وُلد الفنان السوريّ منير الشعراني عام ١٩٥٢ في مدينة سلمية في المنطقة الوسطى من سوريا، وانتقل مع أسرته إلى مدينة حمص ثمّ إلى دمشق حيث بدأ بتعلّم الفنّ. بدأ باحتراف فنّ الخطّ قبل التحاقه بكلية الفنون الجميلة في دمشق عام ١٩٧١، ليتخرج عام ١٩٧٧ بمشروع من أعمال البوستر عن «القمع والتسلط العسكري».
سعَت مقابلتي معه إلى الخوض في ثنايا مسيرته الفنيّة، لاستكشاف الذكريات الذاتيّة المبكّرة وللتعرف على تكوينه الفنيّ في مرحلة التأسيس وعلى محيطه من المجتمع الفنيّ من أساتذة وزملاء. اهتمّت المقابلة أيضاً بالسؤال عن أبرز معارضه وعن تفاعل الجمهور، خصوصاً غير القارئ للعربية، مع عمله الفني، وعن وجهة نظره بحركة الحروفيّة العربية. وأخيراً، كان السؤال المركزيّ عن مبادئه التشكيليّة وصناعته للعمل الفنيّ، والتي تجعل فنّه مغايراً للسائد. فعمل الشعراني يدفعنا بوضوح للتفريق بين الخط كحرفة، وحركة الحروفيّة، والخط كفن مستقلّ ينظر إلى المكوّن الحروفيّ من منطلق جماليّ ، شكلاني ومعنوي في آن.
وُلدتَ في مدينة سلمية، مدينة تنطوي على كثير من تحديات العيش خصوصاً في تلك الفترة، ما الذي نمّى بواكير ميلك إلى الفن؟ هل كان هناك مناخ ثقافي أو فكريّ عائلي شجعك على دخول عالم الفن؟ هل ترك المحيط المكاني (العمارة والطبيعة) من فترة الطفولة أثراً تعتقد أنه امتد إلى فنّك؟
في السنة التي ولدت فيها كان الجفاف والفقر قد أخذا يحلّان محلّ الخير والوفرة في سلميّة المدينة التي كانت مركزاً حياً عالي النبض، وكان فيها أوّل مدرسة زراعيّة يقصدها الطلّاب من كل أنحاء سورية وجوارها، وناديين اجتماعيين رياضيين ثقافيين، ودارين للسينما، بالإضافة إلى المنازيل )المضافات أو المجالس) حيث الحديث في السياسة خبز يوميّ، مع غيره من الموضوعات، وفي أجوائها كانت نشأتي، وما زلت أذكر أحوالنا وأحوالها قبل أن يتمكّن منها الجفاف ونغادرها إلى حمص حيث اضطر والدي إلى العمل كموظف بعد إفلاسه إثر حريق شبّ في
متجره الذي أراده عصريّاً فكان أوّل متجر في سلميّة يدخل القرطاسية واللوازم المدرسيّة، ولوازم الخياطة والأصواف ولوازم التطريز و"النوفوتيه"، والأدوات الكهربائية المعروفة في تلك الأيام مع لوازم تمديد التيّار الكهربائي إلى المنازل ، بالإضافة إلى أشياء أخرى.
غادرت سلمية وأنا أقرأ وأكتب وكان خطي حسناً وميلي إلى الرسم واضحاً، والفضل في ذلك يعود إلى أبي وأمّي أوّلاً، ثمّ إلى مزيّن شيخة حارتنا ، وبعدها إلى الحضانة التي افتتحها الدكتور سامي الجندي وانتَظمتُ فيها، وكانت أجواء سلميّة هي الخلفيّة المشبعة بالثقافة وحبّ الأدب والفنّ والشعر بشكل خاص، فكان عاديّاً أن أتلقف الكثير من أبيات الشعر، والحكايات الحاملة للقيم والمكارم، في البيت أو في "منزول" العائلة من ألسنة راوياتها ورواتها، وكان طبيعياً أن أسمع رأياً أو تشجيعاً أو إطراءً لرسومي الطفولية، وبداياتي في الكتابة والخطّ من الأهل والمحيط، فوالدتي، التي قدِمَت من حمص، كانت قد درست الفنون النسوية في مكتب عنبر بدمشق، كانت توجهني وتشجعني، ووالدي كذلك، وكان متعلّماً جميل الخطّ، وإن لم يكن خطّاطاً، ومحباً للفنون مثقفاً، وكانا قد تحابا وتزوّجا دون رضى جدّي لأمي، وبتأييد من عمّها الصحفي الوطني المعروف رشيد الملّوحي، وخالها عبد الحميد الملّوحي، الشاعر والمخترع، المؤمن بنظرية لينين القائلة بنشر الثقافة عبر تعميم الكهرباء، وهذا ما جعله ينتقل وعائلته من حمص إلى سلمية ليدخل الكهرباء إليها في وقت مبكّر، ولعل كل ذلك شكّل البيئة الصالحة للبذرة التي غرست في داخلي وأثمرت فيما بعد ، وفي حمص رويت هذه البذرة، ففيها تعرّفت على مجلة سندباد عند بائع كتب على الرصيف، وشدتني حكاياتها المرسومة بريشة الفنان بيكار فحببتني بالقراءة والرسم أكثر وصرت أستأجر أعدادها من البائع، فأقرأ الحكايات و أنقل الرسوم، وكنت ألقى التشجيع من أبي وأمي والأقارب والمحيطين، ثمّ اكتشفت المركز الثقافي الذي صرت أرتاد قاعة الأطفال فيه يومياً، بعد أن أثْبَتُّ أنني أقرأ جيداً للموظف الذي منعني من الدخول في البداية بحجّة أنني صغير لم أدخل المدرسة بعد، وهناك قرأت الكثير من كتب ومجلات الأطفال كسلسلة «أولادنا»، و«المكتبة الخضراء» التي كان بيكار أيضاً يرسم معظمها، وتَرَكَت هذه القراءات والرسوم أثراً كبيراً في نفسي، وصار بيكار موجّهاً فنيّا لي عبر موضوعاته، ورسومه التي لامسَت أعماق ميولي الفنيّة، وفي المركز اكتشفت أن مديره هو الأستاذ عبد المعين الملّوحي، جارنا وصديق أبي، وقريب أمّي، الذي كان يشجعني ويعيرني كتباً كان يحضرها لأولاده، والذي لا أنسى سلوكه وسجاياه وأحتفظ له بثلاثة مواقف أسهمت في تشكيل بنائي القيمي، ونزوعي الثقافي، واستخلصت منها أنّ عليك الوقوف مع الحقّ مهما كان المحقوق قريباً منك، وأن للإنسان الجدير الحقّ الكامل في أن يحظى بفرصته، وأن الواسطة أمر مرفوض لأنها تعيق تقدم الأفراد والمجتمع، كان لهذين المعلمين بالإضافة إلى تشجيع والديّ وتهيئتهما لأسباب تطوّر موهبتي واستمراري الفضل الأكبر في تشكيل ميولي الفنّية والقيمية وتسديد خطواتي في بداية الطريق، أضف إلى ذلك تلمسي الأوليّ للجانب المشرق من ماضينا ببعديه الماديّ و المعنويّ، والذي كنت أتلمّسه في أشياء مادّية كالعمارة الخارجيّة والداخليّة للحمام الأثريّ الذي كانت أمّي تصطحبني إليه في سلمية فأستمتع بمياهه وبالانزلاق على ركبتي فوق بلاطاته الحجرية الكبيرة الزلقة، وتملأ أنفي وصدري رائحة النظافة المنبعثة من أبخرته، ومدينة حمص القديمة التي كانت تجذبني بعمرانها وأحيائها وأسواقها، وعاصيها، وحلاواتها، وروح أهلها المحببة، وفي أشياء معنوية التقطها من المرويات والقصص كحكايا حاتم الطائي، و قصّة جابر عثرات الكرام، وغيرها مما يحضّ على مكارم الأخلاق كنت أقرأها في دروس العربية وفي مطالعاتي الخاصة.
