ليلى نصير، من مواليد العام ١٩٤١، هي إحدى أفضل وأشهر الفنانين في سوريا بفضلِ مسيرتها الفنية الشمولية وإتقانها الماهر لأساليب مختلفة منها الواقعية، السريالية والتعبيرية. الصداقة بين ليلى نصير والشاعر الفنان منذر المصري قديمة جداً وقد إلتقيا للمرة الأولى، منذ عدة عقود، في مركز الفنون الجميلة. سمحت هذه الصداقة الطويلة الأمد لمنذر المصري بإجراء مقابلة، غير مسبوقة بصراحتها وأمانتها - أحياناً مؤثّرة وأحياناً مؤلمة - مع ليلى نصير أثناء زيارته لها في منزلها في اللاذقية. ليلى نصير الان في السبعينيات من العمر وحالتها الصحية متدهورة.
في كل مرة تريد أن تزور ليلى نصير عليك مسبقاً أن تتصل بها مرات عديدة، وربما أحياناً يستحيل ذلك، لأنه نادر جداً ما تنتبه ليلى البالغة من العمر /٧٧/ عاماً، للاتصالات على هاتفها النقال، كما يجب أن تبقي الهاتف الأرضي يرن طويلاً حتى تتمكن أولاً من سماعه، وثانياً من القيام عن سريرها مقابل جهاز التلفزيون الشغال دائماً وقطع مسافة العشرة أمتار التي تفصلها عنه حتى تتمكن من الوصول إليه ورفع السماعة. وذلك لتتفق معها على أن تنتظرك في ساعة محددة بل في دقيقة محددة، لترمي لك من فتحة الدرج مفتاح الباب الجانبي لسينما الأهرام المغلقة منذ عقدين من السنين، أو لتتركه لك موارباً لتصعد /٦٠/ درجة إلى بيتها في الطابق الثالث المطل من جهته الشمالية على شارع المالكي، شارع السينمات والذهب وباعة الساعات، ومن الجهة الجنوبية على سطح واسع تحتله أنابيب التهوية الكبيرة لصالة السينما.
ها أنذا أصعد الدرجات الستين، مفكراً كيف يمكن ليلى نصير وهي على هذه الحال، من نزولها وصعودها في كل مرة تخرج من البيت، فهي لفترة قريبة ما زالت تفعل، تخرج بعصاها وتشتري ما تحتاجه من خضار وفاكهة و..صحف محلية، تحتاجها لتتسلى بحل الكلمات المقاطعة. وها أنذا أعبر الممر الضيق الطويل المؤدي لباب بيتها، لا أدري كم مرة فعلت، ولا أدري كم مرة سأفعل في المستقبل، ما أخشاه ألا تكون كثيرة. فأنظر إلى ذلك السطح الواسع لصالة السينما، الذي تتقاطع عليه أنابيب التهوية الكبيرة. وأرى، من خلال الشبك المعدني ليلى نصير تنشر وتلم غسيلها.
أناديها لكي تفتح لي.. أناديها مرات عديدة، وفي كل مرة أرفع صوتي حتى تسمع.
ألصق على الباب لافتة ورقية كتب عليها (ليلى نصير)، بالقرب منها أوراق بيضاء صغيرة يتدلى منه خيط طويل نسبياً ربط طرفه بقلم رصاص، ليكتب عليه، الذين يزورونها دوم موعد ولا يجدنوها، أسماءهم وتواريخ قدومهم. يوماً لم أقرأ عليه اسم شخص ما، رغم تعدد زياراتي خلال هذه السبع سنين.
