنا لها، إلّا أنها بكل أسف غادرتنا قبل إتمام مهمتنا. نأمل أن يساهم عملنا هذا في إيفائها حقّها.