في سلميّة كانت البذرة والجذور الأولى، وفي حمص غُذِّيَت وتَجَذَّرت، ولعلّ اتّفاق سنوات إقامتنا فيها مع سنوات الوحدة بما رافقها من أحلام و حماس شعبي، ثم فشلها ،كان له أثر في ميولي آنذاك وانعكس على وعيي اللاحق، أمّا نموّ هذه البذرة وتفتّحها وإثمارها فكان في دمشق، المدينة التي كانت مستقرّنا وبهرني جمالها واتساعها وكثرة الأشجار والخضرة المتداخلة مع بنيانها والمحيطة بها (آنذاك)، وبالنهر الذي كان يتفرّع بين أحيائها الجميلة (قبل أن يُزرع الإسمنت مكان الخضرة، وتختفي فروعه وتغيض مياهه)، وأدهشني جمال أسواقها المتنوّعة، المتخصصة، المجاورة لجامعها الكبير الجميل، والمحيطة به، والتي تشكّل لافتات متاجرها وزجاج مداخلها معرضاً يحوي خطوط كبار الخطاطين، وفيها انتظمت بالصف الثالث الابتدائي، في مدرسة كانت مديرتها رسّامة تعلمنا الرسم والأشغال، و كانت مربّية عادلة لا تميّز بين طالب وآخر حتّى أنّها كانت تعطيني العلامة الأعلى في الرسم والأشغال مع أن ابنها الذي كان في صفّي كان يرسم بشكل جيّد، وهي التي اكتشفت موهبتي في الخطّ عندما رأت خطوطاً كنت أرسمها بقلم الرصاص تقليداً لعناوين الدروس المخطوطة ولبعض المطبوعات، قبل أن أتعرّف على قلم الخطّ العربيّ، وطلبت مني أن أسأل والدي أن يأخذني إلى معلّم للخط، فكان لي ذلك، وبدأت بتعلم الخط الذي صار شغفي وعشقي بفضل أستاذي بدوي الديراني، الذي لم أتعلم منه الخط وحده، بل تعلّمت منه أموراً أخرى كان لها أثر في تكويني العملي والذهني، منها الصبر والأناة والدقّة والإتقان، واحترام الموروث دون الوقوع بتقديسه وعدم الخوف من نقده وتجاوزه بعد استيعابه جيّداً.
كانت دمشق غيرها اليوم، كان التعليم غير التعليم، والمجتمع غير المجتمع، وكان الناس شديدي التفاعل مع الأحداث والشؤون العامة المحليّة والعربيّة والعالميّة، وكانت الشوارع تمتلئ بالمتظاهرين رفضاً لسياسات معيّنة كما حدث بعد الانفصال، وتعاطفاً مع فلسطين التي اعتبرها السوريون قضيتهم، وتأييداً للثورة الجزائرية ولقضايا الشعوب العادلة، وكان الناس يتبرعون لدعمها، وكانت النساء يقمن بحياكة الكنزات، وخياطة الملابس، للتبرع بها في سياق ما أطلق عليه «معونة الشتاء».
تعلّمتَ فنّ الخط واحترفته قبل التحاقك بكليّة الفنون الجميلة في دمشق ودرستَ مع أوّل دفعة لقسم التصميم بعد إنشائه، حدّثنا عن هذا الاختصاص في فترة دراستك، عن تقنيّاته وأفرعه الفنيّة ومواده النظريّة. حدثنا أيضاً عن علاقتك بأساتذتك الذين كان من بينهم عبد القادر أرناؤوط (١٩٣٦-١٩٩٢) ومحمود حماد (١٩٢٣-١٩٨٨) وحلمي حبّاب (١٩٠٩-٢٠٠٠)، وبالزملاء في فترة الدراسة، وعن مشروع تخرجك عام ١٩٧٧ الذي كان موضوعه ناقداً جريئاً.
كنت في العاشرة من عمري عندما بدأت بتعلم الخطّ عند الأستاذ بدوي الديراني، رأس المدرسة الشاميّة، المطوّر المجدد، وصرت خطاطاً ثم احترفت الخط سنة وفاته بعد خمس سنوات، وكنت أخجل من التوقيع وهو على قيد الحياة، في عملي للمطابع والإعلانات والشاخصات الطرقية ترافق الخطّ والرسم، ودرست التصوير والحفر والنحت في معهد أدهم إسماعيل، ثمّ نلت الشهادة الثانوية وأنا أنوي دراسة الفنون الجميلة، وخضعت لامتحاني القبول وكنت من أوائل المقبولين عام 1971؛ درسنا سنتين تحضيريتين اخترت بعدهما التخصص في التصميم الزخرفي أو الإعلان، اسمه الشائع آنذاك، (الاتصالات البصرية اليوم)، الذي استحدث لحسن الحظ في تلك السنة بعد تقسيم فرع التصميم إلى شعبتين "الزخرفي" و"الداخلي".
كناّ ندرس مواد نظرية عامة تتعلق بالفنّ والحضارة، وخاصّة تهتم بالتصميم والتقنيات وتكنولوجيا المواد وغيرها، ومادتين عمليتين هما التصوير، ككل التخصصات الأخرى، وكان أستاذنا فيها الفنان فاتح المدرّس، والتصميم والمشاريع المتخصصة كالإعلان الفني، من الملصق إلى الشاخصات الإعلانية وما شابهها، وتصميم الشعارات والعلامات التجاريّة وإخراج الكتب والمجلات، وكل ما عداها من تصميم العلب ومواد التغليف بأنواعها إلى البطاقات البريدية وبطاقات المناسبات والمطويّات وطوابع البريد وغير ذلك من أنواع التصميم الغرافيكي، لكن شعبة التصميم المحدثة كانت تفتقر آنذاك إلى كادر تدريسي متخصص، باستثناء رائد التصميم الغرافيكي في سورية الأستاذ عبد القادر أرناؤوط، رئيس الشعبة، الذي كان يقرّر المشاريع، ولعلّ نقص الكادر المتخصص كان سبباً في أن الطلبة في ذلك الوقت، لم يتلقّوا دروساً عملية، أو تطبيقيّة على التقنيات المتعلقة بالتخصص، فلم يزوروا مطبعة في سياق الدراسة، ولم يتعرّفوا على أنواع الطباعة، و على الخطوات العمليّة اللازمة لإعداد التصميم للطباعة، ومراحل وآليات تنفيذه، بل درسوا نظرياً جوانب من ذلك، وبعض ما يتّصل بالتخصص كطباعة الشاشة الحريرية، في ملزمة للأستاذ المصري فاروق خليفة، الذي كان يعطينا مادة تكنولوجيا المواد، وكان من فضل الخطّ، وعملي كخطاط، عليّ أنّني دخلت في وقت مبكّر إلى المطابع، فتعرّفت عليها واكتسبت خبرة جيّدة في أنواعها وتقنياتها من التنضيد اليدوي والميكانيكي إلى التصوير الميكانيكي والزنكوغراف وصناعة وفرز الألوان وإعداد البلاكات، إلى الطباعة بالحروف والكليشيهات إلى طباعة الأوفست، وغير ذلك مما ساعدني كثيراً في مشاريع الكليّة وفي عملي بالتصميم الغرافيكي وفي تصميم الحروف الطباعيّة، وللأسف كان الخط العربي يُدرّس ضمن المواد النظرية وله حصة واحدة في الأسبوع في المرحلة التحضيرية، يعطيها الأستاذ الخطاط حلمي حباب، الذي كان يكتب على السبورة ويطلب من الطلاب النقل على الورق، وقد أعفاني من الحضور عندما رأى خطّي، وعلم أنني أعمل بالخط الذي تعلمته من الأستاذ بدوي، ونشأت بيننا علاقة طيّبة فصار يأخذ برأيي بخصوص من أدرّبهم على الخطّ من زملائي ودرجاتهم في المادّة، وكان الأستاذ أرناؤوط يعطي مشروعاً خلال سنوات التخصص لإعطاء فكرة عن استخدام الخطّ العربي في العناوين و"المانشتات"، وهذا قليل جداً بالطبع، مما جعل كثيراً من زملائي ينتظمون في دورات الخطّ العربي التي كنت أديرها بمعهد الثقافة الشعبيّة.