شبح ليلى نصير.. هو من يفتح لك. ليلى نصير التي تعرفها منذ أن كنت طالباً في مركز الفنون التشكيلية، ثم وأنت تلتقيها في دمشق خلال معرض خاص لها، أو معرض جماعي تشارك به، تلك المرأة المميزة شكلاً ومضموناً ببشرتها الشديدة البياض وشعرها القصير الأقرب للاحمرار، التي ربما أول من ارتدت بنطالاً وجلست في مقهى الروضة في دمشق، المتمردة الثائرة اجتماعياً وفنياً ليست هي ليلى نصير الآن، التي لا يتجاوز وزنها الآن /٣٥/ كيلو غراماً، والتي ما إن تجلس أمامك حتى تبدأ بشرح مسهب لوضعها الصحي المتردي، /١٢/ أزمة قلبية، /٤/ جلطات دماغية، سكري، ارتفاع وانخفاض ضغط الدم، ورم أطراف، تخرج لك يديها لتريك انتفاخ رسغيها واصابعها، ولا مانع لديها أن تأخذ صوراً، لا بل تطلب منك أن تفعل، لأنه بهاتين اليدين ما زالت ترسم: "انظر إلى رسومي الأخيرة.. أليست رائعة؟". لتخبرك للمرة الثالثة هذه الجلسة، وللمرة المئة في الجلسات السابقة وفي المحادثات الهاتفية، أنه لولا قدرتها على معالجة نفسها بنفسها، بالخبرة التي اكتسبتها بصراعها مع أمراضها: "لمتّ منذ خمس سنين على الأقل" تقول.
تعمّ البيت حالة فوضى عارمة، كتب وصفحات جرائد ومسودات رسوم وعلب أقلام رصاص وفحم، وأنابيب تلوين جديدة ومستعملة تختلط مع بعضها وتتكوم في كل مكان، الصور العائلية بالأسود والأبيض واللوحات القديمة معلقة على الجدران، لوحتي الأخت والأب.. أما الجديدة فمسنودة على ظهور الكنبات. تسألك، وتلحّ، ما إذا ترغب في أن تشرب شيئاً، قهوة، شاي، نسكافيه مع الحليب؟ أو إن كنت جائعاً فهناك صينية بطاطا مع الدجاج في الفرن؟ أو على الأقل خذ شيئاً من البيتيفور أو الشوكلا من أمامك على الطاولة، فأنت تحب الحلويات، حسبما أعلم.
قلت ليلى نصير ما عادت ليلى نصير، ولكن مهلاً، لا يمكن لهذا أن يكون صحيحاً، اقرأ ما سيأتي واحكم بنفسك.
- ليلى.. ما أرغب به الآن هو إجراء مقابلة معك، كما سمعتني أتكلم منذ دقيقة مع فادي يازجي، السيدة منى أتاسي، صاحبة صالة (الأتاسي) في دمشق، وهي الآن في الإمارات، لديها مشروع توثيقي أو موسوعي عن بعض الفنانات التشكيليات السوريات، لا أدري بدقة، وشيء كهذا لا يمكن إلا أن تكوني حاضرة فيه.
+ ولكن لماذا لا يتكلمون معي مباشرة؟
أتصل بفادي وأعطيها هاتفي النقال لتتكلم معه. تتغير لهجتها مظهرة له الكثير من المودة. فلطالما سمعتها تمتدح تجربته. وبدوره، كما أعلم، يعتبرها من أهم مؤثراته. وكان هو من عرف السيد خالد السماوي صاحب صالة (أيام) بها، فكان أن أعد لها في عام /٢٠٠٨/ معرضاً استعادياً كبيراً لأعمالها، مرفقاً به إصدار أهم كتاب عنها. رغم أنه يفتقد أي معلومة توثيقية عنها أو عن تاريخها الفني الحافل. بينما تبدوا وكأنها لا تتذكر السيدة منى الأتاسي إلاّ بصعوبة!؟ تقول إنها الآن في حالة تشوش كاملة، ولا ريب ستتذكرها لاحقاً. أفهم من هذا، أنها تحمل غصّة ما.
منذر: يكتب دائماً أنك ولدت في (اللاذقية)، ولكن على حد علمي أن بيتكم كان في مدينة (الحفة) شمال شرق اللاذقية.. ثم أنكم تنقلتم بحكم وظيفة أبيك من قرية لقرية.. أتذكرين سنة انتقال أهلك إلى اللاذقية؟
ليلى: لا أذكر.. كنت طفلة، وقد مضى زمن طويل على ذلك، وأنا الآن على عتبة الرحيل.
منذر: هل كان في نشأتك ما له علاقة بالرسم؟
ليلى: طبعاً.. أمي. أمي (وديعة رباحية) كانت تحب (برنارد شو) و(مارك توين) واللبناني... (جبران خليل جبران) و (طه حسين).. وكانت لها ميول فنية، تعرف قليلاً الفرنسية، بينما أبي
(موسى نصير) لم يكن له أي علاقة بالأدب والفن.
