شرق – غرب: أنا والآخر

وُلد يوسف عبدلكي في مدينة القامشلي شمال شرق سورية عام 1951، ويُعتبر من أبرز الفنانين التشكيليين السوريين، ويشهر بلوحاته الصارخة أحادية اللون، ولكن الغنية بصرياً. ويشهد لذلك الناقد والكاتب الفرنسي ألان جوفروي الذي وصفه بأنه "مراقب عظيم لظاهرة الحياة، وهو فنان حفر شديد الانتباه للتفاصيل يتحلّى بالانضباط والمنهجية، وهو في الوقت نفسه شاعر مع الصور". عاد إلى دمشق عام 2005 بعد 25 سنة أمضاها في فرنسا في منفى اختياري منذ عام 1981. تهيمن على أعماله صور متكرر الظهور لأسماك وسكاكين وجماجم، غالباً ما تظهر على خلفية فارغة، وهو ما تموضع عناصره المختارة في فضاء أكثر حدة. أعماله مقتناة ضمن مجموعات تعود لمؤسسات مثل المتحف البريطاني في لندن ومعهد العالم العربي في باريس. في هذا الحوار، يتبادل عبدلكي الأفكار مع زميله الرسام وصديقه المقرب فادي يازجي المقيم أيضاً في دمشق. يتطرّق الحوار لمفهوم الضوء والفراغ والعلاقة المعقدة والتكافلية بين مدارس الفن والفكر في الشرق والغرب، بالإضافة إلى التوازن بين القيم الجمالية والسياسية في العمل الفني.     

شرق – غرب: أنا والآخر - Features - Atassi Foundation

الفنان يوسف عبدلكي في مرسمه

شرق – غرب: أنا والآخر - Features - Atassi Foundation

يوسف عبدلكي، حذاء، ٢٠٠٥

فادي يازجي: أودّ أن أستهل الحوار بسؤال عامّ يراودني منذ عودتك إلى سوريا من فرنسا. بعد غيابك أربع وعشرين سنة عن "هنا"، كيف تشعر بالفرق في تأثير الضوء على عملك ما بين باريس ودمشق؟ شخصياً، أرى أنه على الرغم من كونك عملت كل هذه السنوات مع ضوء "هناك" فيزيائياً، إلا أن ضوء "هنا" كان معك دائماً. ما هو شعورك حيال ذلك؟ من خلال متابعتك عن كثب، لاحظتُ أن "أسودك" قد ازداد. 

يوسف عبدلكي: تختلف سوية تأثير الضوء في أعمالي عن تلك التي تجدها لدى المصورين [الرسامين] عادة، سواء كانوا يعملون بالألوان المائية أو الزيت أو الأكريليك. فأنا أعمل بالأبيض والأسود، وينقسم عملي على مستوى الموضوعات إلى موضوعات سياسية وموضوعات الطبيعة الصامتة. السياسية منها التي هي لوحات الأشخاص أو الأحصنة مثلاً، وهذا ما عملتُ عليه في سنوات السبعينيات والثمانينيات، وكانت تقنيتها الأساسية هي الحفر على المعدن.

والموضوعات الثانية التي أعمل عليها منذ حوالي خمس وعشرين سنة هي موضوعات الطبيعة الصامتة، والتي أنفّذها بأقلام الفحم على الورق، ومشغولة داخل المرسم. وفي كلا الفترتين لم أتناول موضوع الطبيعة أو البورتريه في الضوء الطبيعي. 

نعم هناك فرق كبير بين الضوء في دمشق والضوء في باريس سواء في الحياة أو الطبيعة. لكن في عملي بالتحديد كنتُ بعيداً قليلاً عن هذه الحساسية، ذلك لأن العمل بالأبيض والأسود يقودك إلى صرامة البناء وإلى كثافة الضوء والعتمة، وليس إلى رهافته. وأودّ هنا الإشارة إلى أني بدأت مؤخراً العمل على الطبيعة من خلال مناظر لسهل الغاب أو جبل الشيخ. هنا يمكن أن تبدو الأهمية أو الحساسية للضوء أقوى بكثير من كل أعمالي خلال الأربعين أو الخمسين سنة الماضية.

أظن أنني لو كنتُ أعمل في العقود الماضية على الطبيعة سواءً في باريس أو في دمشق لكان سؤالك هذا مفصلياً وحاسماً بالنسبة لطبيعة عملي. لكن كما سبق وأخبرتكَ، فإن أعمالي التي تحتوي شخوص وناس وبشر وأحصنة.. إلخ تقومُ بشكل أو بآخر على الخيال وعلى توازن الأبيض والأسود. وأعمالي الأخرى في الطبيعة الصامتة كلها بعيدة عن الضوء الطبيعي. لذلك أظن أن تأثير اختلاف الضوء بين هنا وهناك هو تأثر ثانوي على عملي.

فادي يازجي: أعرفُ طبعاً أنك تعمل في مرسمك حيث الضوء المركّب أو ضوء استوديو. إنما على المستوى النفسي ألم تشعر بالفرق بين المكانين؟ هل الضوء بالنسبة لك هو مجرّد مفهوم فيزيائي أو كيميائي؟

يوسف عبدلكي: أنا أتكلم عن تأثير الضوء على العمل.

فادي يازجي: نعم على العمل.  

يوسف عبدلكي: الحساسية تجاه الضوء بين هناك وهنا مختلفة جداً، بالتأكيد. سطوع الألوان في الشرق هنا في سورية لا يقارن بالألوان في مدينة مثل باريس أو في بلد مثل فرنسا يعيش نصف أيامه في المطر والضباب وغياب ضوء الشمس القوي الذي نراه في الشرق عموماً.

في الحقيقة كان لهذا الضوء تأثيرٌ كبيرٌ على أعمال الكثير من الفنانين. فمثلاً الفنان بول كلي الذي أعتبرُ أنه بذلَ مجهوداً خارقاً ليصبح مصوراً [رساماً]، عندما ذهب إلى تونس كتب إلى أحد أصدقائه وهو بحالة نشوة ما بعدها نشوة يخبره إنه يرى "هنا" الضوء، يرى الشمس، يرى الألوان. يخبره إنه "الآن" أصبح "مصوراً". أي أنه كان يعتبر نفسه – في الفترة السابقة لرؤيته للشمس – رساماً تقوم بنية عمله على الأبيض والأسود والخط فقط، رغم أنه كان يعمل باللون. ولكنه سابقاً افتقر لتباين الألوان الحارة والباردة ورهافة الألوان المكمِّلة. 

