المعاصر :
تختلف تسميات التصنيفات الفنية التاريخية من ثقافة إلى أخرى، وينتمي هذا الاختلاف إلى تباين حركة الفيض الفني في كل وحدة جغرافية، كما أن هذه التسميات قد لا تتوافق تماماً مع التقسيمات التاريخية. فمثلا في فرنسا حاضنة الثورات الفنية، تُطلق تسمية التاريخ المعاصرعلى الفترة الزمنية ابتداء من عام ١٧٨٩م أي انطلاقة الثورة الفرنسية، بينما يعبّر مصطلح الفن المعاصربشكل عام عن الحقبة الممتدة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر و حتى يومنا هذا. وهكذا فإن كلمة «معاصر» قد تستخدم ببساطة كصفة لتشير إلى الموضع التاريخي ، لكنها في الحقل الفني تستخدم كتصنيف نقدي. إنّ ما يُمكن أن نسيمه معاصراً حسب الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبين : « هو ما يستطيع أن يحوّل الزمن ويضعه في علاقة مع أزمنة أخرى من خلال تقسيمه واستقرائه [1]»
المعاصر على هذا النحو هو ما يمكننا التعامل معه في وقتنا أياً كان زمن إنتاجه. لكن، يبدو تطبيق صفة المعاصر على النحت أكثر تعقيداً، بل من المهام الأشد إشكالية أمام مؤرخي ونقاد الفن اليوم. يتوالد هذا التعقيد خصوصاً ابتداء من أوائل القرن العشرين ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالثورة الواسعة والشاملة التي تتعلق بالمادة ، والتي تظهر بدورها على مستويين: أولاً على مستوى تجديد التقنيات بفضل الاختراعات التي أفضت إلى خيارات واسعة من المواد وأساليب التنفيذ، ثانياً على الصعيد الفكري المتعلق بتعريف مفهوم المادة بالنسبة للنحت، حيث كان لإعادة التفكير في المفاهيم المألوفة والتنظير فيها الأثر الأكبر على تعريف النحت ذاته.
المادة :
ما هو إذا مفهوم المادة في النحت المعاصر ؟ قد تبدو الإجابة للوهلة الأولى بديهية بما تشير إليه المادة من خامات مستخدمة في العمل، لكن حالما ننتقل لنستعرض مواد النحت المعاصر سنجد أن القضية ليست بهذه البساطة، فعدا أن لهذا اللفظ (المادة) عمقاً فلسفياً وفيزيائياً متشعباً، فإن ما نسميه مادة العمل النحتي قد اختلف في سياقه المعاصر. مع بداية القرن العشرين بات كل من الصوت والضوء والحركة والأغراض اليومية، وحتى الجسد البشري الحي، مادة للنحت المعاصر. تعني المادة بمختلف اللغات، الحسي الملموس والمرئي، هي المكون الذي يجعلنا ندرك وجود هيئة ما، جسد حي أو أجسام ساكنة. لقد برزت الفلسفة المادية التي تردّ الوجود بكليّته إلى المادة في حقب متعددة، وعلا صوتها مع الحضور المهيمن لعلم الفيزياء في الحقبة المعاصرة. لكن معنى المادة في الفن يتّخذ في بعض الأحيان صبغة روحية و فكرية مرتبطة بتاريخ وقيمة المادة بذاتها، والتحقيق في مواد النحت المعاصر يتطلب اعتبارات أخرى أكثر دقة، فلقد بدأ النحاتون المعاصرون منذ فجر القرن العشرين بالبحث عن التجديد، ووجدوا ضالتهم في ثورتهم على المواد التقليدية، أدت هذه الثورة إلى توسيع حدود النحت، كما أن مدارس وحركات فنية ثورية بمجملها قامت انطلاقاً من تغيير التفكير تجاه مواد العمل النحتي .