كانت كليّة الفنون في تلك السنوات تمتاز بأجوائها المحببة والعلاقات الديموقراطية التي تجمع بين الأساتذة والطلاب وبالعلاقات الطيّبة بين الجميع، ولعل الفضل في هذا يعود إلى روح عميدها الفنان الأستاذ محمود حمّاد، وشخصيته النبيلة المحببة، وأسلوبه الأخوي والأبوي، الحازم والمرن بذات الوقت، بإدارة شؤون الكليّة وأساتذتها وطلابها وإدارييها، وفي تشكيل العلاقة بين الجميع الذين كان يهتمّ بهم فرداً فرداً، وهذا ما انعكس على علاقات الأساتذة بالطلاب، وجعلهم يتعاملون معهم كأصدقاء وزملاء، فالأستاذ أرناؤوط مثلاً كان يمازحنا، ويحكي لنا آخر النكات وطرائف المتأتئين، الذين كان واحداً منهم، ولا أنسى مناوشاته معي قبل إعلان نتائج المشاريع التي كان يعطيني فيها أعلى الدرجات، وقد كنت أجعل الخط عنصراً أساسياً في تصميم كثير منها، وقد طبعت هذه الروح الحوار الذي قام بيننا بروح منفتحة وندّية حول الخط العربي والتصميم، و حول الحروف التي صمّمها، انتقلت هذه الأجواء أيضاً إلى علاقات الطلّاب ببعضهم فصار طلاب متفوّقون من السنوات الأعلى ينقلون خبراتهم تطوعاً لطلاب السنوات الأدنى، مكملين بذلك دور الأساتذة، فأنا مثلاً أدين بمعرفتي العميقة لأسس التكوين لفنان راحل، كان زميلاً في سنة أعلى هو بهيج عربش، ولعل هذه الإيجابيّة في العلاقات التقت مع طبعي وما اكتسبته من قيم، فكنت أساعد كثيرين في شرح بعض الأمور والتقنيات المتعلقة بالدرس والمشاريع، وفي تلبية ما يحتاجونه لمشاريعهم من خطوط، أو في تدريبهم على الخط العربي، وشرح تفاصيل تتعلق به، الأمر الذي وسّع دائرة علاقاتي بزملائي وارتقى بها، وكانت علاقتنا ببعضنا كطلاب تقوم غالباً على روح من الصداقة والتنافس الشريف مازال أثرها باقياً عند كثيرين منّا، وكنّا نتعاون أثناء تنفيذ المشاريع بكلّ شيء، من الأدوات والألوان والورق، إلى مشاركة الطعام والشراب في مقصف الكليّة الحميم، الواقع بالملحق على سطحها، حيث تعلو أصواتنا وضحكاتنا طالبات وطلبة، ونغني معاً أغاني الشيخ إمام، وناس الغيوان وغيرهم، أو نستمع إلى زميلة تغني لفيروز، أو زميل يعزف على الغيتار مثلاً، ونعلّق فوق لوحة معلّقة على الجدار ما تيسّر من أوراق فيها خواطر وأفكار وطرائف ورسوم كاريكاتورية، وربما شاركنا بعض الأساتذة أحياناً، كان هذا قبل تغوّل اتّحاد الطلبة بعد الإضراب الذي قمنا به عام 1976 وشارك فيه معظم الطلاب من السنوات الخمس، فأسقطوا اللجنة الإدارية للاتحاد، وانتخبوا لجنة للمتابعة كنت واحداً من أعضائها مع يوسف عبدلكي وربيع الأخرس وسمر موسى باشا وآخرون.
لقد تركت فترة الدراسة في الكلّيّة، بأجوائها التي عرضتُ جانباً منها، آثاراً إيجابية عديدة على مساري الفنّي، وكان لبعض الأساتذة دور كبير في ذلك، كحمّاد، الذي لم يدرّسني مباشرة، لكنه كان أمثولة في نبله وتواضعه، وكان يشجعني، ولا أدري كيف كان يتابع عملي، ولم يكن يخفي إعجابه بتعاملي مع إدخال الخط كعنصر أساسي في التكوين والتصميم، وكان عندما يحدثني في أمر من أمور الخط العربي لا يتحدّث إليّ بصفته أستاذاً، بل بصفته سائلاً يبحث عن جواب عندي؛ و أرناؤوط، الذي كان يهتم بعملي، ويدير معي نقاشات حوله، والذي شجعني وحضّني بحماس على تنفيذ فكرتي الأولى لمشروع التخرّج، التي كانت تصميم حرف جديد مختصر للطباعة، والاستخدامات المختلفة، وكان يتعامل معي كصديق وزميل، مع أنني كنت في بداية طريقي مع التصميم الغرافيكي؛ ومن الأساتذة المعلمين الذين لا أنساهم ميلاد الشايب، الذي كان معلماً وأباً محبّاً، ومؤسساً بحق للطلاب، في فهم رسم الوجوه، والتشريح الحركي، والظلّ والنور، وغير ذلك من أساسيات الرسم الأكاديمي؛ ومنهم الأستاذ المصري صلاح كامل، الذي كان يشجع المواهب المميزة، ويدفع بها إلى الأمام عبر التوجيه والنقد؛ أمّا الأستاذ فاتح المدرس فقد كان في رأيي فناناً وليس معلماً، لكنني استفدت كثيراً من تعليقاته وملاحظاته النقدية على المشاريع التي كان يعطيها لنا، ومن روحه المحبّة، و من حرّيته ودأبه في عمله، ومن تشجيعه لأفكاري وخياراتي في المشاريع وتعليقاته عليها، ومما لا أنساه أنّه طلب منّي في آخر السنة الثالثة أن أسلّم بشكل استثنائي مجموعة من المشاريع معاً عندما علم أنني لم أقدمها بسبب وفاة والديّ في حادث أثناء العام، وحكَّمَها، فلم أرسب بسببها، بل انتقلت إلى السنة التالية بتفوّق.
في سنوات الدراسة لم أكن الخطاط الوحيد في الكليّة، بل كان هناك عدد من الخطاطين، في سنوات واختصاصات مختلفة منهم: غسّان زرزور، وهاني لطف، ومحمّد غنّوم، ووليد الأغا؛ وكان بعضهم محترفاً، لكنهم كانوا يتعاملون مع الخط كحرفة تقليديّة منفصلة عن الفنون التي كنّا ندرسها، ويعتقدون أنّه وصل إلى ذروة تطوّره، وليس من الممكن تطويره كفنّ قائم بذاته، بينما كنت على خلافهم أرى أن الخطّ العربي فنّ قائم بذاته، يقوم على التجريد، ويتميّز بهيكليّة وقيم غرافيكيّة وتشكيليّة عالية، تمكّن الخطاط الفنان من تطويره، وإنتاج أعمال تشكيلية به متميّزة، في نوعها وشكلها وتصنيفها، ومختلفة عن الأعمال التطبيقيّة، والحروفيّة والوظيفيّة، وكنت أبني رأيي هذا على دراسات معمّقة، نظرية وبصريّة، لتاريخ تطوّره الجمالي الذي توقّف في عصور الانحطاط التي مررنا بها، ومن هذا المنطلق جرّبت خلال سنوات الدراسة أن أتعامل مع الخطّ العربي، وخصوصاً في سنوات التخصص، بشكل مطوّر ،كعنصر أساسي في تصميم مشاريع وإسكيزات كثيرة، من الملصق والإعلان، إلى علبة المناديل، إلى غلاف الكتاب، إلى بطاقة المعايدة، إلى الشعار، ولقي هذا رضى وتشجيعاً من الأساتذة، وفي مقدمتهم أرناؤوط، الذي تحمّس لفكرة أن يكون مشروع تخرّجي تصميم خطّ مختصر جديد للطباعة، والاستخدامات الأخرى، وكنت قد بدأت بتجريب حروفه فعلاً في بعض مشاريع السنة الأخيرة، فقدّمت تقريري عن المشروع وتمّت الموافقة عليه؛ لكنني انسجاماً مع موقفي من المستجدات السياسيّة، ودخول القوات السورية إلى لبنان، قررت تغيير المشروع ليصبح مجموعة ملصقات عن "القمع والتسلط العسكري"، وكان هذا يعني البدء من جديد بموضوع مختلف نوعيّاً، يحتاج إلى معالجة وتقنيات مختلفة، ويقتضي تأجيل التخرّج إلى دورة تالية، إذا نال الموافقة، فأعددت تقريري عن المشروع الجديد وطلبت استبداله وتأجيل تقديمه إلى الدورة التالية في آذار 1977، حاول الأستاذان أرناؤوط، بصفته رئيس القسم، والياس زيات، بصفته وكيل الكليّة، ثنيي عن الفكرة، خوفاً علي من تبعاتها، لكنني أصررت متذرعاً بالنظام الذي كان معمولاً به حتّى ذلك الوقت في الكلية، ويعطي الحقّ للطالب في اختيار الموضوع، على أن يقوم الأساتذة بمناقشته وتقييمه فنيّاً؛ قال لي أرناؤوط بتأتأته المحببة: شششو بدددك تحبسنا؟ فقلت له: لا، بيحبسوني أنا. فقال مازحاً: أي، روووح، تتتنمحق!. ثمّ قال لي أنّه كان متحمّساً لمشروع الحرف الجديد، لأنّه يعتقد أنني كنت سأقدّم عملاً نوعيّاً مميّزاً، يحقق فائدة كبيرة لي وللحرف الطباعي العربي، ويدفع غيري لخوض هذا المجال. وقال لي الأستاذ زيات، بعدما فشل في ثنيي عن تغيير المشروع: أضف "في العالم" إلى العنوان "القمع والتسلط العسكري". فقلت له: حاضر. التعميم هنا يفيد التخصيص؛ فتركني وهو يضحك بودّ ظاهر.