فالاختلاف إذاً بين هنا وهناك اختلاف قوي وموجود وله تأثيرٌ كبيرٌ. ولكن التأثير الحقيقي للضوء على أعمالي كان تأثيراً ضعيفاً للأسباب التي ذكرتها. علماً أن الضوء موجود في الحياة وفي ملاحظة الموجودات والأشكال والبيوت والبشر والناس والظل القاسي والضوء القاسي. لكل هذا تأثيرٌ كبيرٌ – وأحياناً غير مُدرَك – على رؤية المرء، ويتسلل بالتالي حُكماً إلى أعماله.

شرق – غرب: أنا والآخر - Features - Atassi Foundation

يوسف عبدلكي،جلسة شاي، ٢٠٠٧

فادي يازجي: بالعودة إلى عام 2003، أرسلتَ لي كتاباً عن الفنان الألماني الذي عمل على الحربين العالميتين الأولى والثانية جورج غروس، وكتاباً عن الفنان التعبيري جيمس إنسور. كنتَ تعمل مثل غروس الذي قدَّم الجنرالات أيضاً بالبعد النقدي، بينما كان عملي تعبيرياً مثل إنسور. هذه المفارقة أو لحظة الصراحة الجميلة التي قدّمتها أنت بهذه الطريقة تقودنا إلى سؤال: هل نشكّل نحن امتداداً لحضارة أوروبية من ناحية الفن التشكيلي؟ أم لدينا أدواتنا الخاصة؟ أي أننا انطلقنا وتعلمنا قليلاً من أساتذتنا ومن بعضنا البعض؟ مثلاً: هل فاتح المدرس ابن هذا المكان فقط، أم هو امتداد فن أوروبي؟ هل لدينا نحن هوية فنية خاصة؟ 

يوسف عبدلكي: هذه ثلاث أسئلة يا فادي!

أعتقد أنه وبقدر كوننا أبناء موروثنا البصري في سورية أو الشرق عموماً، فإننا أيضاً أبناء الإنجازات الأوروبية في مجالات التصوير والسينما والمؤسسات والإدارات وغيرها. أي أن حضور الأولى لا يمنع حضور الثانية، والعكس صحيح. وبالتالي فأنا أعتقد أن التقوقع على الإنجازات القديمة يؤدي بنا إلى التكرار. الفنانون السابقون منذ ما قبل الميلاد أو ما بعد الميلاد أو في القرن العاشر أو في الحضارة العربية أو المغولية أو الهندية أو الفارسية، جميعهم بشكل أو بآخر شكّلوا لنا معيناً ومنبعاً لشغلنا وحساسيتنا سواء على مستوى اللون أو على مستوى بنية اللوحة أو على مستوى الخط أو حتى على مستوى الموضوعات. ولكن يجب ألا ننسى أبداً أن الحضارة الأوروبية وخاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأت تغزو العالم والعالم القديم، تركت آثارها وبصمتها الحاسمة على التجربة الإنسانية كلها. وأعتقد أنه بقدر ما نعتز بموروثنا البصري، يُفترض بنا أن تكون لدينا حساسية تجاه الموروث الأوروبي. الإنجازات الأوروبية هي بشكل أو بآخر مِلكي، مثلما إنجازات حضارتي مِلكهم، ومثلما حضارتي القديمة مِلكي، وبالتالي علينا أن نتعامل مع هذه الأمور بروح الانفتاح وعدم التقوقع، وليس الانحياز الأعمى إلى الفن الأوروبي أو التقوقع على فنون الشرق.

أودّ العودة إلى فكرة أظن أنها لم تتضح، فنانو الشرق القدماء لم يُقلِّدوا بشكل أو بآخر أسلافهم في الشرق نفسه، بل كانوا حقيقة يعبرون عن معتقداتهم وحياتهم وتصوراتهم وخيالهم. بهذا المعنى، وإذا أردنا أن نكون مخلصين فعلاً لإرثنا، يُفترض بنا أن نقتدي بالتجربة التي قوامها أنهم يستوحون من حياتهم الحقيقية، وليس من أسلافهم. 

فادي يازجي: بالعودة إلى عام 2003، أرسلتَ لي كتاباً عن الفنان الألماني الذي عمل على الحربين العالميتين الأولى والثانية جورج غروس، وكتاباً عن الفنان التعبيري جيمس إنسور. كنتَ تعمل مثل غروس الذي قدَّم الجنرالات أيضاً بالبعد النقدي، بينما كان عملي تعبيرياً مثل إنسور. هذه المفارقة أو لحظة الصراحة الجميلة التي قدّمتها أنت بهذه الطريقة تقودنا إلى سؤال: هل نشكّل نحن امتداداً لحضارة أوروبية من ناحية الفن التشكيلي؟ أم لدينا أدواتنا الخاصة؟ أي أننا انطلقنا وتعلمنا قليلاً من أساتذتنا ومن بعضنا البعض؟ مثلاً: هل فاتح المدرس ابن هذا المكان فقط، أم هو امتداد فن أوروبي؟ هل لدينا نحن هوية فنية خاصة؟ 

يوسف عبدلكي: هذه ثلاث أسئلة يا فادي!

أعتقد أنه وبقدر كوننا أبناء موروثنا البصري في سورية أو الشرق عموماً، فإننا أيضاً أبناء الإنجازات الأوروبية في مجالات التصوير والسينما والمؤسسات والإدارات وغيرها. أي أن حضور الأولى لا يمنع حضور الثانية، والعكس صحيح. وبالتالي فأنا أعتقد أن التقوقع على الإنجازات القديمة يؤدي بنا إلى التكرار. الفنانون السابقون منذ ما قبل الميلاد أو ما بعد الميلاد أو في القرن العاشر أو في الحضارة العربية أو المغولية أو الهندية أو الفارسية، جميعهم بشكل أو بآخر شكّلوا لنا معيناً ومنبعاً لشغلنا وحساسيتنا سواء على مستوى اللون أو على مستوى بنية اللوحة أو على مستوى الخط أو حتى على مستوى الموضوعات. ولكن يجب ألا ننسى أبداً أن الحضارة الأوروبية وخاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأت تغزو العالم والعالم القديم، تركت آثارها وبصمتها الحاسمة على التجربة الإنسانية كلها. وأعتقد أنه بقدر ما نعتز بموروثنا البصري، يُفترض بنا أن تكون لدينا حساسية تجاه الموروث الأوروبي. الإنجازات الأوروبية هي بشكل أو بآخر مِلكي، مثلما إنجازات حضارتي مِلكهم، ومثلما حضارتي القديمة مِلكي، وبالتالي علينا أن نتعامل مع هذه الأمور بروح الانفتاح وعدم التقوقع، وليس الانحياز الأعمى إلى الفن الأوروبي أو التقوقع على فنون الشرق.