إنّ إنشاء العمل مرتبط بشكل وثيق بماهية مادته بغض النظر عن قيمتها المادية أو مدى مقاومتها، مثل استخدامات بيكاسو للورق كمادة للنحت ابتداء من أواخر عام ١٩١١، خصوصاً في مجموعة «الغيتار»، حيث أسست هذه الإنشاءات لتقليص الحدود بين ما يسمّى نموذجاً أوليّاً للعمل وما يصنّف كعمل فني منتهي. هذا يعني أن قبل غيتارات بيكاسو كانت البنى ثلاثية الأبعاد التي لم تصنع من المواد التقليدية المعمّرة، مثل البرونز والرخام والجص والسيراميك وغيرها تعتبر نموذجاً (ماكيت) أو دراسة، أما بعد الدراسات النقدية والتحليلية الحديثة فإن تاريخ الفن يعتبر هذه الأعمال منحوتات متكاملة، بل غاية في الأهمية لقيمتها الثورية التي ساهمت في تغيير النظرة عن النحت. كذلك الأمر فيما يتعلق بسلسلة المصنوعات الجاهزة ready-madesخاصة مارسيل دوشامب، عرض الفنان أوّلها في عام ١٩١١ في مرسمه، وكانت عبارة عن عجلة دراجة قدّمها دون أي تدخل سوى تثبيتها على حامل يسمح لها بالدوران عند وجود المسبب، أراد بها عملاً ينحو نحو الخروج من التصنيفات التخصصية كنحت أو تصوير. لكن التعريف الحديث للنحت المعاصر عاد ليشمل مثل هذه التجارب، فالعديد من المؤرخين يعتبرون اليوم أن النحت المعاصر يشمل «كل ما هو ثلاثي الأبعاد» . إنّ الرجوع لتعريف بهذه البداهة والشمولية يسمح بتصويب مسار التفرعات الجديدة في الفن التشكيلي، وقد لا يعني هذا أي تقييد أو تغيير بالنسبة لمنتِج العمل الفني أي الفنان، إنما من شأن هذا التحديد أن يوضح الأساليب والأدوات النقدية. ويجب القول أن هذين المثالين المطروحين عن بيكاسو ودوشامب، قد ساهما بشكل واسع في تغيير النظرة إلى المادة، سواء كمفهوم أو كبنية فيزيائية، وذلك من خلال إثارة التساؤل حول علاقة المادة بالزمن، لأن العامل الأساسي الذي كان يعيق التحرر من المواد التقليدية بالفعل هو الخشية من اندثار العمل و فنائه، أي الخوف من تأثيرات الزمن على المادة. بمعنى آخر، إنّ المادة بشكل مجرّد لا تنطوي على آلية تدمير ذاتي، لكنّ مرور الزمن هو ما يجعلها تنتهي إلى التلف في حالة المواد الحساسة، أو ما يمكننا أن نطلق عليه «المواد الهشة» مثل الورق والصلصال غير المشوي.
المادة في النحت السوري المعاصر :
تهتم إذا هذه الإضاءة التي نحن بصددها بالنحت المعاصر ومواده المتعددة التي أغنت أساليبه، ونودّ التطرق خصوصاً إلى المشهد التشكيلي السوري المعاصر بالارتكاز إلى عدد من التجارب نستحضرها على سبيل المثال لا الحصر. شهد مجموع حراك الفن السوري بكافة اختصاصاته نقلة توسعية غير مسبوقة مع بداية الثورة السورية ابتداء من عام ٢٠١١، و يشكل الاستخدام المُجدّد للمواد في النحت أحد الملامح البارزة في هذا السياق. يتجلّى هذا النضوج خصوصاً لدى جيل الفنانين الشباب الذين اضطرتهم الحرب للانتقال والتوزع في بلدان مختلفة. لابد من الإشارة أولاً إلى أنّ نظرتهم إلى المادة خامة العمل قد تأثرت بشكل واضح بالأحداث العنيفة وصور الدمار والأنقاض، فنراها مرات بصورة واضحة فجة تماما كفجاجة مطحنة الحرب كما عند النحات خالد ضوا في عمله «هنا قلبي»، نفذّه الفنان بالصلصال، تاركاً لهشاشة ما بعد الجفاف الحصة الأكبر للتعبير عن