كان المشروع مجموعة من ملصقات الإعلان السياسي، وكان المطلوب تقديم 6 ملصقات كحد أدنى، لكنني في النهاية قدمت 19 ملصقاً، مقسومة إلى ثلاثة مجموعات نفَّذتُ معظمها اعتماداً على صور فوتوغرافية: الأولى، تقوم على معالجة صور وثائقية؛ والثانية، تعتمد على التأليف بين الصورة الوثائقيّة ،وصور قمت بتصويرها لخدمة الفكرة؛ وهذه كلها بقياسات أصغر من المجموعة الثالثة التي تتألف من 6 ملصقات بقياس 100x70 سم، يقوم كلّ منها على فكرة استخدمتُ في تنفيذها، بشكل أساسي، صوراً خاصة قمت بتصويرها لإيصالها بشكل معبّر فنياً، كانت صور الملصقات مطبوعة فوتوغرافيّاً بالأسود والأبيض، وبتقنية كانت الصورة مادتها الأولى، لكنني قمت بمعالجتها مستفيداً من تقنية الشبكة المستخدمة في التصوير الميكانيكي للصور لطباعة التيبو، مع المحافظة على درجات من الرماديات فيها، بالمزاوجة بين الشبكة والفيلم السلبيان (النيغاتيف)، عند طباعتها، وكان الغرض من ذلك الإيحاء بواقعيّتها وكأنها صورة مكبّرة من جريدة أو مجلّة، كما استخدمت في بعض الأعمال تقنية الطباعة بالشاشة الحريرية، مع الاحتفاظ بالشبكة، أو تلخيص الصورة بلا تدرج في اللون، أو الشبكة. أما العناوين فقمتُ بخطّها بالغواش الأحمر، بخطّ نسخ مبسّط خاص قمت بتصميمه ليلائم المشروع، وكان الأستاذ إحسان عنتابي، بعد أن عاد من التخصص حديثاً، وعُين مشرفاً علي، راضياً كل الرضى عن عملي الذي كان يتمّ في الكليّة، التي لم يكن فيها مخبر مجهّز بالأساسيات وبالأحواض الخاصة بتظهير الصور وتثبيتها ولا بجهاز تكبير وغرفة مظلمة لطباعة الصور وتجفيفها، لذا خصصوا لي الحمام والمطبخ لأعمل فيهما، فقمت بتغطية الشبابيك، ومنافذ الضوء، وبتجهيزهما على نفقتي بكلّ التفاصيل والأدوات اللازمة، التي تركت بعضها للكليّة بعد تخرجي، واضطررت لتظهير الصور الكبيرة في بانيو الحمام.
في يوم التحكيم مُنع الأهل والأصدقاء من الدخول، وعلى خلاف المعتاد مُنع من دخول قاعة التحكيم أيضاً الطلاب، الذين تعتبر مناقشات التحكيم تدريباً لهم، وحضر ت هيئة التحكيم وعرضت المشروع، فوجّه لي أحد الأساتذة سؤالاً استفزازيّاً، يتعلق بالجانب السياسي لا الفني، فقام الأستاذ حمّاد بإيقافه، وتنبيهه أن من شأن المحكمين مناقشة الطالب بالجوانب الفنيّة والتقنية، ومدى تلبيتها للموضوع المطروح، بعيداً عن اختلافهم أو اتفاقهم مع أفكاره، فاعتدل الجوّ، وأجبت على الأسئلة التي وجهت إليّ، ثم اجتمعت الهيئة ودار جدل ساخن بين من حاولوا إعطائي درجات متدنية، بسبب الخوف من الموضوع، أو بحجّة عدم وجود رسم في الأعمال المقدّمة، فرد عليهم الأستاذان أرناؤوط، وحمّاد الذي قال لهم: هذا الطالب عندكم منذ 5 سنوات، اجتازها بنجاح وتفوّق بالرسم وغيره، وهذا مشروع في تخصص آخر، غير التصوير، يمكن له فيه أن يتعامل مع التقنية والأسلوب الذي يراه ملائماً. لم تفلح تلك الأصوات بتخفيض الدرجة بتقييماتها المتدنية للمشروع، أكثر مما فعلت، (هذا ماعرفته من أحد الأساتذة بعد ذلك)، وأعلنت نتيجة التحكيم ونال مشروعي على رغم ذلك الدرجة الأعلى على الدفعة وكانت 85 من 100؛ ولعل الصبغة السياسيّة لمشروعي، ومشروع يوسف عبدلكي، ومشاريع بعض الزملاء، في دفعتنا والدفعة التي تلتها، الذين كان تفوقهم يؤهلهم للعودة كمعيدين، وللابتعاث للدراسات العليا في الخارج، هي السبب وراء إيقاف اختيار المعيدين والمبعوثين من المتفوقين، وقصر ذلك على الحزبيين ومن شاكلهم، ونبّهت المسؤولين أن يحددوا للطلاب موضوعات مشاريعهم بعد ذلك.
حدثنا عن أوّل معرض فنيّ فرديّ لك وأيّ معرض تعتبره مفصليّاً في مسيرتك وفي تبلور وجودك الفنيّ.
معرضي الفردي الأوّل كان لأعمال مشروع تخرجي، في العام نفسه بالمركز الثقافي بسلمية، بدعوة من مديره عبد الكريم الضحّاك، بعدما سمع عن منع إقامته في دمشق، وقد أقيمت مع المعرض ندوة حاشدة، حوله وحول موضوعه، وشهد حضوراً ومشاركة كبيرة من جمهور المركز الذي كان شديد النشاط.