أودّ العودة إلى فكرة أظن أنها لم تتضح، فنانو الشرق القدماء لم يُقلِّدوا بشكل أو بآخر أسلافهم في الشرق نفسه، بل كانوا حقيقة يعبرون عن معتقداتهم وحياتهم وتصوراتهم وخيالهم. بهذا المعنى، وإذا أردنا أن نكون مخلصين فعلاً لإرثنا، يُفترض بنا أن نقتدي بالتجربة التي قوامها أنهم يستوحون من حياتهم الحقيقية، وليس من أسلافهم. 

شرق – غرب: أنا والآخر - Features - Atassi Foundation

يوسف عبدلكي، ماسورة ألوان، ٢٠١٨

فادي يازجي: من عالمهم.

يوسف عبدلكي: نعم، لا يكررون الموروث السابق، ولا يعيدون إنتاجه تحت مسميات "الأصالة" أو ما شابهها. بالعودة إلى غروس وإنسور، فقد رأيتُ في لحظة من اللحظات أنه يوجد اهتمام أو غرق في الناحية التعبيرية لديك، خاصة في أعمالك في المرحلة ما قبل الأخيرة. وإنسور هو واحد من الفنانين الكبار في التيار التعبيري، لكن يجب الانتباه إلى أن جميع الفنانين التعبيريين سواء تحدثنا عن إنسور أو أوسكار كوكوشكا أو شاييم سوتين أو..

فادي يازجي: إدوار مونش

يوسف عبدلكي: نعم.. وإدوار مونش. جميعهم كانوا يمشون على الحافة؛ أرادوا تقديم عمل تعبيري فيه استنزاف لطاقاتهم الداخلية، غير أن كمّ الانفعالات في عملهم ربما يؤدي بلوحاتهم أو بعضها إلى ركاكة البناء. هذه نقطة ليست بالسهلة، حيث يمكن أن يُعبِّر الفنان بصدق شديد عن تصوراته وخياله وأفكاره ومواجعه، ولكن قد تكون النتيجة لوحة غير متينة! وبالمقابل فإن مبالغة الفنان في الاهتمام بقوة البنية مثلما هو حال فرناند ليجيه مثلاً قد تؤدي به إلى الجفاف، إلى قتل العمل بالحسابات. بهذا المعنى يجب دائماً أن يمسك الفنان عدة خطوط في الوقت نفسه بحيث لا يفلت أحدها ليصبح ذي طاقة زائدة ويضيع العمل.

ما أريد قوله أن تقدير مدارس الفن الأوروبية التي صنعت الحداثة في أوروبا وفي العالم قاطبةً، لا يجب أن ينسينا أن هذه الحداثات محفوفة بالمخاطر ويجب وضعها دائماً تحت منظور النقد.

فادي يازجي: تقصد مدارس الفن الحديثة؟

يوسف عبدلكي: لا. أنا أتحدث حتى عن المدارس القديمة، من أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى الآن، سواء الانطباعية والتكعيبية والوحشية والسريالية والتجريد.. إلخ. وبالنسبة لجورج غروس، فقد عَمِل كثيراً على الآثار المدمرة للحرب العالمية الأولى على جيل كامل من الشباب والفنانين والموسيقيين والعاملين بكل المجالات، فقد اقترب عدد الضحايا من 75 مليون ضحية، وهذا رقم أكثر من مذهل. وبعد ذهابه إلى أمريكا استمر بالعمل على ويلات الحرب العالمية الثانية أيضاً، واتّسمت أعماله بروح نقدية قاسية جداً فيها أثرياء ورأسماليون وجنرالات ومعاقون ومومسات وغيرها من الشخوص. أوصل هذا العمل غروس إلى مكان آخر، المكان الذي يقول فيه الفنان أفكاره بوضوح سياسي كبير، لكن ذلك قد يأخذه إلى البلاغة السياسية وليس إلى بلاغة اللوحة!

اعتبرتُ دائماً أن التحدي هو في الوصول إلى لوحة فيها زخم تعبيري من جهة دون أن تفقد متانتها كبنية من جهة أخرى. بهذا المعنى فالصراخ ليس غناءً جميلاً، كما أن الهمس الدافئ ليس بدوره غناءً جميلاً. 

نقطة أخرى هي أنه بقدر ما يوجد في رأسي أفكار سياسية وأفكار اجتماعية، وبقدر ما أريد التعبير عنها في العمل، يجب ألّا أنسى أنني أعمل على قطعة فنية وليس على بيان سياسي أبداً. ولابد هنا من التأكيد إلى أن آلاف الأعمال الفنية التي أُنتجت منذ 2011، اتسمت بالكثير من الاستعجال، والكثير من السطحية، كان هاجس الفنانين أن يعلنوا وقوفهم مع الثورة ومعارضتهم لسلطة القمع في دمشق، لكن معظم النتائج كانت وقتيّة، وأحياناً ضحلة؛ بينما فكرة الثورة التي انتظرها السوريون أربعين عاماً وعانى قبلها أبناء بلدنا الويلات أربعين عاماً، فقراً وقمعاً وإذلالاً، تستحقّ أعمالاً ابداعية رفيعة فكراً ورؤيةً وتقنيةً. لكن للأسف ما نراه إلى اليوم هو أمر آخر، ولا شك أن الأيام والسنوات القادمة سترينا من أعمال الفنانين السوريين الشيء العميق والبديع، استجابةً لهذا الحدث المزلزل لبلدنا وللمنطقة بأسرها. فالأمر يحتاج للتبصّر، كما أنه يحتاج للوقت.

 

فادي يازجي: من عالمهم.

