قامت مؤخراً مؤسسة الأتاسي بتقديم إقامة فنية في مؤسسة دلفينا المرموقة في لندن للفنان السوري المقيم في اسطنبول، غيث مفيد. وفيما يلي يُحدّثنا الفنان عن نتيجة عملِه : Transmissions (أي إذاعة أو بث عبر الراديو)، وهو عبارة عن عمل تركيبي صوتي يُترجم نداءً للمساعدة إلى عدة لغات. يُبثّ النداء عبر الراديو ويسعى إلى ربط سوريا بالعالم.
غالباً ما تتناول في أعمالك الروابط ورحلة الإنسان كما يظهر جلياً في بعضها ، مثل "رحلة خليّة" (2015)، حيث تستخدم رسائل وصور أرشيفية لرسم خريطة رحلات اثنين من أسلافك. كيف يمكن لعملك الجديد Transmissions أن يتابع ويطوّر فكرة الروابط هذه؟
يتناول عمل "رحلة خليّة" استكشافي لأصولي التركية. عندما اضطررت إلى الهجرة من سوريا إلى تركيا في بداية العام 2013، أثارت الهجرة اهتمامي لإكتشاف أصل المكان الذي أتت منه عائلتي. وقد صدف أن كان جدي قد احتفظ بيوميات في سنوات الثمانينات عندما كان هو أيضاً يتابع سعياً مماثلاً. وجدت تلك اليوميات في العام 2015 وقرأتها بفارغ الصبر. فقرّرتُ العودة إلى خطواته الأولى مستعيناً باليوميات. سافرتُ في أنحاء البحر الأسود وزرتُ قبر جدّي الأقدم والقرية التي أتى منها، وقرأت الرسائل ومشيتُ في نفس الطرقات التي مشى فيها وما إلى ذلك. ومن خلال تتبّع ظلّه، إنتابني شعور برؤية تلك الأماكن من قبل وهذا غير واقعي تقريباً. عندما تعمل في مشروعٍ ما، حسب تجربتي الخاصة على الأقل، فلا مفر من العودة إلى نفسِك – أين أنت وأين تعيش-. استكشفتُ جميع تلك الروابط المدهشة بين سوريا وتركيا في تاريخ عائلتي. أما في حياتي الخاصة كمواطن سوري، فقد شكّل بناء وجود كلّي جديد في تركيا تحدّياً كبيراً لي، فمهما نفعل يُنظر إلينا كغرباء. بدأت أفكّر كيف أن صوتنا كشعبٍ غير مسموع: نحن معزولون، غير مرتبطون.
هل هذا هو السبب في إطلاق Transmissions ؟
نعم، إذ أن الأجناس البشرية لا تزال تبعث رسائل إلى الفضاء الخارجي منذ نصف قرن من الزمن. لكنها لم تتلقّ أي جواب حتى الآن. وقد صُنعت أهم التيليسكوبات من أجل هذا الهدف بما فيها المرصد الفلكي "أريسيبو" في بورتوريكو الذي يحتوي على تلسكوب لاسلكي يبلغ طوله 1000 قدم. واضعاً هذا بعين الاعتبار، فكّرت بعدة مواقع في سوريا قد تكون مناسبة لبناء مرصدٍ فلكي فيها، مثل المسرح الروماني في المدينة التاريخية بصرى الشام. بالنسبة لي، هنالك تشابه بين هذه الرسائل الفضائية والأسلوب الذي يُطلق عبره السوريون نداءً للمساعدة في السنوات السبع الأخيرة. لكن يبدو أن أحداً لا يجيب عليها. يشبه الصمت الكبير للفراغ الفضائي تماماً الصمت الكبير لبقيّة العالم؛ فهم إما لا يسمعون أو لا يصغون لنا. فكأن كل شيء خارج سوريا هو عبارة عن كائن غريب. لقد كانت مقارنة مُقنعة.
في بدايتها، كانت Transmissions عملا" صوتياً لكنها تطورت إلى أن تصبح إشارة إذاعية حقيقية. هل هذا صحيح؟
عندما بدأت في المشروع منذ سنتين، أردت أن أبتكر جهازاً صوتياً . وخلال إقامتي في دلفينا، تطورت تلك الفكرة سريعاً إلى فكرة بث رسالة إذاعية حقيقية إلى العالم الخارجي على أن تدور هذه الرسالة حول الغلاف الجوي بحثاً عن متلقّي. والرسالة بحد ذاتها هي بكل بساطة نداء للمساعدة. في اللغة الإنكليزية هي كالتالي: "سي كيو، سي كيو، (CQ,CQ)هنا دي إكس سي أ (DX6CA) نرجو الإجابة، هل من أحد هناك؟" "سي كيو" مستمدة من الكلمة الفرنسية "سيكوريتيه" وتعني "الأمان" أو"الانتباه"؛ وهي النداء الدولي للمساعدة بلغة الراديو. أما "دي إكس" فهو رمز الوجهة الذي يعني "إلى كل القارات". "6 سي أ" هو رمز البلد لسوريا بلغة الراديو. ومن ثم ترجمتُ هذه الرسالة إلى 14 لغة مختلفة.