منذر: أكان لديكم مكتبة؟ من كان يشتري ويحضر الكتب؟
ليلى: لا أعرف من؟ ربما أبوها؟ ولكن لا... أما أبي فكان مدير ناحية (راجو) التي كانت منطقة أكراد، ثم صار قائم مقام ربما في (سلقين) وبعدها في (صلنفة) حيث كان يزورنا الشاعر (بدوي الجبل) ويلعب مع أبي (الضامة).. كما كان لدينا صديق عائلة لبناني معروف، لا أذكر اسمه، يدخل بيتنا كثيراً، يحب الأدب، ربما كان هو من أحضر بعض الكتب، وكان له تأثير ما. كان لدينا
كتب شيوعية، أخي جوزيف كان يسارياً.
منذر: قبل سفرك لمصر ودخولك كلية الفنون الجميلة في القاهرة، هل كنت ترسمين.. هل كنت تأخذين فكرة أن تصيري رسامة بجدية؟
ليلى: من صغري كنت أرسم، رسمت أخوتي وعمري /١٤/ سنة. كان حلمي أن أكون كمايكل آنجلو وفان كوخ.. كما أنني كتبت شعراً عاطفياً وقصصاً، وقتها حدث أن أحببت شاباً واستوحيت منه قصة. بعدها كتبت قصصاً كثيرة، ساعدتني أنت بنشر بعضها في صحيفة (السفير). كانت
تصلح أن تجمع وتصدر في كتاب خاص.
منذر: سافرت لمصر في بعثة حكومية.. في أي سنة؟
ليلى: نعم بعثة حكومية، ولا أذكر السنة، ولكن إذا عرفت سنة تخرجي تعرف سنة سفري. سافرت بعد نيلي شهادة الباكالوريا من اللاذقية، أي في عمر الثامنة عشرة تقريباً. بالنسبة لتاريخ ولادتي فهو سنة /١٩٤١/ أو /١٩٤٠/، لأنه كان هناك أخت لي اسمها ليلى ماتت، فأسموني عندما ولدت على اسمها، وصححوا تاريخ ميلاد لاحقاً. لدي أربعة أخوة وثلاث أخوات.
في مصر أجروا لي امتحاناً، وضعوا لي تمثالاً وقالوا لي ارسميه.. ولما سألتهم : "كيف؟". أجابوني: ""كما هو. ثم صاحوا بي: "لماذا جئتِ إلى كلية الفنون إذا كنت لا تعرفين كيف ترسمي!؟. لكن أحدهم، وكان شاباً، يبدو وكأنه أحبني، ولهف قلبه علي! فرغب بمساعدتي، قال لي: "امسكي الحوّار هكذا وارسمي، ارسمي كما ترين، على مهلك". علمني بعض الأشياء وتركني وحدي أرسم في غرفة الأساتذة! بعدها جاء (حسين بيكار) وقال لي: "أنت لا تعرفين كيف ترسمي، ولكنك موهوبة". نعم (نكش) أنني موهوبة.
منذر: ومن كان الأستاذ الشاب الذي ساعدك؟
ليلى: (....عمار)؟ هكذا أذكر اسمه (عمار)، صار فناناً شهيراً.
منذر: من كانوا بقية أساتذتك في مصر؟
ليلى: (عز الدين حمودة) أشهر من رسم البورتريه. و(حسين بيكار) رئيس القسم. وأستاذي (عبد السلام الشريف) مدرس مادة التصميم، الذي أحبني كثيراً ووقف بجانبي حتى إنه دعاني لزيارته في بيت عائلته بالقرب من الإهرامات، وقد ترك تأثيراً كبيراً في تجربتي.. كنت صديقة لهم جميعاً وكنت أزورهم في بيوتهم. وهناك (مختار) أبو النحت، ولكن لا أذكر الآن مدى معرفتي الشخصية به، ربما أذكر لاحقاً.
منذر: لا بأس، لا تهتمي، ربما أتصل بك هاتفياً وأسألك إذا اقتضت الحاجة. وماذا عن زملائك من الطلبة السوريين في الكلية؟
ليلى: (خالد مز) قدم قبلي للكلية، وكذلك (الياس زيات) وبعدهما جاء (نذير نبعة)، و(ممتاز بحرة) رسام الأطفال الأول في سوريا، والذي رسم مواضيع تطير العقل، ولا تنسى (ممدوح قشلان) ولم نكن أصحاباً بسبب طريقته بالتعامل مع الطلاب السوريين هناك، وكان لي زميلة سورية اسمها (ربيعة الصلح) التي أحبت (نبيل...) مهندساً مصرياً وتزوجته، وأهملت الفن.