يوسف عبدلكي: نعم، لا يكررون الموروث السابق، ولا يعيدون إنتاجه تحت مسميات "الأصالة" أو ما شابهها. بالعودة إلى غروس وإنسور، فقد رأيتُ في لحظة من اللحظات أنه يوجد اهتمام أو غرق في الناحية التعبيرية لديك، خاصة في أعمالك في المرحلة ما قبل الأخيرة. وإنسور هو واحد من الفنانين الكبار في التيار التعبيري، لكن يجب الانتباه إلى أن جميع الفنانين التعبيريين سواء تحدثنا عن إنسور أو أوسكار كوكوشكا أو شاييم سوتين أو..

فادي يازجي: إدوار مونش

يوسف عبدلكي: نعم.. وإدوار مونش. جميعهم كانوا يمشون على الحافة؛ أرادوا تقديم عمل تعبيري فيه استنزاف لطاقاتهم الداخلية، غير أن كمّ الانفعالات في عملهم ربما يؤدي بلوحاتهم أو بعضها إلى ركاكة البناء. هذه نقطة ليست بالسهلة، حيث يمكن أن يُعبِّر الفنان بصدق شديد عن تصوراته وخياله وأفكاره ومواجعه، ولكن قد تكون النتيجة لوحة غير متينة! وبالمقابل فإن مبالغة الفنان في الاهتمام بقوة البنية مثلما هو حال فرناند ليجيه مثلاً قد تؤدي به إلى الجفاف، إلى قتل العمل بالحسابات. بهذا المعنى يجب دائماً أن يمسك الفنان عدة خطوط في الوقت نفسه بحيث لا يفلت أحدها ليصبح ذي طاقة زائدة ويضيع العمل.

ما أريد قوله أن تقدير مدارس الفن الأوروبية التي صنعت الحداثة في أوروبا وفي العالم قاطبةً، لا يجب أن ينسينا أن هذه الحداثات محفوفة بالمخاطر ويجب وضعها دائماً تحت منظور النقد.

فادي يازجي: تقصد مدارس الفن الحديثة؟

يوسف عبدلكي: لا. أنا أتحدث حتى عن المدارس القديمة، من أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى الآن، سواء الانطباعية والتكعيبية والوحشية والسريالية والتجريد.. إلخ. وبالنسبة لجورج غروس، فقد عَمِل كثيراً على الآثار المدمرة للحرب العالمية الأولى على جيل كامل من الشباب والفنانين والموسيقيين والعاملين بكل المجالات، فقد اقترب عدد الضحايا من 75 مليون ضحية، وهذا رقم أكثر من مذهل. وبعد ذهابه إلى أمريكا استمر بالعمل على ويلات الحرب العالمية الثانية أيضاً، واتّسمت أعماله بروح نقدية قاسية جداً فيها أثرياء ورأسماليون وجنرالات ومعاقون ومومسات وغيرها من الشخوص. أوصل هذا العمل غروس إلى مكان آخر، المكان الذي يقول فيه الفنان أفكاره بوضوح سياسي كبير، لكن ذلك قد يأخذه إلى البلاغة السياسية وليس إلى بلاغة اللوحة!

اعتبرتُ دائماً أن التحدي هو في الوصول إلى لوحة فيها زخم تعبيري من جهة دون أن تفقد متانتها كبنية من جهة أخرى. بهذا المعنى فالصراخ ليس غناءً جميلاً، كما أن الهمس الدافئ ليس بدوره غناءً جميلاً. 

نقطة أخرى هي أنه بقدر ما يوجد في رأسي أفكار سياسية وأفكار اجتماعية، وبقدر ما أريد التعبير عنها في العمل، يجب ألّا أنسى أنني أعمل على قطعة فنية وليس على بيان سياسي أبداً. ولابد هنا من التأكيد إلى أن آلاف الأعمال الفنية التي أُنتجت منذ 2011، اتسمت بالكثير من الاستعجال، والكثير من السطحية، كان هاجس الفنانين أن يعلنوا وقوفهم مع الثورة ومعارضتهم لسلطة القمع في دمشق، لكن معظم النتائج كانت وقتيّة، وأحياناً ضحلة؛ بينما فكرة الثورة التي انتظرها السوريون أربعين عاماً وعانى قبلها أبناء بلدنا الويلات أربعين عاماً، فقراً وقمعاً وإذلالاً، تستحقّ أعمالاً ابداعية رفيعة فكراً ورؤيةً وتقنيةً. لكن للأسف ما نراه إلى اليوم هو أمر آخر، ولا شك أن الأيام والسنوات القادمة سترينا من أعمال الفنانين السوريين الشيء العميق والبديع، استجابةً لهذا الحدث المزلزل لبلدنا وللمنطقة بأسرها. فالأمر يحتاج للتبصّر، كما أنه يحتاج للوقت.

شرق – غرب: أنا والآخر - Features - Atassi Foundation

يوسف عبدلكي،نبتة ميتة، ٢٠١٨

فادي يازجي: يوجد قيمة جمالية.

يوسف عبدلكي: ليست مشكلة اللوحة أن تكون سياسية أو غير سياسية. نصف لوحات العالم هي لوحات سياسية، إنما المشكلة هي كيف تنجز لوحة سياسية. كيف تبنيها، كيف تشتغلها كقطعة فنية، قبل مسألة ماذا تقول فيها، على أهمية ما يمكن أن يحيكه الفنان على مستوى الدلالة. فمثلاً لوحة الإعدام لفرانثيسكو غويا، تأتي عظمتها لغوياً بفضل متانتها الفنية، متانة بنيتها والتباين العالي بين الضوء والعتمة وبسبب قوة العاطفة وقوة التعبير في أشكالها، أكثر من كونها تمثل إدانة لعملية الإعدام التي مارسها المحتلون الفرنسيون على الثوار الإسبان.

فادي يازجي: يوجد قيمة جمالية.

يوسف عبدلكي: ليست مشكلة اللوحة أن تكون سياسية أو غير سياسية. نصف لوحات العالم هي لوحات سياسية، إنما المشكلة هي كيف تنجز لوحة سياسية. كيف تبنيها، كيف تشتغلها كقطعة فنية، قبل مسألة ماذا تقول فيها، على أهمية ما يمكن أن يحيكه الفنان على مستوى الدلالة. فمثلاً لوحة الإعدام لفرانثيسكو غويا، تأتي عظمتها لغوياً بفضل متانتها الفنية، متانة بنيتها والتباين العالي بين الضوء والعتمة وبسبب قوة العاطفة وقوة التعبير في أشكالها، أكثر من كونها تمثل إدانة لعملية الإعدام التي مارسها المحتلون الفرنسيون على الثوار الإسبان.

