مقابلة مع الفنان ماهر البارودي
مقابلة مع الفنان ماهر البارودي - Features - Atassi Foundation

الاستماع، فحم على القماش، ١٦٠x١٢٠ سم، ٢٠١١

الفنان السوري ماهر البارودي من مواليد عام ١٩٥٥، هو رسّام ونحّات سوريّ اعترضت مسيرته الشخصيّة والمهنيّة أدوات القمع الديكتاتوريّة في ظل حكم آل الأسد، وأجبرته على البحث عن الحريّة في بلد آخر، فاتجه إلى فرنسا. درسَ هناك في المدرسة العليا للفنون الجميلة في كل من ليون وباريس، ثمّ عمل مدرّساً في مدرسة إيميل كول العليا للفن في ليون بين عامي ١٩٩٦ و٢٠٢٢. تمثّل أعماله التي تصوّر «الخراف» ذروة فكره الفنيّ ونقده اللاذع للمجتمع والساسة المتسلطين على حدّ سواء. تركت ذكرياته العائلية وقسوة شروط العيش ضمنها أخدوداً عميقاً في نفسه، يتكّشّف عبر حدته التعبيرية وتقشفه في اللون وتلقائية الرسم.

الفنان ماهر البارودي، كيف تفتّحت بوادر الميل إلى التعبير الفني لديك؟  وما هو أثّر المناخ العائلي وحياة الطفولة في دمشق على مسارك الفنيّ وذاكرتك البصريّة؟

ولدتُ في منطقة المزرعة بعد أن ترك والدي بيت العائلة. واحدة من القصص التي أثرت بنا أنا وأخوتي عميقاً هي روايته عن مقتل والده أمام عينيه على يد الفرنسيين أثناء انسحابهم من دمشق، حيث كان جدي من التجّار الممولين للثورة السورية (١٩٢٥) آنذاك، وبعد مقتله تولّى والدي مسؤولية العائلة. في الواقع، لم تكن ذكريات الطفولة سعيدة، فقد أمضيت وأخوتي الأكبر ثلاث سنوات بمدرسة داخلية (دار عربية في باب توما) ابتداءً من الصفّ الثاني الابتدائيّ حيث كان للتعليم الإسلاميّ أهميّة كبرى، وكان الخوف الأساسيّ مرتبط بالتأخر عن مواعيد الصلاة وحفظ القرآن لأن العقوبة كانت الضرب. كانت سنوات قاسية بعيداً عن حضن الوالدة.

مقابلة مع الفنان ماهر البارودي - Features - Atassi Foundation

ماهر البارودي في مشغله عام ٢٠١٦، تصوير جوزيت فيال

. وفي العطلة الصيفيّة كان والدي يودعنا فيما عُرف بـ«نادي الجمهورية» في باب توما، وهو أيضاً مؤسسة دينيّة، لكن مسيحيّة، والتي اصطحبتنا إلى الكشاف وإلى دير في صيدنايا. كان الحدث الأهم بالنسبة إليّ خلال تلك الإقامة الصيفية هو بداية علاقتي مع الجصّ واللون، حيث تعلمت خلط وصب الجصّ في القوالب اللدنة التي كانت متوفّرة، والتي جسّدت ولادة المسيح والعشاء الأخير وبورتريهات مريم العذراء والمسيح، ومن ثم تلوينها بالألوان المائية. كنت أيضاً أرسم الدير وما حوله بقلم الرصاص والألوان الخشبية. إلّا أنني شهدت هناك حوادث عنيفة مثل حرق وقتل قطة من قبل راهب لأنها تسببت بكسر الأطباق. بعد انقضاء ثلاث سنوات عدت إلى بيت والديَّ الذي كان قد تفكك استقراره بانفصال الوالدَين وتبددت رغبتي بالعائلة المتحدة. كان منزلنا يقع مقابل وزارة الدفاع (الأركان) حيث عاصرنا بأمّ العين الانقلابات العسكريّة. كانت الدبابات تنتشر على طرفيّ شارع المهدي بن بركة حيث توجّب على الجميع إبراز الهويات للمرور دخولاً وخروجاً من الحي. شهدنا أيضاً قصف إسرائيل للمنطقة في حربي ١٩٦٧ و١٩٧٣.

كانت جدّتي، التي فقدت عقلها بعد أن حاولت الانتحار عبر إلقاء بنفسها من الطابق الثاني، محبّة للرسم، وكنت أعود إليها بعد المدرسة لأشاهدها ترسم وأزوّدها بالورق والقلم المحبب إليها: الأزرق الغامق الخشبيّ. كانت ترسم دائماً وجوهاً نصفيّة من ذاكرتها بواقعيّة رائعة دون استعمال الممحاة. لا شكّ أن مشاهد وأحداث عنيفة كهذه قد أثّرت في تفاعلي مع الحياة وفي حساسيّتي الفنيّة.

