رسالة من دمشق

 

بدايةً يمكن القول إن حال الغاليريهات في سوريا خلال فترة الكارثة التي حلّت بسوريا محزن ويشبه إلى حد كبير حال البلد. إذ أن الفنانين ينتجون أعمالاً فنية وتُقيم بعض الصالات معارض لهم، لكن في ظلّ الأزمة التي تلفّ البلد، يشبه ذلك جواً مسرحياً، أكثر من كونه متّصلاً بما يجري في الحياة الواقعية.

ولتفصيل ذلك يمكن تصنيف التشكيليين السوريين الذين اطلعتُ على أعمالهم شخصياً أو عن طريق وسائل التواصل المختلفة ضمن ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى هم أولئك الذين استمروا بإنتاج الفن أو تنويعات تنتمي إلى نتاجهم السابق ذاته، حتى بعد سنوات من مرور الكارثة السورية على بلدهم، ولا أرغب هنا في تقييمهم على الصعيد الإنساني، فلكلّ ظرفه وقناعاته ورؤيته. والمجموعة الثانية مكوّنة من الفنانين الذين أثّرَتْ فيهم بدرجات متفاوتة المأساة المتجسِّدة أمامهم. منهم من حملت تجاربهم العنف الذي يُمارس على البشر في جغرافيتهم أصلاً، ومنهم من بدّلت حال بلدهم عالمهم الداخلي، فطغت على أعمالهم مأساوية الحدث، وطرأت على طريقة تناولهم لموضوعاتهم تغيرات أساسية، وفي بعض الأحيان على أسلوبهم نفسه. أما المجموعة الثالثة – وهي الأقل عدداً – فتضمّ الفنانين الذين ابتعدوا كليّاً عن المشهد التشكيلي نتيجة الصدمة إزاء ما حدث، وآثروا الصمت التشكيلي التام لسبب أو لآخر. ولكل واحدة من المجموعات الثلاثة مؤيدون ومحبّون.

ونتيجة اضطرار العديد من التشكيليين ترك سوريا والعيش في المهجر بسبب الأوضاع الموجعة في سورية وانسحاب كثير من المقيمين في داخل سورية مِن المشهد، سواء على صعيد العرض أو التواجد الشخصي على ساحة النشاطات التشكيلية النادرة أثناء الحرب، فقد نمت بسرعة ظاهرة احتلال أرباع وأنصاف الفنانين لساحات العروض في الصالات العامة ووسائل الإعلام الرسمية. 

كان قرار إعادة النشاط إلى الغاليريهات الخاصة قراراً فردياً بكل غاليري. توقّعت الأغلبية أن الوقت مبكرٌ جداً على مثل هكذا قرار، فالناس منهكون جداً على الصعيد النفسي والاقتصادي والاجتماعي. ولكن مرور ما يقرب من ثمان سنوات على الإغلاق، والرغبة في إعادة الحياة إلى ما كان أنشط فروع الثقافة على الصعيد الوطني، كانا بمثابة عاملين تغلّبا على التردد، وبدأت بعض الغاليريهات الخاصة بمعاودة النشاط شيئاً فشيئاً. والصالات الأنشط كانت في دمشق نظراً للظروف الموضوعية المختلفة.

عادت المعارض في الغاليريهات الخاصة في سوريا وفي دمشق خصوصاً بعد خفوت صوت المعارك إلى حد بعيد. أقمتُ المعرض الأول في صالة " مرسم فاتح المدرس " التي أديرها، وقد سقطت في يوم الافتتاح قذيفة على بعد 500 متر من الغاليري وكانت من أواخر القذائف التي سقطت على دمشق.

مع انقشاع المعارك في محيط دمشق في عام 2018، استرجعتْ بعض الغاليريهات نشاطها. كان حضور الناس للافتتاحات في حينها لافتاً ويكشف تعطشهم للقاءات الاجتماعية وللتمتع بالفن في الوقت نفسه، ويشبه إلى حد كبير إزالة الغبار الذي علق عليهم خلال سنوات من العزلة والخوف. كان هذا الإقبال مشجِّعاً للغاليريهات كما للفنانين، والغريب في الأمر كان وجود بعض المقتنين الذين أثْرُوا المشهد وكان حضورهم مستغرَباً ومفاجئاً. أعتقد أن حضور أغلبهم ارتبط أيضاً بباب الأمل الذي خُيِّل لهم أنه انفتح بعد غياب صوت المدافع. ورغم قلة عددهم، فإن وجودهم أنعش الآمال إلى حدٍّ ما. ولكن ما حصل بعد ذلك هو تردِّي الحالة الاقتصادية والمعيشية، التي بدأت تشتدّ وطأتها شيئاً فشيئاً إلى أن وصلنا اليوم لما يشبه الحائط المسدود في علاقة العمل الفني وسعره مع دخل الفرد وأولوياته.

المقتنون في سوريا اليوم مختلفون عمّا عهدناه ما قبل الحرب. أخذ الاقتناء في أحيان كثيرة طابعاً تشجيعياً من بعض الأثرياء، وطابعاً استثمارياً من البعض الآخر نظراً لانخفاض أسعار معظم المعروضات في الغاليريهات بسبب تهاوي سعر صرف الليرة السورية. وبما أنه يُمنع الإعلان عن سعر السلع بعملات أجنبية في سوريا، صرنا نخجل من وضع أسعار الأعمال الفنية بتلك الأرقام المرعبة بالليرة، وهي في الحقيقة لا تساوي الكثير مقارنة مع الدولار مثلاً.

والحقيقة أنه بناء على الوضع الراهن، أصبحت غالبية الفنانين السوريين تفضل بيع أعمالها خارج سوريا بسبب ضعف العملة الوطنية من جهة، وقلة المقتنين في سوريا نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي.

ولا نغفل أن هناك أغنياء الحرب الجدد الذين استفادوا من الكارثة السورية. لكن في المقابل من المفهوم أن معظم هؤلاء لا يقيم وزناً للفن التشكيلي ولا للقيمة التي يمثلها سواء على صعيد الفكر أم على الصعيد القيمة المادية. وتبقى لحسن الحظ قلَّة نادرة من المقتنين، خصوصاً أولئك الذين يربطون بين قيمة الفن وتلك الصلة العظيمة التي يمثلها بين الفكر والجمال.

 

دمشق، 12 أبريل/نيسان 2021