شرق – غرب: أنا والآخر - Features - Atassi Foundation

يوسف عبدلكي، فناة، ٢٠١٥

فادي يازجي: فلنتحدّث عن الفراغ في أعمالك والذي عبّرت سابقاً أنه يمسّك كثيراً. هل ترى أن الفراغ في اللوحة مساوٍ للعنصر أو للعناصر؟

يوسف عبدلكي: بغض النظر عن مسألة التساوي أو عدمه، أعتقد أن العنصر يأخذ أهمية من مسألتين: كعنصر وكيف تم الشغل عليه. وثانياً الفراغ الذي وضع فيه. بهذا المعنى إذا أخذنا العنصر نفسه ووضعناه في فراغين مختلفين فإننا نحصل في الحقيقة على لوحتين مختلفتين وعلى إحساسين مختلفين تماماً. ما أعنيه هو أن الفراغ هو "بطل" اللوحة بدوره. وبالتالي فإن العمل على الفراغ ما هو إلا العمل على العنصر الثاني الأساسي في العمل الفني، وبالتالي فإن الزخم الذي يمكن أن ينتجه الفراغ على المستوى التعبيري – أو أحياناً على المستوى الفني أو على مستوى الدلالة الميتافيزيقية التي يعطيها الفنان للعمل بوضعه في هذا الفراغ المختلف – مفصليّ. ومسألة الفراغ هذه ليست ثانوية على الإطلاق، إذ يمكن القول إنها شاغل أساسي في فنون كل الحضارات. 

انظر مثلاً كيف اشتغل الفنانون المسلمون على مسألة الفراغ. كانوا يملؤون سطح اللوحة أو السجادة أو صحن الفخار بالعناصر، عناصر نباتية وعناصر زخرفية وعناصر إنسانية وعناصر حيوانية. إذ لديهم اعتقاد حاسم أنه يجب على عناصر العمل أن تملأ المساحة كلها، مثلما فكرة الله موجودة في كل مكان حسب الاعتقاد الديني، وبالتالي لا يتوجب وجود أي فراغ؛ والأمر موازٍ لذلك في اللوحة، وبالتالي يجب إشغال كل ساحة اللوحة وعدم ترك فراغ فيها لأنه يمكن أن يملأه الشيطان! 

هي مسألة فنية، ترتكز على الاعتقاد الديني، بينما أنظر إلى سيطرة الأجساد الإنسانية على الفن الأوروبي منذ القرن السادس عشر، هذه أيضاً بنت الاعتقاد الأوروبي أن الانسان هو مركز الكون منذ عصر النهضة. بينما عند الصينيين، ومنذ خمسمائة عام قبل الميلاد وحتى الآن، نرى أن الفراغ واسعٌ جداً، والكائنات سواءً كانت بشراً أم حيوانات أم زوارق أم طيور. هي عبارة عن عناصر صغيرة جداً في فراغ اللوحة، هذا أيضاً مبني على اعتقادهم في الشرق الأقصى أن الانسان ليس سيد الكون! بل هو جزء بسيط جداً منه! فحضوره الضئيل هذا يعبّرون عنه بهذا الفراغ الواسع المحيط به في اللوحات. هكذا نرى أن قيمة الفراغ في اللوحات مفصلي على مستوى البناء أو على مستوى الأثر النفسي للعمل؛ وبالتالي المسألة ليست مسألة مهارة أو تميّز أو فذلكة من شخص أو من تيار جديد، هي أعمق من ذلك بكثير.

فادي يازجي: فلنتحدّث عن الفراغ في أعمالك والذي عبّرت سابقاً أنه يمسّك كثيراً. هل ترى أن الفراغ في اللوحة مساوٍ للعنصر أو للعناصر؟

يوسف عبدلكي: بغض النظر عن مسألة التساوي أو عدمه، أعتقد أن العنصر يأخذ أهمية من مسألتين: كعنصر وكيف تم الشغل عليه. وثانياً الفراغ الذي وضع فيه. بهذا المعنى إذا أخذنا العنصر نفسه ووضعناه في فراغين مختلفين فإننا نحصل في الحقيقة على لوحتين مختلفتين وعلى إحساسين مختلفين تماماً. ما أعنيه هو أن الفراغ هو "بطل" اللوحة بدوره. وبالتالي فإن العمل على الفراغ ما هو إلا العمل على العنصر الثاني الأساسي في العمل الفني، وبالتالي فإن الزخم الذي يمكن أن ينتجه الفراغ على المستوى التعبيري – أو أحياناً على المستوى الفني أو على مستوى الدلالة الميتافيزيقية التي يعطيها الفنان للعمل بوضعه في هذا الفراغ المختلف – مفصليّ. ومسألة الفراغ هذه ليست ثانوية على الإطلاق، إذ يمكن القول إنها شاغل أساسي في فنون كل الحضارات. 

انظر مثلاً كيف اشتغل الفنانون المسلمون على مسألة الفراغ. كانوا يملؤون سطح اللوحة أو السجادة أو صحن الفخار بالعناصر، عناصر نباتية وعناصر زخرفية وعناصر إنسانية وعناصر حيوانية. إذ لديهم اعتقاد حاسم أنه يجب على عناصر العمل أن تملأ المساحة كلها، مثلما فكرة الله موجودة في كل مكان حسب الاعتقاد الديني، وبالتالي لا يتوجب وجود أي فراغ؛ والأمر موازٍ لذلك في اللوحة، وبالتالي يجب إشغال كل ساحة اللوحة وعدم ترك فراغ فيها لأنه يمكن أن يملأه الشيطان! 