منذر: كم سنة بقيت في مصر؟
ليلى: أربع سنوات أو خمس. وفي نهاية دراستي عرضوا علي البقاء والالتحاق بمركز بالأقصر، أعيش وأدرس دورات، فذهبت فترة قصيرة ولم استطع الاستمرار، كانت العقارب تسرح بين الأقدام!. ثم أني كنت قادمة في بعثة حكومية، ومحتم رجوعي.
منذر: ألا تعتبرين أنتم.. الرسامين السوريين الذين درسوا في مصر هم من أسسوا للحركة التشكيلة الحديثة في سوريا؟
ليلى: كان هناك قبلنا رسامون درس أغلبهم في ايطاليا، أدهم ونعيم اسماعيل ونصير شورى ومحمود حماد وفاتح مدرس ولؤي كيالي، كانوا روداً.. ولكن نعم الذين درسوا في مصر عملوا النهضة.
منذر: وكيف كانت علاقتك الفنية بهم؟
ليلى: عموماً كانت جيدة، اصطدمت ببعضهم وصادقت بعضهم، لؤي كيالي كان مختلفاً عن الجميع، التقيته في افتتاح أحد معرض الخريف في حلب، وكان قد حذرني منه البعض وأخبروني أنه مجنون، لكننا رفضت ذلك، وجلست معه في مقهى المثقفين، أمام الجميع، وتحدثنا وتناقشنا بكل تقدير واحترام. (يا محلاه) ولكني شعرت بأنه ضحية الآخرين، الذين كانوا يستغلونه. وعندما علمت بأنه في مشفى حرستا بدمشق نتيجة تعرضه للحرق، ذهبت برفقة صديق، وهناك رأيته يتألم ويغير وضعيته متململاً ولكن ما إن دخلت حتى بدأ وكأنه لا يعاني من شيء، كرامته لا تسمح له بإظهار ضعفه: "أهلا وسهلا ليلى". قال لي وكان جسده المحترق مغطى كله ما عدا رأسه.
منذر: كنت فتاة جميلة وأحبك كثيرون، ولكنك لم ترتبطي بأحد.
ليلى: في مصر أحبني كثيرون ولحقوا بي كثيرون، كنت صبية ذات بشرة بيضاء وشعر أحمر طيل يصل للساعد، ولم يكن هناك من لديها شعر أحمر، جننتهم جننتهم ولكنهم جننوني بعد ذلك. كنت حلوة وبريئة. وفي سوريا أيضاً أحبني العديدون، وأحببت بعضهم، ولكن لم يكن هناك من يستحق أن أرتبط معه للنهاية، كانوا يأخذون اسمي ويجعلونني أمشي خلفهم. ثم تعرضت لحالة تسمم ومحاولة خطف، كل ذلك جعلني أرفض جو الفنانين وأعزل نفسي.
منذر: بعد عودتك لمصر، ماذا عملت؟
ليلى: درَّست في بادئ الأمر في اللاذقية حيث أقمت أول معرض لي /١٩٧٠/. لكني ما لبثت أن تقدمت باستقالتي وذهبت لدمشق، مصممة أن أكون فنانة تشكيلية. مما أغضب أبي وأخوتي. هناك رحت عملت في في مدرسة التربية الفنية وأقمت معرضي الشخصي الثاني في المركز الثقافي العربي- ١٩٧٢. وكان معرضي الزيتي اليتيم، بعده تحولت للرسم باللشمع والأكرليك.
منذر: يعرف أنك كنت متمردة وثائرة على كل شيء.
ليلى: كنت أرفض قول، فنان وفنانة، ألغيت ذلك، وكنت أول امرأة في سوريا التي ارتدت البنطلون وجلست في مقهى الروضة في دمشق، وكان بنطالي ضيقاً وملتصقاً بي، عشت جريئة وبلا أي حذر.. خارجة عن المألوف في الوطن العربي كله.. كان همي أن أفتح أبواباً للآخرين.