أمّا المعرض الفردي الأوّل في المسيرة والمهمّة التي اخترتُها لتجديد الخط العربي، وتطويره كفنّ تشكيلي قائم بذاته، فقد تأخّر عشر سنوات قضيتها بين الخدمة الإلزامية والملاحقة بين سوريّة ولبنان التي عملت فيها ثلاث سنوات، تلتها ثلاث سنوات في قبرص، اضطررت فيها لاستخدام اسم مستعار هو "عماد حليم"، وقد جرّبت خلالها، وأغنيتُ، كثيراً من أفكاري في تطوير الخط العربي، وتحديثه، والإضافة إليه، فنّياً وطباعيّاً، على تصميمات المطبوعات وأغلفة الكتب والشعارات وغيرها، في سياق عملي الغرافيكي، ثم انتقلت إلى القاهرة حيث استرخيتُ بعد هذه السنوات، واستعدت اسمي في أّول معرض لتجربتي أقيم في أتيليه القاهرة للفنانين والكتّاب، عرضتُ فيه مجموعة من الأعمال،
ووزعتُ فيه كتيّباً صغيراً حوى مُلخّصاً عن رؤيتي، وما يشبه بياناً أوّلياً مقتضباً عمّا أطمح لإنجازه في مجال اللوحة الخطّيّة في هذا المعرض وما سأقدّمه بعده، و على رغم ذلك كنت أهيّء نفسي لمناقشات ومواجهات قد تجري مع المحافظين من الخطاطين، الذين يعتبرون الموروث الخطّي كما آل إلينا هو الذروة التي لا يمكن ولا يجوز تجاوزها، ومع تشكيليين ونقّاد اعتادوا حشر الخط العربي في خانة الفنون التقليدية، واستبعاده من ساحة الفنّ التشكيلي، لكنني فوجئت بالإقبال الكبير والإعجاب والحفاوة التي استقبل بها من المشاهدين العاديين والخطاطين والفنانين والنقاد الكبار، يدلّ على هذا ما كتبه الزوّار في سجلّ المعرض، والحضور والمشاركة في الندوة التي أقيمت لمناقشته وتحدّث فيها وأدار الحوار الفنّان الغرافيكي المتعدد محيي الدين اللباد؛ بالإضافة إلى الكتابات الصحفيّة والنقدية لفنانين ونقّاد بارزين، منهم الناقد كمال الجويلي، وفي مقدمتهم أستاذ الفنانين حسين بيكار، الذي كتب عن المعرض كلاماً نقديّاً أخجلني المديح الذي ورد فيه ووصفه لي بـ: "آخر فرسان فنّ يكاد ينقرض"، والتجاوب والحماس الذي أبداه الفنان حسن سليمان، وما كتبه بعد ذلك؛ وكان من دواعي سروري الإعجاب والإيجابية الشديدين اللذين أبداهما آخر أساتذة الخط الكبار المجدد الفنّان محمّد عبد القادر، الذي صار يحثّ أساتذة وطلّاب مدرسة تحسين الخطوط على حضور المعرض، ويشرح لهم ويناقشهم ويحدّثهم بإعجاب عن الأعمال المعروضة، والتطوير الذي أحدثته فيها؛ وموقف كبير الخطاطين وشيخهم في مصر الأستاذ سيّد إبراهيم، وما كتبه في سجلّ المعرض الذي حضره متكئاً على ذراع ابنته وقد جاوز التسعين.
كان هذا المعرض مفصلياً، فتح أمامي الآفاق، و كان مؤثّرا أشد التأثير، ومحفّزاً لي على مدّ الخطوط على استقاماتها والمضي قدماً لاستكمال ما أستطيعه من المهمات التي طرحتها على نفسي، ودعوت الأخرين دوماً للمشاركة بها، وعنوانها العريض: استعادة مكانة الخطّ العربي بين الفنون الجميلة؛ وهذا أمر الذي لا يمكنّ تحقيقه إلا بجهود مبنيّة على معرفة عمليّة عميقة بالفلسفة الجمالية التي يقوم عليها، و بهيكله الأساس، وبتاريخ تطوّره نظريّاً وبصريّاً، وعلى العمل على إخراجه من قفص القدسية الذهبي الذي وضع فيه منذ العصر العثماني، ومن تسيّد الروح المحافظة التي جعلته يستنقع ويتوقف عن التطوّر، بعد أن كان فناً فاعلاً، وقاسماً مشتركاً للفنون التي عرفتها الحضارة العربيّة في مجالاتها الدينيّة والدنيويّة على حدّ سواء، كما كان الحال مع التصوير والنحت في العمارة والفنون الغربيّة، وقد عملت على هذا في أعمالي الخطيّة التي اعتمدت في تشكيلها على الخطّ وحده، بشكل يتّفق مع أسس التشكيل الجامعة لكلّ الفنون الجميلة، وفي تصميماتي الغرافيكيّة، وهذا ما فعلته في الجهد النظري الذي قدّمته، وقد حققت في سياق ذلك نجاحاً في نشر جرثومة التحديث لدى خطاطين شباب، عبر الخطوط التي طوّرتُها وحدّثتُها وأحييتُها وابتكرتُها وصممتُها، وعبر التجديد في بناء اللوحة الخطيّة بما يتفق مع التطور الذي عرفته الفنون الأخرى، كذلك الحال في تصميم الشعار والحروف الطباعية وغير ذلك مما يتّصل بالتصميم الغرافيكي.
من ناحية أخرى عنى لي الكثير معرضي الأول بعد عودتي إلى سورية الذي أقيم في صالة أتاسي بدمشق، وحفّزني كثيراً الحشد الكبير الذي حضره من فنانين وأصدقاء ومتابعين، والاستقبال الذي قوبل به من الجميع، وشعرت أنني عدت إلى المدينة التي كان مفترضاً أن أعرض تجربتي فيها أوّل مرّة، قبل سنوات من أوّل معارضي الذي أقمته مكرهاً بعيداً عنها، وقد ترك هذا المعرض في نفسي شعوراً مزدوجاً بالنجاح في تحقيق ما بدأته في دمشق، والانتصار على كل المعيقات التي سببها القمع والاستبداد، وجدّد روحي بشكل أثّر في أعمالي اللاحقة.
في السبعينات كانت الحروفيّة في أوجها في العالم العربي، وهي اتْجاه تشكيليّ تجريديّ اعتمد على شكل الحرف وعلى رمزيّة الكلمة وارتباطها بالنص القرآني في أحيان أقلّ. في المقابل فإنّ الخطّ العربيّ كفنّ مستقلّ قد يكون مساحةً أوسع للخيال والصورة من الرسم المباشر للكلمة، بفضل ارتباطه الوثيق بمعنى العبارة وباللغة العربية كمفاهيم، وذلك لارتباطها فنيّاً بموروث الشعر العربيّ والأمثال العربيّة وكثافتها الصوريّة. كيف تنظر إلى الحروفية واختلافها عن فنّ الخطّ؟
أنظر باحترام كبير للرواد الذين استلهموا الحرف العربي في أعمالهم التشكيليّة (بأشكاله الكتابية المرتبطة بوظيفته، و بصيغته الغفل، لا بأساليبه الخطيّة الفنيّة) وكان ذلك مرحلة البحث عن هويّة فنيّة عربية، بعد أن تلقوا تعليمهم الفنّي في الغرب، و أعتقد أن هؤلاء تعاملوا مع الحرف بطرق مختلفة ولم يطلقوا على أنفسهم تسمية الحروفيين، التي ألصقت بهم فيما بعد، ثمّ أتت موجة، لا تشبههم في مقاصدها أو في إنتاجها، استخدمت الحرف، والخط العربي، لتلبية حاجة القصور المحدثة، في بلدان الطفرة النفطيّة، التي كانت تحرّم التصوير فظهرت لوحات ملونة تقوم على الخط والزخرفة بمحتوى ديني وتقنيات ومعالجات مختلفة لوجيه نحلة مثلاً ولغيره ممن قدّموا أعمالاً تدخل في خانة الفنّ التطبيقي وتبتعد عن روح فنّ التصوير وروح الخط العربي اللذين تتمسّح بهما، ولقيت أعمال هؤلاء رواجاً في الخليج، وتأييداً من غلاة القوميين الذين بلغ الأمر ببعضهم إلى التنظير لفنّ قوميّ عربيّ، أما الموجة الثالثة فبدأها في أوربّا خطاطون أو رسامون مهاجرون لهم اطلاع على بعض الخطوط، وقدّموا بعض الأعمال التي لاقت قبولاً من جمهور متأثر بأجواء ألف ليلة وليلة، واستشراق يرى سحراً في كل ما يُكتب من اليمين إلى الشمال، وروّج لهم أشخاص مؤثرون في هذا الوسط، ثم عادت هذه الموجة إلى الشرق والخليج أوّلاً، والتحق بها بعض الرسامين والخطاطين، الذين وجدوها رائجة لدى جمهور لم يعرف التمييز في الفنون حقّ المعرفة، فصار بعض الخطاطين يخطّون حروفاً وكلمات ملوّنة بخطوط تقليدية، يجمعونها أو يبعثرونها على لوحات، ويسوقوها على أنّها فنّ حروفي، ولا أقصد من هذا السرد الانتقاص من قيمة بعض الفنانين المتميّزين الذين استلهموا الحرف، أو استخدموا في بعض لوحاتهم كلمات، أو مانشيتاً من صحيفة مثلاً، فأدخَلَهم في خانة الحروفيين بعض الصحفيين، المتزيين بزي النقّاد، والذين روّجوا للحروفيّة العربيّة بصفتها اتجاه واحد، جمعوا فيه الغث مع السمين، دون معطيات فنيّة وتشكيلية جامعة، إلا إذا اعتبرنا وجود الحرف أو الخطّ وحده إناءً نضع فيه ما شئنا وننسبه إليه.