هي مسألة فنية، ترتكز على الاعتقاد الديني، بينما أنظر إلى سيطرة الأجساد الإنسانية على الفن الأوروبي منذ القرن السادس عشر، هذه أيضاً بنت الاعتقاد الأوروبي أن الانسان هو مركز الكون منذ عصر النهضة. بينما عند الصينيين، ومنذ خمسمائة عام قبل الميلاد وحتى الآن، نرى أن الفراغ واسعٌ جداً، والكائنات سواءً كانت بشراً أم حيوانات أم زوارق أم طيور. هي عبارة عن عناصر صغيرة جداً في فراغ اللوحة، هذا أيضاً مبني على اعتقادهم في الشرق الأقصى أن الانسان ليس سيد الكون! بل هو جزء بسيط جداً منه! فحضوره الضئيل هذا يعبّرون عنه بهذا الفراغ الواسع المحيط به في اللوحات. هكذا نرى أن قيمة الفراغ في اللوحات مفصلي على مستوى البناء أو على مستوى الأثر النفسي للعمل؛ وبالتالي المسألة ليست مسألة مهارة أو تميّز أو فذلكة من شخص أو من تيار جديد، هي أعمق من ذلك بكثير.

شرق – غرب: أنا والآخر - Features - Atassi Foundation

يوسف عبدلكي، جمجمة مربوطة، ٢٠٠٧

فادي يازجي: ألا يوجد بُعدٌ آخر للفراغ في أعمالك؟ بُعدٌ عدميّ كما في فكرة الجمجمة الموجودة في مركزه؟ ألا يمكن تحميلها نوعاً من الخوف أو نوع من العدم؟

يوسف عبدلكي: أشرتُ إلى إمكانية أن يعطي الفراغ إحساساً ميتافيزيقياً لعناصر اللوحة. وإضافة إلى ذلك، فإن فكرة وجود العنصر في مركز اللوحة مستوحاة من المنمنمات الشرقية والعربية التي كانت خارج المفاهيم الأوروبية.

مسألة النسبة الذهبية والتكوينات القائمة عليها وُجدت منذ أيام الإغريق ثم تمت "قوننتها" في القرن السادس عشر في أوروبا. الأوروبيون عموماً يعتبرون أن النسبة الذهبية (1 إلى 1.61) ترسم مستطيلاً هو الأجمل والأكثر ديناميكية! وأن التكوينات الأشد ديناميكية في هذا المستطيل تتجلى في النقاط الأربع التي تنتج عن تقاطع الخطين الأفقيين اللذين يقسمان المساحة أفقياً إلى ثلاثة أقسام مع تقاطع الخطين العموديين اللذين يقسمان المساحة بدورهما إلى ثلاثة أقسام.

أي أنهم يقدسون فنياً الحركة، على عكس الشرقيين. هكذا عند وضع العنصر في منتصف اللوحة يعتبر الأوربيون أنك تكفر! أي أنك تذهب إلى السكون وليس إلى الديناميكية، بينما كان لدى الفنانين في الشرق مشاغل أخرى بعيدة عن هذه النسبة، وعن مسألة الديناميكية. ربما كانت فكرة الرسوخ والاستقرار هي العنصر الأكثر فعالية بالنسبة للفنانين في الشرق. لذلك ترى في الأوابد الفرعونية أو الرافدية أو الهندية بتماثيلها العملاقة أو تماثيل بوذا، كيف أن فكرة الهدوء والسكينة والسكون هي بالحقيقة العنصر الأقوى وليست الديناميكية أو الحركة، من هنا عندما أضعُ عنصراً في منتصف اللوحة (وعندما تكون هذه اللوحة أصلاً مربعة) فهذا يعني أني أضع العنصر في أكثر الأماكن سكوناً والذي هو قلبها، أي أنني أضيف سكوناً على سكون.

هذا كله في الحقيقة بشكل أو بآخر آتٍ من إرثنا البصري. ولمزيد من المفارقة فإن العنصر الذي في قلب اللوحة مشغول بمفاهيم أوروبية، أي التشبيه وقيم الظل والنور والتأكيد على البعد الثالث. وفي ذلك تأكيد مني على وحدة المختلفات أو المتناقضات أي حياكة ما هو شرقي بما هو غربي، إذ أني أعتبر الإنجازات الأوروبية – على كل أهميتها وعلى كل تأثيرها علينا كلنا نحن هنا في سورية أو في الشرق أو في العالم من أمريكا اللاتينية إلى اليابان – أعتبرها اقتراحات، وبالتالي ليست مسلمات وليست مقدسات.

فادي يازجي: ألا يوجد بُعدٌ آخر للفراغ في أعمالك؟ بُعدٌ عدميّ كما في فكرة الجمجمة الموجودة في مركزه؟ ألا يمكن تحميلها نوعاً من الخوف أو نوع من العدم؟

يوسف عبدلكي: أشرتُ إلى إمكانية أن يعطي الفراغ إحساساً ميتافيزيقياً لعناصر اللوحة. وإضافة إلى ذلك، فإن فكرة وجود العنصر في مركز اللوحة مستوحاة من المنمنمات الشرقية والعربية التي كانت خارج المفاهيم الأوروبية.

مسألة النسبة الذهبية والتكوينات القائمة عليها وُجدت منذ أيام الإغريق ثم تمت "قوننتها" في القرن السادس عشر في أوروبا. الأوروبيون عموماً يعتبرون أن النسبة الذهبية (1 إلى 1.61) ترسم مستطيلاً هو الأجمل والأكثر ديناميكية! وأن التكوينات الأشد ديناميكية في هذا المستطيل تتجلى في النقاط الأربع التي تنتج عن تقاطع الخطين الأفقيين اللذين يقسمان المساحة أفقياً إلى ثلاثة أقسام مع تقاطع الخطين العموديين اللذين يقسمان المساحة بدورهما إلى ثلاثة أقسام.

أي أنهم يقدسون فنياً الحركة، على عكس الشرقيين. هكذا عند وضع العنصر في منتصف اللوحة يعتبر الأوربيون أنك تكفر! أي أنك تذهب إلى السكون وليس إلى الديناميكية، بينما كان لدى الفنانين في الشرق مشاغل أخرى بعيدة عن هذه النسبة، وعن مسألة الديناميكية. ربما كانت فكرة الرسوخ والاستقرار هي العنصر الأكثر فعالية بالنسبة للفنانين في الشرق. لذلك ترى في الأوابد الفرعونية أو الرافدية أو الهندية بتماثيلها العملاقة أو تماثيل بوذا، كيف أن فكرة الهدوء والسكينة والسكون هي بالحقيقة العنصر الأقوى وليست الديناميكية أو الحركة، من هنا عندما أضعُ عنصراً في منتصف اللوحة (وعندما تكون هذه اللوحة أصلاً مربعة) فهذا يعني أني أضع العنصر في أكثر الأماكن سكوناً والذي هو قلبها، أي أنني أضيف سكوناً على سكون.

