عندما بدأت دراستي في كلية الفنون الجميلة لم أكن قد خططت لدخول قسم النحت، ولكنه بدا لي الأقرب لمزاجي في التعامل مع الكتلة والمواد المختلفة. في تلك المرحلة كنت أعمل إلى جانب دراستي، وكان العامل الاقتصادي محركاً أساسياً في حياتي، وبالتالي كان من الصعب تأمين الأدوات الاحترافية للعمل، فكنت ألجأ لطرق أكثر بدائية أو وفق ما هو متوفر، وفي كثير من الأحيان كنت أصنع أدواتي بشكل شخصي.
إن علاقتي مع الكتلة بمفهومها النحتي بدأ بشكل فعلي مع بداية مشروع تخرجي من كلية الفنون الجميلة. وهو المشروع الجديّ الأول لي كنحّات، وكان حول موضوع «الانتظار» - حكاية بلاد كل من فيها في حالة انتظار، وتظهر في هذه الحكاية ثنائية الشعب والسلطة ممثلة بـ "ملك الانتظار". الشخصيات في الحالتين متشابهة في ضخامتها، وهنا أود أن أوضح أن الكتلة الكبيرة للشخصيات جاءت من فهمي لحجم هذه الشخصيات من حيث امتلاكها للقدرة وللقوة، وتراكم كتلتها في طبقات تدريجياً مع مرور الوقت بسبب عدم استغلالها لذاتها في أي فعل، وهذا يشبه عملية بناء الطين التي أقوم بها. كان هذا الموضوع «الانتظار» مستوحى من إحساسي بواقع حياتنا في سوريا. بعد تخرجي عام ٢٠٠٧ تابعت العمل على هذا المشروع بشكل شخصي. لم يكن لدي طموح لعرضه، إذ أن المواضيع المرتبطة بالسياسة كانت من المحرمات. ما يعنيني في النحت أو الفن بالعموم هو علاقته بالواقع، لذلك كنت أعمل على المشروع كحالة بحث شخصية.
مع بداية الثورة بدأت هذه الشخصيات بالحركة والفعل، كان ذلك بالنسبة لي انتصاراً. برزت ثنائية الشعب والسلطة، حيث المنتظرون يتظاهرون، يقومون بأفعال مختلفة مثل «أحرار المرسم» و «أعلن انشقاقي». يقابلها أفعال تمثل السلطة، ممثلة في أعمال مثل «ملك الهشاشة» و«تم التدمير» و«برميل يسند كرسي» ..
لقد أجبر العنف الذي واجهناه منذ بدايات الثورة الناس على إيجاد أشكال أخرى من المشاركة، وهذا ما ضمنته وسائل التواصل الاجتماعي، كان هاجسي هو كيف يمكنني من موقعي كنحات المشاركة في الثورة، وهنا بدأت علاقتي العميقة مع النحت كفعل مقاومة، العمل بشكل دائم للتعبير والتعاضد، ورفع الصوت في التوقيت المناسب. أصبح التفاعل مع الجمهور في حينها هو المحفز الأهم، وهو جمهور متنوع ومعظمه ممن لم يكونوا في يوم من الأيام جمهور الغاليريات أو حتى من المهتمين بالفن، كان شيئاً خاصاً جداً.
في بداية الثورة عندما كنت موجوداً في دمشق كنت أستخدم صفحتي الشخصية لنشر الأعمال، كنت أفكر بالعمل أصنعه أخذ الصورة ثم أحطمه وكأنه لم يكن، كان الخوف من الأمن هو السبب في ذلك. بعد تعرضي للاعتقال ومن ثم سوقي إلى الجيش، أغلق أصدقائي صفحة الفيسبوك الخاصة بي لحمايتي. أنشأتُ صفحة "طين وسكين" بعد هروبي من الجيش وانتقالي إلى لبنان نهاية عام ٢٠١٣م. عندما كنت أنجز عملاً للصفحة كنت أفكر به للصورة، أرى الصورة في مخيلتي وأبدأ العمل على المنحوتة/ المشهد، أحيانا كنت أتابع العمل على المنحوتة بعد الصورة … ولكن في تلك الفترة لم يكن هناك أي فكرة أو خطة لعرض هذه الأعمال في صالات عرض، بسبب حساسية وضعي في لبنان. عندما غادرت إلى فرنسا قمت أيضاً بتدمير كل الأعمال التي نفذّتها في لبنان، معظمها من الطين غير المشوي وبالتالي كان من الصعب جداً نقلها. كانت فكرة تركي لأعمالي في مكان أعلم أنني لن أستطيع العودة إليه قريبا، كما الحال مع أعمالي في دمشق، تزعجني كثيراً. نقلت معي عملاً واحداً فقط «وله انحناءات الخريف». بعد وصولي إلى فرنسا أصبح تعاملي مع الأعمال المعروضة على الصفحة مختلفاً، لم يعد هناك سبب لتدمير الأعمال بعد التقاط الصورة، إضافة إلى أنني أصبحت أعمل لأعرض وليس فقط للصفحة.
علامات الثقوب كانت طريقة لاستكشاف بنية الشخصيات التي كنت أجسّدها، هشاشتها وتآكلها وتهالكها. في مرحلة معينة كانت طريقتي الشخصية للانتقام من مفهوم السلطة ومن ضعفنا أحياناً، كنت أمضي ساعات طويلة جداً وأنا أثقّب التمثال، اخترعت لاحقاً أدوات خاصة لهذه العملية، في هذه الأعمال كان هناك محاولة لتكسير الكتلة واختراقها.
مع أعمال "مضغوط" كان الوضع مختلفاً. استوحيت هذا المشروع من عدة تجارب عشتها في أماكن مختلفة خلال فترة قصيرة: الاعتقال والخدمة الإلزامية في دمشق لمدة أربعة شهور، ثم في لبنان متخفيّاً لمدة عام وأخيراً فرنسا. عند وصولي إلى فرنسا ظننت أنني سأتحرر من كل ما سبق إلى حد ما، بعد فترة بدأت بمشروع «مضغوط» انطلاقا مما عشته، وقد أدركت مع الوقت أن هناك نقاطاً مشتركة كثيرة بيني وبين فرنسيين من حولي يعيشون في نظام حياة معقد يحولهم لأشخاص "مضغوطين" وهنا أخذ المشروع منحى أوسع من قصتنا كسوريين.
أما عمل «إنه الحب» فهو يمثّل بحثي عن خلاصي الشخصي، أعود إليه عندما أحتاج لهامش الحلم، حتى وإن كان بخلق عالم مثالي صعب التحقق ولكن هذه هي القدرة السحرية للفن: التعبير عن الواقع فيما هو مساحة للخيال. حالياً أعمل على نصب مستوحى من عمل «هو الحب» سيتم تخصيص فضاء عام له في أحد ضواحي باريس الجنوبية.