منذر: في عام 197.. تفاعلت مع عملية سمير أميس ورسمت الفدائيين الفلسطينيين الذين قاموا بها، بعض هذه الرسوم، شخوص بالغلال، إما ملقون على الأرض، وإما يديرون ظهورهم، فتبدو أيديهم مقيدة بالسلاسل.. وفي عام 197 تكبدت القيام برحلة إلى جنوب لبنان ورسمت الأطفال وأمهات الشهداء، في حين كانت وجهة الفنانين التشكيلين السوريين هي القلمون ومعلولا.. ومن أين جاءك هذا الانتماء ومن أين أتتك هذه الجرأة الباكرة؟
ليلى: وقتها تأثرت إنسانياً بشنقهم، شبان أغرار فقراء، احتججت على عقوبتهم بهذه القسوة. رسمت العديد من الرسومات إحداها صورة خمسة شبان معلقين بلا رؤوس، كانت جرأة غير مسبوقة. أما بالنسبة لسفري مرات لجنوب اللبنان في عام ١٩٨٠ و ١٩٨٢، وفقد عمدت إلى الاتجاه لمنطقة (الشقيف) كانت أرض جرداء لا يوجد بها أحد، ما عدا المتطوعين المختبئين تحت الجبل، كنت تستطيع أن تسمع بها صوت الزرزور، ولكن بسبب قصف، طلبوا منى اللجوء إلى قوات المراقبة الدولية، بعدها هربوني إلى النبطية رغبت أن أخوض التجربة معيشياً، ولأكتشف حقيقة ما يجري، ولكني طبعاً كنت متعاطفة معهم. ورغم خوفي رسمت الكثيرين منهم، المرأة المعمرة الأولى في الوطن العربي، والمقاتل الذي جلس لا يتحرك وقد وضع بندقيته على رجليه، بعد عشر ساعات قتال، أخجلني، كانت رسمة عظيمة. كنت أريد رسم أناس لا يتاح لي رسمهم في بلدي.
منذر: ترسمين كثيراً نساء حوامل، وأطفالاً، كل نسائك حوامل، هل هذا يعبر عن رغبتك بالأمومة وافتقادك لتجربة الحمل والولادة؟
ليلى: حملت مرة.. وكان ذلك مصيبة، وأجهضت الولد، لأنني لم أكن أستطيع الزواج من شخص قريب لي.. فماذا أفعل؟!. كان عمري وقتها /٢٥/ سنة. كثيرات حولي حصل معهن هذا بسبب علاقات الحب، مما أثر بي كثيراً. بعدها صرت أهتم بالأطفال أنفسهم. حتى اليوم، كهولاء الأطفال الذين كنت أراهم ينتظرون حتى المساء إلى أن يقفل المطعم (محل الشاورما) في نهاية هذا الشارع عند الزاوية، ليعطيهم ما يبقى لديه من طعام. بعد ذلك ينامون على الرصيف، وكان يصيبني الجنون لمنظرهم، فأتيت بهم إلى هنا وأجلستهم على الشرفة واحضرت لهم سندويشات مع كولا، التي تعتبر حلماً لهم، وأعطيهم مبلغ /٥٠٠/ ل. س. التي هي بالنسبة لهم ثروة. وذلك مقابل رسمهم، بعدها صاروا يدقون على بابي، طفل (بويجي) بعمر الثامنة، يقع على عاتقه إعالة عائلة: "من أنت؟ أنا. من أنت؟ أنا". لا يعرفون كيف يتكلمون. فاحتج أهل الحارة، مستنكرين: "هل صار بيتك ملجأ؟". وخافوا علي.
منذر: ترى ما هو تأثير هذه السنين السبع التي قاست منها سوريا وقاسى منها السوريين.. عليك وعلى تجربتك؟
ليلى: سبع سنين مُرة، أثرت بي من كل النواح.. هدني نفسياً أن أرى ما حدث لسوريا وكيف تكالب الجميع عليها، وصحياً، أنظر إلى يدي!؟ تعرضت لثلاثة نوبات قلبية و/١٢/ جلطة دماغية.. دماغي صغران، قال لي د. رفقة في بيروت: "لم أر في حياتي مثلك ياليلى، دماغك يصغر وعقلك يكبر.." أما تأثيرها فنياً فأنا رغم كل ما حدث، ورغم مرضي ووهني.. بقيت أرسم، وأقيم وأشارك في معارض. رسمت سوريا محمولة على سواعد رجال ونساء ومعهم أطفالهم، سوريا الجريحة ولكن ليست الميتة.