هذا كله في الحقيقة بشكل أو بآخر آتٍ من إرثنا البصري. ولمزيد من المفارقة فإن العنصر الذي في قلب اللوحة مشغول بمفاهيم أوروبية، أي التشبيه وقيم الظل والنور والتأكيد على البعد الثالث. وفي ذلك تأكيد مني على وحدة المختلفات أو المتناقضات أي حياكة ما هو شرقي بما هو غربي، إذ أني أعتبر الإنجازات الأوروبية – على كل أهميتها وعلى كل تأثيرها علينا كلنا نحن هنا في سورية أو في الشرق أو في العالم من أمريكا اللاتينية إلى اليابان – أعتبرها اقتراحات، وبالتالي ليست مسلمات وليست مقدسات.

وبالتالي، فأنا يمكن أن أنهل منها مثلما يمكن أن أنهل من إرثي الشرقي. كما يمكن أيضاً أن أكسر كل مسلماتها، ويمكن أن ترى هذا الأمر موجوداً في كل لوحاتي تقريباً. قد ترى لوحة فيها من جهة منظورٌ أوروبيٌ ومن جهة أخرى منظور شرقي مسطح شطرنجي قائم على تراكب الأشياء فوق بعضها وليس تواليها وراء بعضها بحكم بعدها عن عين الناظر وفق قوانين المنظور الأوروبي. بهذا المعنى بقدر ما يمكن أن يكون في اللوحة عنصر – سواء أكان سمكة أو تفاحة أو جمجمة أو غيرها – إلا أنها أيضاً في الحقيقة تركيب مجموعة من المفاهيم الشرقية من جهة والأوروبية من جهة أخرى. ففيها منظور وطرق تحليل الضوء والنور أوروبية، وفيها أيضاً تكوينات ومنظور شرقي، ولا أرى أن هذا يؤدي لأي خلل، بل على العكس أرى أنه يخلق جزءاً من خصوصيتها، وربما فرادتها.

ومن ناحية أبعد أرى أن الآخر ليس كائناً غريباً. أنا والآخر نصنع الإنسان نفسه، وبالتالي فإن هذه الحدود الفاصلة بين الأنا والآخر، وبين الشرق والغرب، وبين الفنون الأوروبية وفنون الشرق إلخ، أرى فيها شيئاً من التعسُّف. وعلى العكس يمكن الاستلهام من كل هذا الموروث الذي هو موروث الجماعة البشرية قاطبةً، سواء أتى من رسوم الطبيعة الصينية أو من الحفر الياباني أو من اللوحات الأوروبية أو من الإرث [البصري] الشرقي. في الحقيقة يُفترض أن يتعامل معها الفنان باعتبارها كلّها إرثه الخاص والشخصي. هذا هو الأمر الوحيد الذي يكسر كل الحدود بين الثقافة الخاصة بهذه المنطقة والثقافة الآتية من مناطق أخرى، ويستطيع أن يغني العمل الفني إغناءً بديعاً، ويكسر محرمات درج عليها آلاف الفنانين الأوروبيين والشرقيين منذ قرن ونصف على الأقل، والتي تختزن نظرة استشراقية تفوقيّة بالنسبة للأوروبيين، ونظرة انكماشية دونيّة بالنسبة لفناني الشرق.

شرق – غرب: أنا والآخر - Features - Atassi Foundation

يوسف عبدلكي، أم الشهيد، ٢٠١٢

فادي يازجي: استخدامك للرمز الذي يمكن أن يتلقاه الجمهور عموماً كما في لوحة أم الشهيد (2012)، هل هو لتسهيل تلقي المعلومة أم أنه رفد بسيط. فالعمق في السكين والزهرة – اللتين يتكرر ظهورهما في أعمالك – أكبر بكثير من فكرة الأم التي فيها شيء من الرومانسية أو حتى من المباشرة. هل هذا توجه نحو نوعية ما من الناس أم هو توثيق تاريخي للحظة بما فيها من القهر والمعاناة؟

يوسف عبدلكي: بالحقيقة لم تراودني، ولا لمرّة واحدة، منذ 50 سنة فكرة أن أخاطب أحداً، أو أغازل أحداً، أو أرسم عملاً ليحبه أحد. كل هذه الأمور غير موجودة في قاموسي على الإطلاق لا من قريب ولا من بعيد. أنا أرسم بكل بساطة ما أحسّه، ما يشكل لي قناعةً أو رؤيةً، أو فرحاً أو ألماً. هذه هي بوصلتي، ليس هناك بوصلة ثانية أبداً، لا مخاطبة أحد ولا مغازلة أحد. وعندما أنجز عملاً له وقع رمزي، أو ذو مغزى سياسي مباشر أو فيه شيء من الخيال، كل هذا بالنسبة لي يأتي بعد المسألة التي يهمني أن أقبض عليها جيداً - وأنا لا أعرف إن كنت أحقق هذا أم لا - وهي أن تكون اللوحة متماسكة وفيها توازن بين قوة بنيتها وقوة العاطفة التي فيها. هذا ما يهمني وبالتالي فإن كل ما له علاقة بالمشاهِد أو المتلقي لا يدخل في حساباتي، لكن هذا لا يمنع القول إن لوحة أم الشهيد مثلاً هي موضوع موجع بكل معنى الكلمة بالنسبة لي، لكنه موضوع موجع لملايين الناس أيضاً، أي أن إنجاز عمل شخصي لا يعني على الإطلاق أنك منفصل عن الآخرين. إن كنت صادقاً مع نفسك فأنت في بؤرة ألمهم حتى وإن كنتَ تعمل ما يمثل قناعتك الشخصية وما يمثل هواجسك أو وجعك.