أما ذاكرتي عن المدينة وبيوتها العربية، فهي غنيّة مشبعة بمشاهد ساحرة، أختزنها من زياراتي للأقارب الذين عاشوا في الحي القديم. تعجّ ذاكرتي بأشجار البرتقال والياسمين والنارنج والبحرات والنباتات التي زينتها والأقواس والزخارف الخشبية والأحجار الملونة. أحببت أيضاً ثرثرة الناس على الأبواب والنوافذ. وربما الجدران في منحوتاتي هي نتيجة مخزون بصري عميق من تلك المدينة.

لدي أيضاً ذكريات من فترات العطل في قرية بقين حيث عاشت جدتي أوقاتاً، وقد كان للبيت شرفة أطلّت على سهل الزبداني، والذي رسمتٌه مراراً بالقلم والألوان المائية. في تلك الفترة، لم أنتظم في المدرسة بسبب تفكّك العائلة، ورحت أرسم أخي وأشتغل على بورتريهات جصيّة كنت أشكّل تفاصيلها سريعاً ومن ثم ألوّنها بعد جفافها. خلال العام الدراسي ١٩٧٠/١٩٧١، تردّدت على «مركز أدهم إسماعيل» حيث تدرّبت على نسخ البورتريهات بالطين، وكنت أزور النحات نشأت رعدون حيث كان مشغله قريباً من المركز. في ذلك العام بدأت بمرافقة أخي إلى بيروت وعمان لحاجته إلى لعلاج، ترافق هذا العناء الشخصيّ مع القهر الشاسع الذي كان يخيّم على البلد. كل تلك الظروف عزّزت لجوئي إلى الرسم والنحت، كنت كمن يُخرج قرداً مجنوناً من داخلي بطريقة عقلانية.

درستَ في كلية الفنون الجميلة في دمشق وتخرجتَ عام ١٩٧٩ كان موضوع مشروع التخرج عن الإنسان المقهور، ما الذي دفعك للالتفات إلى موضوع كهذا في تلك الفترة؟ حدثنا أيضاً أساتذتك من كلية الفنون الجميلة بدمشق الذين تعتبر أنهم قد تركوا تأثيراً على شخصك وفنّك.

كنت أتطلع للسفر والهجرة والالتحاق بأخي الأوسط الذي كان في فرنسا، لكن لعدم حصولي على الفيزا توجّهت إلى روما في العام الدراسي ١٩٧٥/١٩٧٦، تاركاً الكلية في دمشق عند نهاية السنة الثانية بعد نجاحي وكنت قد سجلت باختصاص الحفر. سافرت إلى روما وعملت هناك في غسيل السيارات ومن ثم بائع تذاكر في سينما من أجل لقمة العيش، ثم توقفت عن العمل عندما تعرّفت على تاجر لوحات سوريّ زوّدني بالألوان والشاسيهات لرسم مناظر طبيعية من مخيلتي. كانت الدراسة في الأكاديمية في روما بعيدة جداً عمّا كنت أحلم به فلم أستطع التأقلم لكني زرت المتاحف وتأملت روائع المنحوتات. قررت العودة إلى دمشق وكلية الفنون الجميلة وطلبت تغيير الاختصاص إلى النحت متأثراً بما أعجبت به في روما، فالتحقت بالعام الدراسيّ ١٩٧٦/١٩٧٧ متأخراً ثلاثة أشهر. في تلك الفترة اتّبعتُ دورة في فن الخزف في «مركز وليد عزّت».

مقابلة مع الفنان ماهر البارودي - Features - Atassi Foundation

الظلّ، أكريليك على قماش، ٧٠x١٠٠ سم، ٢٠٢١

كان من أساتذة الكليّة حينذاك منذر كم نقش (١٩٣٥-٢٠١٩) وفواز بكدش (١٩٤٦) وخالد المز (١٩٣٨) وأستاذ الخزف محمد حسام الدين (١٩٣٧) صاحب الخبرة التقنية العالية والأستاذ المصريّ جلال الخولي الذي كان بارعاً في شرح مادة فلسفة الفن وعلم الجمال. وفي عام تخرجي جاء أحمد الأحمد (١٩٤٦-٢٠١٥)، وكنت اتردد على مرسم فاتح المدرس لكنه لم يكن استاذي، إنما كنت أبحث عنه في قسم التصوير لآخذ رأيه. وكان من زملائي في حينها الفنانَين زهير دباغ ونذير إسماعيل.

كان موضوع مشروع تخرجي في البداية عن الأمراض النفسيّة حيث كنت قد حصلت على رسالة من المرحوم محمود حماد (١٩٢٣-١٩٨٨) عميد الكلية آنذاك إلى مدير مشفى الأمراض النفسية في دوما للسماح لي برسم المرضى. كنت أفتتح الحديث معهم ببعض السجائر التي كنت آخذها معي.