لقد اعترضت دوماً على اعتبار الحروفية تيّاراً يجمع كل من تعامل بطريقة أو بأخرى مع الحرف أو الخطّ العربيّ، أو اعتباره حداثة في الخطّ العربي واستخداماته التشكيليّة، فأنا لا أرى أي حداثة في أيّ عمل لخطاط يملأ لوحاته بخطوط ملونة لاتقوم على بنيان تشكيلي، وكأنها ليست سوى خلفيّة لعمل غير موجود؛ وقد كثر هؤلاء للأسف في السنوات الأخيرة.
عذراً على الاستطراد، لكنّ أمر الحروفيّة، واعتبارها تياراً مجدداً في الخط العربيّ، بات مستفزّا لي؛ كما يستفزني كثيراً تصنيفي أو اعتباري حروفيّاً، وهذا للأسف أمر مللت من نفيه ودحضه، فأنا أعتبر نفسي خطّاطاً مطوّراً ومجدداً، ينطلق مما تم إنجازه إلى الآفاق الرحبة لهذا الفنّ الذي يحمل قيمه التشكيلية في جوهره وهيكله وبنيانه، وتطوير كلّ فنّ وتحديثه لا يعتبر تطويراً وتحديثاً مالم ينطلق من بنيته، وأسسه الجوهرية، لاستحداث شيء فيه بصريّاً وبنائيّاً بخلْقٍ وإبداع، والتطوير والحداثة في الخط العربي تقوم في رأيي على الإحياء، والتطوير، والابتكار، والإضافة الجماليّة في كل التفاصيل، من الأشكال التي تكسو هيكل الحرف فتمنحه مظهراً مختلفاً، إلى اتّصاله بالحروف الأخرى، إلى الانسجام البصريّ بين الحروف في اجتماعها وافتراقها، وفي تتاليها وتراكبها، ثم في قابليتها للمد والتحريك، والبناء أفقيّاً وعموديّاً، والتصرف بها بما يخدم ذلك، ثمّ في تشكيلها بطرق جديدة غير نمطيّة أو تقليديّة، وكل ماعدا ذلك، مهما علا، ليس أكثر من حرفنةٍ وتجويدٍ في الصنعة، يراكم ولا يجدّد كما يفعل الخطاطون المحافظون والمقلدون على اختلاف مستوياتهم، أو في حالات أخرى توظيفاً، واستخداماً تقليدياً لما أنجزه السابقون في عمل مدجّن لا هويّة له، أو ينتمي في أحسن الحالات إلى فنّ آخر؛ وقد عبّرت عن رأيي هذا بأشكال متعددة مقروءة أو مسموعة وفي محاضرات وندوات ومناقشات في أكثر من مناسبة. وللتوضيح أنا لا أرى أي صوابيّة في إلحاق صفة حروفي باسم فنان كبير، لا تشكّل الكلمة أو الحرف، مكتوباً أو مخطوطاً، إلا عنصراً في عمله، الذي يجب التعامل معه نقدياً حسب تصنيفه التشكيلي. أمّا من يقوم عملُه على الخطّ فلا تصح تسميته إلا خطاطاً، ويحاسب نقديّاً على هذا الأساس.
دلالات الكلمات لها مكان في فنّك وهذا يظهر من اختياراتك للعبارات. لكن في أعمالك هناك بنية تشكيليّة أخّاذة تميز هويتك، تجعل عملك يقع بين براعة احتراف الخطّ وجماليات تكوين اللوحة. حدثنا عن هذا الجانب من بناء اللوحة لديك وعن مبادئك البصريّة. حدّثنا أيضاً عن خصوصية الخط العربيّ التي تمنحه الخصوبة الفنيّة. فكما هو معلوم، عَرفت حضارات عديدة من كلّ أنحاء العالم ومنذ القرون الوسطى تزيين الحرف وتنميقه وتجميله. إلّا أنه بالنتيجة لم تبرز فنون خطّية باللغات الأخرى على النحو القائم في العربيّة.
الخطّ العربي، على اختلاف اللغات التي تكتب به، مرتبط بالكلمة، ككل خطوط اللغات الأخرى، لكنّه وعائلة الخطوط الصينيّة – اليابانية، ارتقيا ليصبحا فنّين جميلين، لكلٍ منهما خصائصه، وميّزاته، وأساليبه، وجمالياته المختلفة؛ غير أنّ دينامية الخطّ العربي تجعل إمكانيات تطويره غير محدودة، لأنّه في الأصل تجاوز في تجريده الطور الرمزي أو المقطعي للكتابة، إلى الكتابة بالحروف، ثم تمّ تطوّيره، هيكليّاً، وجمالياً، وفنّياً، بشكل نَقَلًه من وظيفة التوصيل الدنيا، إلى الوظيفة الفنيّة، وصار حاملاً ومولّداً لإمكانات لا تتوفر في خطوط اللغات الأخرى منفصلة الحروف، والتي تقوم على وحدات متشابهة متتابعة، كاللاتينية والسلافية وغيرها، وتفتقر إلى خصاّص تشكيليّة في بنيتها، مما جعل بعضهم يتّكئ على فنون أخرى لإضافة قيمة جمالية إلى عمل ضمّنه بعض الكلمات أو الحروف، وقد مكَّنَت الإمكانات التي ذكرتُها المبدعين في مسيرة الخطّ العربي من تطويره بشكل متسارع ومتعدد الأوجه في مرحلة الصعود الحضاري، وجَعَلَت تطويره بصرياً، والتصرف في بنائه جمالياً، مُمكنين للمبدعين من الخطاطين في كلّ وقت، وتكمن هذه الإمكانات في وجود الصواعد والنوازل بين حروفه، وتعدد أشكال كلّ منها، واختلافها حسب موقعها في الكلمة، وتبعاً لجماليّة اتصالها بغيرها، يضاف إلى ذلك الوصل والقطع، وإمكانيّة المدّ والرجع، والتراكب والتداخل، والبناء الأفقي والعمودي، والمرونة والتناغم بين الاستقامة والانحناء في أنواعه المختلفة، مع المحافظة على إمكانية القراءة؛ كما تشكّل نقاط الحروف وعلامات الشكل إضافة جماليّة إيقاعيّة، أضف إلى ذلك عدداً من الميّزات التي تلبي ضرورات التشكيل الفنّي بنائيّأ وبصرياً، وتتقاطع وتتناسب معه.
قد أكون استطردت، لكن أراني مضطراً لتوضيح بعض المسائل الغائبة، قبل الدخول في كلّ نقطة أريد التحدث فيها حول أمر يتعلّق بفنّ الخط العربي، لغياب الدراسات، والمداخل إلى فهمه بصريّاً وتشكيليّاً.
الخطّ العربي إذاً فنّ يقوم على الكلمة، التي تتشكل من حروف، وهذا يعني أنّه يقوم على المجرّد، وليس على المصوّر والمشخّص، لكنه يتميّز بأنه تجريد راق حامل للدلالة، وليس تجريداً فحسب، ولهذا فإنّ التعامل معه كفنّ، يقتضي من الخطاط المبدع فهماً عميقاً، وبراعة في التعامل مع الإمكانيات الخاصة، التي تحدثت عنها قبل سطور، ومقدرة على مزاوجتها مع الأسس العامّة الجامعة للفنون التشكيليّة، وهذا ما عملت على تحقيقه في تجربتي وأعمالي، التي حرصت على الجمع فيها بين بلاغة المعنى وجمال المبنى في وقت واحد، وتحقيق الانسجام بينهما بأكثر ما يكون من التلخيص المعنوي والبصري، واهتممت في الوقت نفسه بضبط العلاقة بين الفراغات الداخلية وكتل الحروف، وبين كتلتها العامة والفراغ المحيط بها، كما عنيت باختيار نوع الخط لكل عبارة ليكون متسقاً مع روحها، فابتعدت عن التعامل مع الخطوط القاسية لتشكيل عبارات في الحبّ مثلاً، على الرغم أني قمت بتشكيل عدد من العبارات بخطوط مختلفة دون أن أخلّ بذلك، أو تغريني سهولة بنائها بخطٍّ لا ينسجم مع روحها، وحرصت كلّ الحرص أن تكون لوحتي متكاملة، ومتناغمة، بصريّاً ومعنويّاً، وكنت شديد الصرامة في تنفيذ أعمالي بدقّة وإحكام، في فنّ يقتضي الإحكام، والتضاد ويتميّز بهما، لذلك وجدتني أختزل الألوان التي كنت أستخدمها في أعمالي في البدايات، لأنني وجدت أن تعددها لا يضيف إلى اللوحة، بل يضعف تأثيرها، ولا يعدو أن يكون ثرثرة لونية، ولغواً بصرياً، وخلصت إلى أن لوناً واحداً، كالأسود مثلاً،
قد يتلوّن في ذهن المتلقي بما توحي له به اللوحة معنىً ومبنىً، وجعلت النقاط بلون مخالف (الأحمر غالباً)، ووزعتها كتكوين مستقلّ متناغم مع التكوين العام، لخلق إيقاع بصري يحرك عين المتلقي، ويسهم في نفاذ العمل إلى روحه وبصيرته، وقد قمت بهذا إلا في الأعمال التي رأيت أن اللون قد يضيف إليها بعداً رمزياً، ومن نافل القول الإشارة إلى أنني ابتعدت عن اللغو والحشو، والاتكاء على التشكيل، والزخرفة، كما جرت عادة الخطاطين لضبط التركيب، والتعامل مع فراغاته التي يعتبرونها عيباً، دون إدراك أن الفراغ يمكن أن يكون جزءاً فعالاً في جمالية العمل إن أحسن توظيفه.