منذر: غير أنك تابعت أسلوبك في أسطرة المشهد، أي أنك آثرت أن تكوني رمزية أكثر من مباشرة.
ليلى: هذا أسلوبي منذ سنوات، أنا لا أرسم رسوم مباشرة أبداً.. ولكني هذه المرة رسمت الشخوص والحيوانات، معاقات وفاقدات الأطراف. أنظر إلى هذه الأحصنة كيف أن كل منها بثلاثة قوائم.
منذر: في آذار /٢٠١٥/ أقمت معرضك الشخصي الأخير في صالة مارك هاشم في بيروت، حيث عرضتي عدداً من أعمالك الجديدة، التي رسمتها بوحي من المأساة السورية، ما هو مقدار
رضائك عنه؟
ليلى: زفت.. حاولوا خطفي وأنا أنقل أعمالي إلى دمشق ومن ثم إلى بيروت.
منذر: ليلى .. لا يهمني هذا الآن، يهمني الحديث عن المعرض نفسه.
ليلى: ولكن أنا أريد أن أحكي.. لحقت بي سيارة من هنا، أنتبهت لها ورحت أراقبها منذ مرورنا بحمص، إلى أن وصلنا إلى النبك، حيث أوقفونا. حاولت مجابهتم، لكن السائق طلب مني السكوت، "لا تفتحي فمك" صاح بي. لكني تابعت وقلت لهم: "ماذا تريدون مني؟ أنا الرسامة ليلى نصير، ذاهبة للبنان لأقيم معرضاً يرفع اسم سوريا.. بلدي. بعدها تركونا.. ونتيجة ذلك تعرضت في بيروت بعد افتتاح المعرض بأربعة أيام لجلطة قلبية.. وكنت مقيمة عند (صبا العلي). ولسبب لا أعرفه حددوا فترة المعرض خلال عيد الأم.. من سيأتي إلى معرضي ويترك أمه؟ (مارك هاشم) وضع عينه على لوحة يريد شراءها.. قلت له: "مقدمة". قدمتها لها مجاناً.. بعدها اضطررت لبيع عمل أو عملين بسعر أقل بكثير من أسعار لوحاتي، وتركت بقية الأعمال عند أقاربي هناك.. لم أجني شيئاً من هذا المعرض رغم حاجتي الشديدة للمال هذه الأيام، لقد أشعروني بقلة المقدار.
آه.. منى الأتاسي.. شاركت بناء على دعوتها في معرض شامل أقامته لأهم الفنانين السورين في دبي. على ما أذكر. نعم أتذكرها الآن.. كنت وما زلت أحبها.
منذر: اسمحي لي بسؤال.. لا سمح الله إذا حدث معك ما لا مهرب منه في النهاية، لمن ستؤول لوحاتك وأعمالك الفنية، من سيحافظ عليها. ألم تعملي حساباً لهذا الشيء؟
ليلى: طبعاً للعائلة، داخل سوريا وخارجها، أختي تأتي وتذهب دائماً، وأخي وعائلته في طرطوس. البارحة جاءت زوجة أخي وأحضرت لي، كبة ويبرق وحلويات.. أتريد أن تأكل شيئاً حلواً؟..
منذر: ولكن هل خطر في بالك أن تكتبي وصية ما. توصين بها أعمالاً محددة لابنة أخيك (يارا) مثلاً؟
ليلى: (يارا) جرحي.. بعد وفاة أبيها صارت أمانة في عنقي.. أنصحها دائماً أن تغلب عقلها على عاطفتها.. هي إنسانة عطوفة فوق ما تتصور.. البيت في (الحفة) لها.
ــــــــــــــ
كان الأوان قد حان لوداعها، وكان عادتها أن تصطحبني إلى الباب بنفسها وتبقى واقفة عنده وأنا أعبر الممر إلى أن أصل للدرج. لكنها هذه المرة قامت عن سريرها لتودعني بعناق وقبل، وتقول: منذر.. أنت تعلم أني أحبك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اللاذقية نيسان وأيار، ٢٠١٨