وُلدت رندا مدّاح، فنانة الوسائط المتعددة، في مرتفعات الجولان في العام ١٩٨٣. تتناول في أعمالها أفكار الزمان والمكان، النزوح والذاكرة. وهي هنا تشاركنا آراءها في أعمالها الرئيسية حتى يومنا هذا، بالإضافة لتوجهات جديدة برزت خلال إقامتها الحالية في المدينة العالمية للفنون في باريس.
الموضوع الذي شغلني في العقد الفائت كان الزمان والمكان: بين النزوح والنزاع، كيف تؤثر علينا مفاهيم الزمان والمكان المتحوّلة؟ وما هي تداعياتها؟
لذلك، أنا أعمل عبر وسائط متعددة من ضمنها النحت والرسم والفيديو. وفي النهاية، يحدّد الموضوع بحد ذاته الوسيلة التي سوف أستخدمها لإنجاز عمل معيّن، لكن هذه الوسائط الثلاثة معاً تكمّل بعضها البعض في تشكيل الأفكار والنماذج.
عندما أعمل في النحت مثلاً، تُشغلني المساحة المحيطة بالعمل بقدر ما يُشغلني شكل العمل. وهذا ما يدفعني إلى خلقِ شيءٍ "مركّب". لذا، فعندما أعمل في التصوير او الأفلام، أحاول أن أجمع/أدمج الصور من أجل التعبير عن شكلٍ معين أو فكرةٍ ما. يمكن تسمية هذا الشيء بالمساحة النحتية (أو نحت قلّة تلك المساحة) من خلال وسائط مختلفة.
وهكذا إنشغلت بالزمان والمكان. المكان الأول كان دمشق، والزمان كان لحظة الانفصال عنها. كان ذلك في العام ٢٠٠٦ وكنت قد انتهيت للتو من دراستي. ومثلُ جميع الطلاب الآتين من الجولان (حيث وُلدت)، فقد اضطررتُ للعودة إلى مرتفعات الجولان المحتلة. عندها بدأت تتكون أولى تساؤلاتي حول معنى الحدود والجدران. أعتقد أن عملية التفكير أتت في مرحلة متأخرة نوعاً ما في حياتي إذ أنني ولدتُ في ظل الاحتلال وعشتُ دائماً داخل هذه "الجدران". لم أكن قد رأيت الجدران فعلياً إلا عندما تركتها ورأيتها من الخارج.
المرة الثانية كانت في فلسطين في العام ٢٠٠٧. بُنِي الجدار وقُطِعت أوصال القدس. الهرب من ذاك الألم كان مستحيلاً: فأينما استدرتَ تراه في وجوه الناس وحياتهم اليومية. رغبتُ أن أعكسُ ذلك الألم من خلال موضوع الجسد. وجد كل هذا العذاب طريقه إلى أعمالي وفي العام ٢٠٠٨ قمتُ بإنتاج "مسرح الدمى" بشخصياته المشوّهة المتهالكة، تمشياً مع توالي الأحداث في فلسطين. شعرتُ كأنني إبنة ذلك المكان وتلك التجربة. كان من الصعب جداً الانفصال عن ذلك الواقع، تماماً مثل الانفصال عن سنواتٍ من القتل المتواصل والظلم والنزوح القسري للسوريين. ومن ثم، تحوّل ما بدأ في "مسرح الدمى" إلى "ربطة شعر" في العام ٢٠١٦، والذي أعتبرُه شيئاً يشبه الإرث الوحشي لواقعٍ عنيف ومستمر.
أسأل نفسي، هل يمكن على الإطلاق محو الدمار؟ هل باستطاعة أعمال الترميم إزالة آثار الدمار؟ كان الفيديو" أفق خفيف"، الذي صوّرته في العام ٢٠١٢، محاولةً لتذكيرنا بحكايات أولئك الذين أرغموا على النزوح من قراهم في منطقة الجولان السورية (المحتلة منذ العام ١٩٦٧). أما العمل الدنيوي لمحاولة خلق "نظام" (تنظيف بيتٍ مهجور ومدمّر) فقد كان محاولة مني لاسترجاع ذاكرة الماضي. كيف تسترجع شيئاً من الذاكرة بعد أن تغيّر المكان فعلياً كما تغيّرت حياة سكانّه وحتى لغتهم؟ تم إنتاج ذلك الفيديو في وقتٍ كان النزوح والدمار في سوريا يتصاعدان، ومع ذلك فهو لا يخلو كلياً من الأمل؛ بل يسعى لاستعادة روح المكان بواسطة الذاكرة وينطوي على فكرة أنه قد يكون هنالك أمل بالعودة.
في الآونة الأخيرة، يركّز فيديو "قيد النظر" (٢٠١٧) أكثر على وضع سكان الجولان اليوم. في هذا الفيديو، تتدلى شظايا مجزّأة من المرايا بخفّةٍ في إطار نافذة مفتوحة، تتوهّج فيها الصوَر والأضواء: لقد أردتُ أن أحوّل نقطتَي المراقبة على كل جانب من الحدود إلى نقطة واحدة – أي حيث كنتُ أقف. وبالطبع، تعكس هاتان النقطتان كل التفاصيل اليومية الصغيرة والفوضى التي تحيط بالحياة في ذلك المكان.
وماذا عنّي أنا الآن؟ قد بدأت إقامة في باريس. أرغب في الاستفادة من هذه التجربة لاستكشاف وسائط وأشكال جديدة من التعبير. أرى كيف تتغيّر الذاكرة كما تتغير علاقتها بالمكان. أودّ أن أكتشف كيف يحدث الدمار وكيف تغيّر الحدود والجدران والحواجز ليس فقط الخرائط بل أيضاً حياة ولغة السكان. أريد أن أركّز على الموضوع أكثر من أي وقت آخر، أن أستخدم أبسط الوسائط والحد الأدنى منها للتعبير عن فكرة. أعمل حالياً على مجموعة عنوانها " ترميم" تجمع بين الفيديو، النحت والتصوير. أحاول الحصول على تمويل لهذا العمل وإيجاد مكانٍ لعرضِه. كما أنني سأشارك في معرضين في ميتز وروان في شهر حزيران. وسوف أشترك في شهر تشرين الأول في مهرجان قلنديا الدولي في فلسطين.