 

فادي يازجي: استخدامك للرمز الذي يمكن أن يتلقاه الجمهور عموماً كما في لوحة أم الشهيد (2012)، هل هو لتسهيل تلقي المعلومة أم أنه رفد بسيط. فالعمق في السكين والزهرة – اللتين يتكرر ظهورهما في أعمالك – أكبر بكثير من فكرة الأم التي فيها شيء من الرومانسية أو حتى من المباشرة. هل هذا توجه نحو نوعية ما من الناس أم هو توثيق تاريخي للحظة بما فيها من القهر والمعاناة؟

يوسف عبدلكي: بالحقيقة لم تراودني، ولا لمرّة واحدة، منذ 50 سنة فكرة أن أخاطب أحداً، أو أغازل أحداً، أو أرسم عملاً ليحبه أحد. كل هذه الأمور غير موجودة في قاموسي على الإطلاق لا من قريب ولا من بعيد. أنا أرسم بكل بساطة ما أحسّه، ما يشكل لي قناعةً أو رؤيةً، أو فرحاً أو ألماً. هذه هي بوصلتي، ليس هناك بوصلة ثانية أبداً، لا مخاطبة أحد ولا مغازلة أحد. وعندما أنجز عملاً له وقع رمزي، أو ذو مغزى سياسي مباشر أو فيه شيء من الخيال، كل هذا بالنسبة لي يأتي بعد المسألة التي يهمني أن أقبض عليها جيداً - وأنا لا أعرف إن كنت أحقق هذا أم لا - وهي أن تكون اللوحة متماسكة وفيها توازن بين قوة بنيتها وقوة العاطفة التي فيها. هذا ما يهمني وبالتالي فإن كل ما له علاقة بالمشاهِد أو المتلقي لا يدخل في حساباتي، لكن هذا لا يمنع القول إن لوحة أم الشهيد مثلاً هي موضوع موجع بكل معنى الكلمة بالنسبة لي، لكنه موضوع موجع لملايين الناس أيضاً، أي أن إنجاز عمل شخصي لا يعني على الإطلاق أنك منفصل عن الآخرين. إن كنت صادقاً مع نفسك فأنت في بؤرة ألمهم حتى وإن كنتَ تعمل ما يمثل قناعتك الشخصية وما يمثل هواجسك أو وجعك.

شرق – غرب: أنا والآخر - Features - Atassi Foundation

يوسف عبدلكي، تحية إلى جيل السبعينات، ٢٠٠٥

فادي يازجي: أودّ الحديث عن لوحة القبضة والتي فيها تحية لجيل السبعينيات. هل هي يأس وصور لذلك الجيل وامتداده؟ أي بتر الذراع وكونها تنزف بالرغم من كون القبضة مشدودة إلا أنها منتهية. 

يوسف عبدلكي: أعتبرُ السبعينيات – أو بالأحرى بدءاً من نهاية الستينيات – مرحلة نهوض سياسي عظيم في كل أنحاء العالم، أنتجتْ البلدان العربية وغير العربية أجيالاً من الحالمين بالحرية والعدالة وبعالم جديد، أجيالاً من الآملين والمناضلين القابضين على الجمر الذين دفعوا ضرائب هائلة نتيجة تصوراتهم وأهدافهم السياسية وأحلامهم السياسية. على مستوى سورية، هناك من رفاقي في حزب العمل الشيوعي من دفع سبع، وعشر، وخمس عشرة، وسبع عشرة سنة في السجون، ومنهم من قضى تحت التعذيب. وبالتالي فهذا الجيل يستحق أن يقف المرء أمام روحه الكفاحية العالية وقفة تأمل حقيقية. بهذا المعنى، أردتُ لهذه اللوحة أن تمثل إصرار هذا الجيل وقوة أحلامه بقدر ما تمثّل شراسة القمع والعنف الذي مارسته السلطات على هذا الجيل. بتر الذراع ربما يوحي بالقنوط واليأس! لكني أراه أقل أهمية، ما أراه أكثر هو روح الإصرار الكفاحية العظيمة الموجودة في القبضة المضمومة!

 

فادي يازجي: أودّ الحديث عن لوحة القبضة والتي فيها تحية لجيل السبعينيات. هل هي يأس وصور لذلك الجيل وامتداده؟ أي بتر الذراع وكونها تنزف بالرغم من كون القبضة مشدودة إلا أنها منتهية. 

يوسف عبدلكي: أعتبرُ السبعينيات – أو بالأحرى بدءاً من نهاية الستينيات – مرحلة نهوض سياسي عظيم في كل أنحاء العالم، أنتجتْ البلدان العربية وغير العربية أجيالاً من الحالمين بالحرية والعدالة وبعالم جديد، أجيالاً من الآملين والمناضلين القابضين على الجمر الذين دفعوا ضرائب هائلة نتيجة تصوراتهم وأهدافهم السياسية وأحلامهم السياسية. على مستوى سورية، هناك من رفاقي في حزب العمل الشيوعي من دفع سبع، وعشر، وخمس عشرة، وسبع عشرة سنة في السجون، ومنهم من قضى تحت التعذيب. وبالتالي فهذا الجيل يستحق أن يقف المرء أمام روحه الكفاحية العالية وقفة تأمل حقيقية. بهذا المعنى، أردتُ لهذه اللوحة أن تمثل إصرار هذا الجيل وقوة أحلامه بقدر ما تمثّل شراسة القمع والعنف الذي مارسته السلطات على هذا الجيل. بتر الذراع ربما يوحي بالقنوط واليأس! لكني أراه أقل أهمية، ما أراه أكثر هو روح الإصرار الكفاحية العظيمة الموجودة في القبضة المضمومة!

فادي يازجي: رسمتَ أيضاً العصفور والسكين. ما مدى قدرة العصفور على مقاومة هذه السكين رغم أنه ميت. هل تحمل اللوحة اليأس؟ 

يوسف عبدلكي: أعتقد أن في هذه اللوحة ما هو أقوى من فكرة اليأس. أرى فكرة العنف وقسوته والدمار الذي تنساق إليه مجتمعاتنا. في الحقيقة هذا العصفور – برأيي – لا يُشعرك باليأس، بقدر ما يستحضر الرقة والجمال والوداعة. أي أن المشاعر تتجه ضد قسوة وشراسة السكين، واللوحة إدانة للعنف أكثر مما هي تعبير عن اليأس. إذ رغم كل ظلام الليل يتوهج دائماً بصيص أمل في قلبي. عاشت مجتمعاتنا في الخمسين سنة الماضية أياماً وعقوداً مدمرة وكارثية بسبب عنف السلطات ونهبها وحروبها وضيق أفقها وارتهانها للخارج. ولكن هذا ليس نهاية التاريخ. في نهاية المطاف، سنحصل على حرياتنا وكرامتنا ومواطنتنا، شاء من شاء وأبى من أبى.

شرق – غرب: أنا والآخر - Features - Atassi Foundation

يوسف عبدلكي، عصفور وسكين، ٢٠١١