سافرت إلى عدة بلدان عربيّة وعملت فيها ، بيروت والقاهرة خصوصاً. هل تعتبر أن المشاهد الفنيّة في المدن العربية متشابهة أو تشكل امتداد لبعضها البعض، أم أن الظروف السياقيّة في كل بلد تخلق الاختلاف؟
يرى البعض بعين تغذيها عواطفهم ومشاعرهم القوميّة أن هناك جوامع عديدة للفنّ الحديث في البلدان العربيّة تجعله متّصلاً ببعضه أكثر من اتصاله بالفن في البلدان الأخرى، وأن الإنتاج الفني في البلدان العربية يتشابه إلى درجة جعلت البعض ينظّر لفنّ قومي عربيّ؛ لكنني لا أنظر إليه من هذا المنظور، فهو لم يكن نتاج تطوّر طبيعي للفنون التي عرفتها هذه البلاد في المراحل الحضارية التي جمعت بينها على أصعدة عديدة كانت الفنون في مقدمتها، وعَرِفت خلالها سمات واحدة جامعة مع التنوع، قبل التراجع والانحدار الحضاري الذي عاشته لقرون عديدة في ظلّ العصر العثماني، ابتعدت خلالها عن الإسهام في ساحة الفنّ التشكيلي ومتابعة ما يجري من تطورات فيه، وساد فيه الاجترار في الفنون التقليديّة، الأمر الذي جعل الروّاد الأوائل للفن التشكيلي المعاصر في المنطقة العربيّة (وأقصد بكلمة الرواد معناها الأصلي) يلتحقون بالفن الغربي ومدارسه، دون ربط بينه وبين ما انقطع، في ظلّ مناخ تسوده المحافظة، وكانت مصر، التي أخرجها مشروع محمّد علي الطموح من السيادة العثمانيّة، بالإضافة إلى الطابع "الكوسموبوليتاني" الذي تشكّل في مدينتيها الرئيسيتين، هي الأسبق في التعامل مع "لوحة الحامل" وظهر فيها فنانون روّاد، اختلفت أساليبهم ورؤاهم في أعمال غربيّة التقنية، والمعالجات متأثرة بالمدارس الغربية، لكنّ كثير منها تناول موضوعات ومشاهد لها صلة بالبيئة المحلّية ومشهديتها مما أكسبها خصوصيّة محليّة، وميّز بداياتها عن غيرها من البلاد العربيّة، التي دخلتها لوحة الحامل متّأخّرة، فظهرت في العراق الذي عرف لاحقاً حركة فنيّة ناشطة ذات سمات خاصة،
وفي السودان حيث ظهرت حركة فنّية، خرج منها مجموعة من الفنانين منحوها طريقها الخاص بعد ذلك، عندما أسسوا مدرسة الخرطوم التي ميّزت الفنّ الحديث في السودان، ونجحت في استقطاب جمهور واسع غير نخبوي فحسب، أمّا سورية التي كانت تشمل لبنان، فقد كان فنانوها الروّد مختلفين، في مناهلهم ورؤاهم وإنتاجهم، فلم تجمعهم حركة واحدة، ولم تستمر بعض الجماعات التي تشكّلت في مرحلة متأخرة، لعدم وجود رؤية واحدة تجمع بين فنانيها، ولم تظهر في المغرب العربي حركة مميزة، إلّا في تونس، وكانت بدايتها في ظل الاستعمار الفرنسي، وظهرت في البدايات أسماء قليلة في المغرب والجزائر ، لقد أدّى الالتحاق بالفن الغربي، واعتباره البداية بالنسبة للرواد، إلى قطيعة مع التراث الفني العربي، الأمر الذي جعل اقترابه من بعضه وتشابهه غير حقيقي في الجوهر، والتقنيات، والاتجاهات الفنيّة، إلّا إذا اعتبرنا الاشتراك ببعض المظاهر والشكليات مقياساً فنيّاً، ثمّة تمايز بين الحركة الفنيّة التي عرفتها مصر وبين الحركات التي عرفها كل بلد عربي، لكنّ الأمر لا يخلو من أمور تجمع، في العقود الأخيرة، بين تجارب فنانين من بلدان مختلفة ممن حاولوا الربط بشكل واعٍ بين أمور جوهريّة في الموروث الفنّي العربي والفنّ الحديث، كالخصوصية في المنظور والتكوين، وفي طرائق الرسم وتبسيط الأشكال، وفي الرؤى البصريّة واللونية، وفي الزخارف الهندسية، والخطّ العربي، وحقق بعضهم نجاحات مميزة في خصوصيّة أعمالهم، وتحررهم من الهيمنة الغربية في أساليبهم ومعالجاتهم، مما جعلهم مؤثرين وفاعلين في الساحة التشكيلية في البلدان العربية، الأمر الذي أسهمت فيه زيادة المعارض، والفعاليات الفنيّة، وصالات العرض، وسهولة التواصل والاطلّاع عبر النت ووسائط التواصل الاجتماعي.