فكرة الدمار، مع إدخال عناصر عديدة من قطع خشبية ومعدنية تستحضر نتف من ذاكرته الفردية و الذاكرة السورية الجماعية أيضاً. كان ضوا قد خصّص سلسلة من الأعمال النحتية «للديكتاتور»، شخصية ذات كتلة ثقيلة وجسد بنسب ضخمة تبدو أشد وطأة في النسخ البرونزية، رغم أن معظمها منخور بحفر كأن الجسد قد تعرض للرشق والتخريق. نرى أيضاً هذا التماهي بين مادة العمل و موضوعه في أعمال النحات محمد عمران، ففي مجموعته «انتظار»، مجموعة من اثني عشر شخص من نساء ورجال يجلسون بوضعية ساكنة صامتة بعيون مغلّفة تماماً بالنظارات، يستخدم عمران مادة الريزين، ويتعمّد عدم تجميلها بالأصبغة محافظاً على إيحائها البلاستيكي المتجمد تماماً كما هو مراد من الشخصيات القابعة قيد الانتظار في العمل. ننتقل أيضاً لأعمال النحات علاء أبو شاهين، فبعد مراحل من التجريب بالمعدن والبرونز والمواد المختلطة، يتفرّد اليوم بصياغة رؤوس بشرية وأجساد حيوانية باستخدام الورق، والملفت هنا أن هذا التوظيف للورق أصيل مولود مع الفكرة، على غير ما نرى في كثير من الأحيان في النحت عند تنفيذ العمل بمادة طيّعة أولاً ثم صبّه لاحقاً بمواد أكثر صلابة و مقاومة . يبرز أمام الفنان أبو شاهين إذاً التحدي التقني بالإضافة إلى الرهان التعبيري، فإن إنشاء كتلة ثلاثية الأبعاد باستخدام الورق عملية معقدة ، وإذا ينجح الفنان بالقيام بهذه المهمّة فإنه أيضاً يستنهض روح الورق من خلال كتابات و رسوم وخطوط بقلم الحبر ، تذكر دائماً بالقيمة الذاكراتية للورق، فهذه المادة تحمل بذاتها عمقا تاريخياً و ارتباطاً وثيقاً بحياة الإنسان اليومية مما يغني التعبير و المشهد البصري معاً. في تجربة سورية شابة أخرى يختبر النحات يامن يوسف بمتعة بحثية العديد من الخامات، كأنه يقلّب احتمالات اللغة البصرية، يفتش بين البرونز والخشب والريزين عن صياغة للجسد البشري الأنثوي، أكثر هذه الخيارات جرأة وتميزاً مجموعة من الأعمال بالطين المشوي غير المطلي، عبارة عن أجساد «مُشرنقة» محضونة بلفافة من الخيطان الصوفية البيضاء تبرز فيها جمالية التضاد بين ليونة ودفء الخيوط مع قساوة وجفاف الطين الخامد.
المصوّر نحاتاً :
وهكذا فإن قيمة التجريب تكمن فيما ينشأ من احتمالات غير مألوفة، ونرى أن هذه النزعة التجريبية، تبلغ مثلا لدى الفنان فادي يازجي، أحد أبرز أسماء الجيل الأسبق، جماليات فريدة . يستهويه الطين المشوي في عدة مجموعات، ويقوم بإخراج القطع بتقديمها مرة مع الخشب ومرة أخرى مع المعدن، أو حتى يؤطرها بصندوق زجاجي مؤكداً على هشاشة ورهافة المادة رغم مظهرها الصلب المتماسك. ثم أن يازجي ينزع نحو حرية أكبر في عدد من الأعمال يرسم فيها بالأصبغة اللونية على أرغفة خبز مدورة مثبّتة بشكل نافر على قماش لوحة. ويجب القول أن نتاج فادي يازجي في النحت يحمل ملامح عمله التصويري، بشكل يحرر المنحوتة ويصبغها بالتالي بهوية لغته التصويرية، نرى ذلك على سبيل المثال بوضوح في أعمال النحت البارز لديه، كأنه ينقل شخصيات لوحته إلى الفضاء ثلاثي الأبعاد. هذه الآلية التي تنقل التمثيلات المصوّرة في اللوحة إلى عمل نحتي، ليست بغريبة، حتى أن بعض النحاتين قاموا بهذا التحويل مستلهمين