أخبِرنا عن إختيارك للّغات.
تبدأ الإشارة بشيفرة مورس، ثم تتحوّل إلى اللغة العربية (لكونها اللغة الأم في سوريا)، ومن ثم إلى اللغة الإنكليزية (لكونها لغة عالمية). بعد ذلك، يمكن سماعها باللغة التركية (إذ أن تركيا مجاورة لسوريا)، بالإسبانية، الألمانية، الفرنسية، الأيطالية والبرتغالية (كل هذه اللغات الأوروبية أساسية ويُتحدث بها دولياً). تليها اللغات الأوكرانية، اليابانية، السواحيلية، التايلاندية والهندية. قد حاولتُ أن أختار اللغات الشائعة المحكية في مختف أنحاء العالم.
كيف ساعدتك إقامتك في دلفينا في هذا الجانب من العمل؟
لقد ساعدتني هذه الإقامة جداً ولكن ليس من ناحية الأبحاث فحسب. بل أن تبادل الأفكار مع فنانين آخرين مقيمين وبعض المشرفين قد أدّى بالفعل إلى تغيير العمل وتطويره. وهكذا نشأت فكرة ترجمة Transmissions إلى عدة لغات ودفعِه إلى الأمام عبر تحويله من مجرّد جهازٍ صوتي إلى بثٍّ حقيقي. بالإضافة إلى ذلك، فقد التقيتُ في دلفينا بمصمّم صوت من الهند وقد عرض علي المساعدة في تسجيل الجهاز في الأستديو الخاص به. كانت تلك خطوة كبيرة. كما ساعدني مقيمون آخرون في دلفينا بالترجمات. في برنامج "ترجمة جوجل" الإلكتروني يمكن الوصول إلى حد معيّن، لذا تدعو الحاجة إلى مساعدة بشرية فعليّة للتوصّل إلى الألفاظ اللغوية الصحيحة. وهكذا تم التواصل مع أصدقاء وأصدقاء الأصدقاء الذين كانوا يرسلون لي الرسائل الصوتية عبر تطبيق "واتساب" لكي أتمكن من التدرّب على اللفظ بما أنني كنت أسجّل بنفسي باللغات الأربعة عشر.
أي من الترجمات كانت الأكثر صعوبة؟
قصة الترجمة باللغة اليابانية كانت طريفة إذ أنني لم أجِد أحداً لأستعين به. فذهبت بكل بساطة إلى مركز اليابان الكبير في "بيكاديللي" وتوجهتُ إلى إحدى الفتيات العاملات فيه طالباً مساعدتها. وكانت الفتاة لطيفة جداً فترجمت الرسالة وعلّمتني على طريقة لفظها. كان تعاون كل أولئك الناس معي لإنجاح المشروع مؤثراً بالفعل.
ما هي الخطوة التالية؟
ما زلتُ أعمل مع مؤسّسة الأتاسي على إكمال البحث المتعلّق بـِ Transmissions، بالإضافة إلى إنتاجه وعرضِه. ولقد انتهينا تقريباً والخطوة التالية هي بثّه عبر الراديو، من خلال استخدام تردّد الموجات القصيرة. يتميّز هذا العمل بالمرونة فبإمكانه إتّخاذ أشكال ونماذج مختلفة لإقامة معرضِ لاحقاً. أنا أعمل أيضاً على مشروع آخر عنوانه المستكشفون المكفوفون؛ وهو سلسلة من الخرائط التي تتحرّى المسافة النسبية بين البلدان خلافاً للمسافة الفعلية. على سبيل المثال، بصِفتي سوري مقيم في تركيا، فإن الإكوادور هي إحدى البلدان القليلة التي أستطيع أن أزورها بسهولة دون الحصول على تأشيرة سفر، ودون أية أسئلة. لذا، فالإكوادور التي تبعد 16 ساعة جواً عن سوريا هي أقرب لي بالحقيقة من اليونان مثلاً، التي تبعد ساعة ونصف فقط بالجو، إذ أنني ممنوع منعاً باتاً من الدخول إليها لكوني سوري الجنسية. بالعادة، يخرج المستكشف إلى العالم ليوسّع آفاقه. أما هنا، فالعكس هو الصحيح. إذ تنكمش آفاقنا وتتضاءل بما أننا لا نستطيع أن نسافر. يحكي المستكشفون المكفوفون عن رؤية الأماكن ولكن عدم التمكن من اكتشافها بسبب الاضطرار إلى البقاء في مكاننا وعدم قدرتنا على الاستكشاف أبداً. كما يحكي عن العيش في ظل عالم يمنع بعض الناس من استكشاف المعلوم قبل المجهول.