كيف ترى فن الخط اليوم في المشهد السوري، ثم في العالم العربي بالعموم؟
المشهد السوري في الخطّ العربي للأسف مازالت تسيطر عليه العقليّة التقليديّة السلفيّة، والساحة تفتقر إلى الخطاطين المبدعين على رغم وفرة عدد الخطاطين المجوّدين وتفوّقهم في الخطوط التقليديّة، لأسباب عديدة، أوّلها انعدام الاهتمام الرسمي به على مستويات مختلفة بدءاً من إهماله تعليمياً في مراحل التعليم المختلفة نظريّاً وعملياً، وعدم وجود قسم خاص له في كليّة الفنون الجميلة، واقتصار ذلك على بضعة مراكز فقيرة الإمكانيات تتبع وزارة الثقافة بها دورات لتعليم الخط التقليدي، و درس نظري لا طائل منه في كلّية الفنون الجميلة، و قسم في معهد الفنون التطبيقيّة يتمّ التدريس فيه بالطرق والأدوات التقليديّة، التي تقتصر على خطوط معيّنة وأدوات محددة، وعلى فنون ألصقت به لا وجود لرابط بنيوي بينها وبينه، وليس في منهاج هذا القسم ما يشجّع على الابتكار الحقيقي والتجريب، ولا مواد تفيد في تثقيف الطلاب بالجوانب التاريخيّة والجماليات الهيكليّة والبصريّة التي يقوم عليها الخطّ العربيّ والتي مكّنَت من تطويره، وعلاقة جمالياته وخصائصه بالفنون التشكيليّة، ولا مواد تمنحهم ثقافة فنيّة عامّة وتفتح الآفاق الفنيّة والإبداعية أمامهم، بالإضافة إلى الغياب التامّ لأي دور إيجابيّ يقوم به اتحاد الفنانين التشكيليين تجاه هذا الفنّ وفنانيه، بل على العكس فهو يقيّم أعمالهم عند الاقتناء بحدود دنيا غير لائقة بمقارنتها بالفنون الأخرى؛ أمّا ثانيها فهو هيمنة العقلية التقليديّة على الكثرة الغالبة من الخطاطين، ونجاح بعض المؤسسات المدعومة بأموال الخليج والمؤسسات الإسلاميّة المسيّسة في جذبهم من خلال المسابقات التي تقيمها، وتقدم فيها جوائز في خطوط تقليديّة، تُحدّد فيها العبارات، و القياسات، والأدوات، والأوراق، التي يجب
استخدامها لإنجازها، وتجنح إلى المدرسة العثمانيّة في الخطّ العربي، وتعتمد على مستشارين من الخطاطين الأتراك و تلاميذهم، بإشراف من منظمة "الأرسيكا"، التابعة لمنظمة العالم الإسلامي، وثالثها الوضع الاقتصادي المتدهور الذي يُجبر كثيراً من الخطاطين على القيام بأيّ عمل يُطلب منهم، وكما يريد الزبون، في غياب أيّ نوع من أنواع الاهتمام بالمواهب المتميّزة في العاصمة والمدن والمناطق النائية على السواء، ولعلّ لقمة العيش كانت سبباً رئيسيّاً في إعطاء بعض المبدعين الحدّ الأدنى من وقتهم لعملهم الإبداعي الذي يحتاج إلى مال، ووقت، وجهد لتنفيذه، وطرق خاصة غير متاحة لتسويقه، بالإضافة إلى كثير من الأمور المؤسفة التي تضيّق من مجالات العمل التطوعي في ذلك، تحت ذرائع شتّى أمنيّة وبيروقراطيّة، فأنا شخصياً عرضتُ بعد عودتي إثرَ غيابٍ دام 25 عاماً، بسبب الملاحقة لأسباب سياسية، أن أقوم بالتعاون مع كليّة الفنون الجميلة، ودون مقابل ماديّ، بعمل دورات لمن يرغب من الطلاب في تصميم الشعارات انطلاقاً من الخطّ العربي؛ و في تصميم الخطوط الطباعيّة العربيّة، وقد رحّب عميد الكلّية ووكيلها في ذلك الوقت بالفكرة، لكنها نامت في الأدراج لأسباب لم أعرفها !، كما أنني هيّأت مرسمي لأقيم في صالته ندوة شهرية، يشارك فيها مختصون في مجالات مختلفة، لإعادة التأريخ نظريّاً وبصريّاً لفنّ الخط العربي، عبر قراءته بعين مغايرة، بعيداً عن تأثير الاستشراق، والسلفية الدينيّة والخطّية، وعمل دورات وورشات للمهتمين بتصميم الشعارات، والحروف الطباعيّة، وللخطاطين الذين يرغبون بتجاوز الأساليب التقليدية في التعامل مع الخط واللوحة الخطيّة، لكنني لم أنجح في ذلك، لأنّه طُلب مني أخذ موافقة من مديرية الفنون لكلّ ندوة أو جلسة على حدة؛ وغير ذلك كثير.
الخط العربي في المشهد السوري، ومنذ زمن طويل، بائس ومريض، حاله حال البلد كلّها، وما آلت إليه، أما الفنانون الذين استطاعوا إنجاز شيء فيه، على رغم ما سبق، فهم أقلّ من أصابع اليد الواحدة، وأنا لا أرى في حروفيّة بعض الفنانين السوريين الممارسين، على اختلاف مستوياتهم، إنجازاً فنيّاً أو خطّيّاً، أمّا في المنطقة العربية فالحال ليس أفضل، في جوهره الفني، لكنّه مختلف في الإمكانيّات الماديّة المتاحة، والاهتمام الرسمي، وتعدد المناسبات بين بلد وآخر؛ ووجود ملتقيات وبيناليات، ومعارض، ومناسبات، ومسابقات عديدة للخط العربي في بعض البلدان، لا يعني، بالضرورة، أنها توجّه بشكل صحيح نحو الاهتمام بتطويره وتحديثه كواحد من الفنون التشكيليّة التي تميزنا، فمازال التقليد هو السائد فيها جميعاً، وما زالت السلفية الخطيّة والدينيّة تسيطر عليها، ومازالت جوائزها تتجه نحو من يلبّون شروطها، وأسماء هذه المناسبات خير دليل على ذلك، ومن الغريب أنها تتبنى حروفيّات الخطاطين، وتعتبرها هي الحداثة والتطوّر في الخطّ العربيّ، وتحارب التجديد والتحديث في بنيته خطّياً وتشكيليّاً بحجة أنه اكتمل وبلغ ذروته في المدرسة العثمانية.
عرضت كثيراً في بلدان غير عربية وكانت معارض ناجحة. كيف تصف علاقة الجمهور غير قارئ للعربية بفنّك؟
كنت أنظر برضى إلى حضور أجانب لمعارضي التي أقمتها في مصر وتونس وبلدان عربيّة أخرى، و يسرّني اقتناؤهم لأعمال منها، وكنت أعزو ذلك إلى أنهم يتعلمون العربيّة ويحبونها، أو إلى أنهم مهتمون بالثقافة العربية أو متأثرون بالمستعربين المحبين للفنون العربيّة؛ على رغم اقتناعي بأنّ أعمالي مبنيّة على فن مجرّد من نوع خاص، وبتجريدية في التكوين والتشكيل، حتّى كان أوّل معارضي الفرديّة الخارجيّة، الذي أقيم في قاعة متحف ريتبرغ زيوريخ، في نهاية القرن الماضي، وقمتُ خلاله بعمل ورشات للأطفال، بطلب من إدارة المتحف، لتعريفهم بفنّ الخط العربي؛ وقد وضعت في ختام كل ورشة فقرة هي عبارة عن مسابقة لتمييز كلمات في اللوحات المعلّقة باستخراجها من بين كلمات مكتوبة بخطّ عادي، على أوراق منفصلة، وكانت النتيجة تفوق التوقعات بكثير، الأمر الذي حيّرني، لأن النتائج في ورشتين مماثلتين سبق أن أقمتهما في القاهرة وتونس لم تكن موفقة كما حصل في هذه الورشات، وقد اكتشفت الإجابة على ذلك، وعلى سبب إقبال الأجانب على حضور معارضي والاقتناء منها، وكان هذا الاكتشاف في متحف الفنّ الحديث، المجاور للقاعة التي كنت أعرض فيها، والذي كنت أمضي فيه بعض الوقت كل يوم، فأرى كلّ مرّة مجموعات من الأطفال يتجولون في المتحف برفقة مشرفين، ويعبرون عما يشاهدونه، ويتناقشون حوله، دون تدخّل من المشرفين. في هذا المتحف اكتشفت الإجابة التي تتلخّص بأن عيونهم مدرّبة بسبب زياراتهم للمتاحف وذائقتهم كذلك؛ وسرّني أنّ كثيراً من أعمالي ذهبت إلى أناس تربوا بهذه الطريقة على تذوق الفن بحرّية، ودون وصاية أو تنميط من أيّ نوع؛ وهذا لا يعني أن معنى العبارة التي تتضمنها كل لوحة تم اقتناؤها لم يكن مهمّاً لكل شخص اقتنى عملاً من أعمالي، بل إنّ معظمهم كانوا قبل اختيار لوحة ما يفاضلون بين محتواها ومحتوى لوحة أو أكثر من اللوحات التي جذبتهم.
للتعرف على تفاصيل سيرته الفنيّة بجانبها الغرافيكي الخطّي، يمكن الاطلاع على الكتاب الصادر حديثا :
هدى سميتسهوزن أبي فارس ونجلاء سمير ، منير الشعراني، عكس التيّار : استكشاف آفاق الخط العربي، كتب خط، ٢٠٢٤
Smitshuijzen Abi Fares, Huda and Samir, Nagla, Mouneer Al-Shaarani, Against The Grain: Exploring the scope of the Arabic letter, Khatt Books, 2024
للاطلاع على أعمال منير شعراني الفنيّة يرجى زيارة حساباته الرسمية :
https://www.instagram.com/mouneer_alshaarani/
https://www.facebook.com/MouneerAlshaarani
حقوق جميع الصور الشخصيّة وصور الأعمال الفنيّة محفوظة للفنان منير الشعراني