من لوحات فنان آخر، مثلما فعل النحات الفرنسي سيزار رائد المدرسة الواقعية الجديدة «Nouveau réalisme» الذي قدّم في معرضه «تحية إلى موراندي» عام ١٩٨٩صياغة مماثلة لأباريق الفنان الإيطالي جيورجيو موراندي بمنحوتات تحاكي النموذج المرسوم. إنّ هذا الجنس الفني المتوالد من خلط النحت بالتصوير يتجلّى إذا في حالتين : الأولى هي التعامل مع المنحوتة بأدوات الرسام المصوّر والثانية هي تحجيم اللوحة. ومثال على هذه الحالة الثانية تجربة الفنان ثائر هلال، حيث يركّب في أحد أعماله خريطة العالم بحجم ضخم من خلال رصف عدد كبير من حبات الخرز اللؤلؤية ومجسّمات لتماسيح بلاستيكية ملوّنة هي في الأساس ألعاب للأطفال، لتكون النتيجة بصرياً متأرجحة بين النحت النافر واللوحة. وفي حين يقوم إذا بعض الفنانين بإدخال عناصر من الحياة اليومية في عملهم فإن البعض الآخر، مثل ولاء دكاك، يقوم بالعملية بشكل معاكس. تستحوذ « العين » منذ عدة سنوات على عمله، تملأ فضاء لوحاته، تتراكب وتتداخل وتراقب بنظرة تثير الريبة، لدرجة أنها تنتقل لعناصر حياته اليومية، يحفرها وينقشها على زجاج أو معادن الإنارة، على الخزائن، على الشمعدانات، للضوء فيها دور لا يمكن الإستغناء عنه لإبراز الحركة الوهمية للعيون. إنه هذه العيون هاجسه وهذا ما جعلها تتحول للتجسيم عبر منحوتات تحاكي أشياء البيئة المكانية المعاشة أي أن الموضوع هو ما قاده للانتقال من اللوحة إلى العمل ثلاثي الأبعاد.
إن العلاقة بين النحت والتصوير لطالما كانت خلّاقة، كما أنها مصدرَ تجديد للطرفين خصوصاً في الحقبة المعاصرة، فلقد أنجبت نوعاً فريداً من التحرر في التفكير بخامات العمل. مثالها المبكّر ما قام به الفنان جورج براك في عمله« Sculpture de coin- Nature morte» وهي منحوتة تنتمي حسب سماتها الأسلوبية إلى المدرسة التكعيبية، مصنوعة من الورق والورق المقوّى، لم تعد موجودة اليوم لكنها على الأرجح، حسب الوثائق المكتوبة، من إنتاج عام ١٩١١. يتحدث براك في رسالة يوجهها لزميله بيكاسو عن هذا العمل، بأنه أراد أن يطوّر من خلاله العمليات والتطبيقات التصويرية ( picturales) المتعلقة بعملهما في التكعيبية، شارحاً أنه قد شعرَ بحاجة لتأمّل الحجم والسطوح بشكل واقعي وبمجسّم ثلاثي الأبعاد حتى يتمكن من تمثيلها في اللوحة ثنائية الأبعاد. وهكذا أنشأ براك المصوّر دون أن يقصد تماماً أول منحوتة ورقية، ثم كان لبيكاسو لاحقاً دوراً أكبر في تطوير هذه التجربة بعمله على الغيتارات الورقية. ونستحضر من المشهد التشكيلي السوري المعاصر تجربة المصوّر الرسام وليد المصري في النحت. في مجموعة « فيل»، تجسيمات خزفية تتراوح بين قياسات ضخمة تصل المتر و أخرى دقيقة الحجم لا تتجاوز بضعة سنتيمترات ، يحوّر فيها الفنان المفهوم التقليدي عن المنحوتة الخزفية و في الوقت ذاته عن هذا الكائن الهائل . يقوم المصري أحياناً بتقطيع الشكل و تجزيئه ، أو يقدّمه بجرأة بتشققات و تكسّرات تبدو كأنها تغيرات تعبيرية أصابت هذا الجسد ذو الكتلة الهائلة بشكل طارئ، وفي أحيان أخرى يغطي كتلة الجسد بكتابات مشغولة بالأحبار تحيلنا وهمياً إلى الورق رغم الاختلاف الشكلي الكبير بين المادتين.
نزعة لتحرر أوسع :
إننا في الحقيقة عند التفكير في الأجيال الأسبق من النحاتين السوريين نلمس لدى الأسماء البارزة مثل النحات لطفي الرمحين جرأة في التنقل بين مادة وأخرى من معدن وخشب ورخام و بازلت، و كذلك الأمر بالنسبة للنحات عاصم باشا في أعماله المعدنية والخزفية والجصية والبرونزية، لكننا نستشعر غالباً حذراً في التعامل مع كل مادة بوحدتها، في حين أن رغبة التشكيليين السوريين الشباب في تجديد أدوات التعبير و مواد العمل تصل إلى توجّه بعضهم لوسائط أخرى ، مثلما فعلت الفنانة رندة مداح عندما انتقلت بالفعل الفني من النحت والعمل التركيبي إلى الفيديو، وتجدر الإشارة إلى أنها احتفظت بحساسيتها للمادة، خصوصاً استخدام عناصر من الحياة اليومية كجزء من العمل، مثل المرايا في فيديو «أفق خفيف» والجدار المتآكل في فيديو « ترميم » وهذا الأخير أتى كجزء من مشروعها الذي يحمل العنوان ذاته. تسعى في هذا المشروع للتأكيد على جمالية العناصر التي وجدتها كما هي دون تنميق، وهي عناصر تحمل بقايا ذكريات لحياة سكان قرية «عين فيت» في الجولان السوري بعد أن استحالت إلى أنقاض على يد الاحتلال، تغرس رندة كل عنصر في لوح إسمنتي وتبني منها تركيباً جدارياً من ستة عشر لوح ستحمل التعبير من دون أي تكلف بصري. وإذا تعمقنا في هذا التنقل بين وسائط التعبير، سنجده في الحقيقة أحد سمات النحت المعاصر . في كتاب «النحت المعاصر» يقول المؤرخ الفني بول لويس رينوي: « يمتلك النحت المعاصر على وجه الخصوص روابطاً مع الفنون الأخرى من شأنها أن تنتج أجناس هجينة ومتعددة، مثل السينما- النحت، النحت الصوتي، التصوير الفوتوغرافي كنحت، التركيب، الرقص، الأداء، والمنحوتات الأثاثية[2].»
كما يأخذ التحرر في التشكيل السوري شكلاً آخر، يتمثّل في تجديد الرؤية لمعنى النحت. نقرأ هذه الرؤية بوضوح في عمل «الديموقراطية المؤجلة - postponed democracy» لعبد الكريم مجدل بيك، يستخدم فيه عدد كبير من النسخ ليد بشرية مرصوفة في حلزون ضخم يقارب قطره الثلاثة أمتار، سباباتها مطلية كل مرّة بلون مغاير، يقوم هو بتعديل نسخة اليد من خلال اقتطاعها حتى تتضائل وتختفي في ذيل الحلزون مشيراً إلى اختفاء قدرة الأصابع على التعبير. إذا تظهر هنا أهمية الفكرة والتنفيذ أشد ضرورة من القيام بعملية نحت اليد ذاتها.
نستحضر أخيراً موقفاً من تاريخ الفن السوري المعاصر للفنان الراحل نذير نبعة، عندما قرر عام ٢٠٠٣ عرض تجربته الأخيرة « تجليّات» في غاليري أتاسي في دمشق. هو الذي عهدناه يصوّر المرأة في معظم لوحاته، مشيراً رمزياً إلى معانٍ متعددة عن الوطن والمقاومة والتراث والقصص المتخيّلة والحالمة بتدرجات لونية متآلفة، ينتقل بكل جرأة لينحت ملامح جغرافيا المكان بطبقات من الجص على سطح لوحته مبتعداً عن التشخيص والرسم. بدت نقلة ثورية تجاه ذاته بالدرجة الأولى وعبّرت عن رغبة عميقة في التحرر والتغيير. تحدّث أمام عدد من طلابه عندما كان ما يزال يعمل كمشرف في كلية الفنون الجميلة بدمشق، واصفاً الأثر العميق لصخور وأشجار القلمون ومعلولا المهيبة، هذا ما دفعه لتسجيل الأثر البصري في مجموعة «التجليات» ، مع إصراره ألا يُصنّف عمله تجريداً بل هو بالنسبة له تأمل عميق في الطبيعة. ربما أن هذا التحرر الأصيل هو أكثر ما نحتاج اليوم، نحتاج للعودة عميقاً إلى الذات، لأن كل فنان لن يشبه إلّا تجربته الذاتية وهذه الخصوصية هي ما يخلق التفرّد الذي يضاهي وينافس التجارب الأخرى على المستوى العالمي.
[1]Giorgio Agamben, Qu’est ce que le contemporain ?, traduction de Maxime Rovere , Paris, Payot et Rivages, 2008. p.39
[2]Paul louis Rinuy , la sculpture contemporaine,Presses Universitaires Vincennes, 2018. p.7