لا أنسى أبداً المريض الذي كان يرتدي سترة عسكريّة وبنطال منامة، كان يجلس مع مريضَين آخرين فيما يشبه كراجاً وكأنّه ملك خاص له. كنت أحدثه ونشرب الشاي، وكانت سترته العسكريّة مليئة بالميداليات والنياشين وقد استعاض عن بعضها بأغطية زجاجات المشروبات الغازية. تلك التجربة في المشفى لمدّة تسعة أيام، لم تكن كافية لتبلور صياغة فنيّة إنما حدث ذلك لاحقاً في بداياتي في فرنسا حيث انشغلت بقهر الإنسان بصورة أعم، واشتغلتُ على إعادة صياغة رسوم المشفى تلك بقلم الرصاص على الورق، جمعت فيها عدد من الأشخاص في لوحة واحدة أدخلت إليهم أخي الذي كنت أبحث عنه أحيانا في الشوارع وكان ذلك بالتزامن مع تراجع أحوالنا بسبب تعدي السلطة على ممتلكاتنا وتسليم عقود الاستيراد لتجارة والدي إلى أشخاص فاسدين من الدولة. ومن هنا انبثقت سلسلة من اللوحات الأصغر قياساً نفذتها بالأكريليك وأنجزت أيضاً تماثيل لهؤلاء المنسيين.

لقد أثرت بي أيضاً بشكل عميق مجاعات أثيوبيا ومجزرة تل الزعتر، وكان الإرهاب الممنهج في سوريا طاغياً لم أستطع تجنبه. أتذكر الرعب من العقوبات العسكرية وأحداث مختلفة اعتقل على إثرها زملائي من معسكر التدريب الجامعي. وكنت أشعر بأني محظوظ في كل مرة أنجو بها. فكما يقول شكسبير «بإمكان أي شخص السيطرة على الألم، ما عدا من يحس به».

باختصار، لم تكن كلية الفنون الجميلة لي مكاناً للدراسة إنما ملجأً ومتنفساً. في فترة التخرج التي دامت لثلاثة أشهر تقاسمت المشغل في الكلية مع مصطفى علي وكان الحارس الليلي يتغاضى عن نومنا في الكلية ليلا مقابل بعض الطعام. وأتذكر من تلك الفترة زملائي أحمد شميس ورزان دباس وهدى الفرا وعماد لاذقاني ورسيمة آخوان وهيثم العطار وسناء يونس ووليد الأغا وبسام شيخ الصاغة.

تخرجت من المدرسة العليا للفنون الجميلة في مدينة ليون ١٩٨٢ ثم في باريس ١٩٨٣ في فرنسا، ما الذي دفعك للدراسة في فرنسا؟

من دوافع الدراسة في فرنسا الرغبة بالاطلاع على عالم آخر متحضّر حيث كنت أرافق والدتي إلى أوربا (إيطاليا وفرنسا وألمانيا) في المرحلة الثانوية بعد انفصالها عن والدي لمساعدتها في عملها حيث كانت تعمل في تجارة الألبسة. تفتحت بصيرتي على حضارة تلك البلاد واختلافها الشاسع. كان لديّ أيضاً الدافع الشخصيّ للفرار من حياة أسرة غير مستقرة، ولكن أيضاً من وضع البلد المقلق وحجم القهر المعاش، فنظام الحكم الأسديّ كان جاثماً على صدور الناس بلا ضمير ولا أخلاق ولا عدل لا سلام ولا مستقبل.

بعد عودتك من فرنسا لم تستطع التأقلم مع شروط التعليم في الجامعة كما يُذكر في إحدى المقالات، ما هي تلك الشروط التي تسببت بنفورك من الجامعة؟

بدأت في «بوزار» ليون كطالب في السنة الرابعة في عام ١٩٧٩، وبنهاية ذاك العام وافقت وزارة التعليم العالي في سوريا على طلب سابق لي بتعييني معيداً. عدتُ عاقداً آمالاً، لكن منذ وصولي إلى المطار استقبلني الإذلال وضُربت بأخمص البارودة واقتدتُ إلى مشجب احتجزوني فيه حتى اليوم التالي. لكن أحدهم وعدني بالمساعدة مقابل (٢ ليتر وسكي) وسمح بإخبار والدتي التي جاءت مع قريبها برتبة لواء والذي لم يتمكن إلا من معرفة تهمتي: التأخر بإرسال مصدقّة لتأجيل الخدمة الإلزامية. في تلك اللحظة ندمت ندماً شديداً على قرار العودة.

بدأت في أواخر عام ١٩٨٠ بتدريس النحت للسنة الأولى والتصوير للسنة الثالثة، لكن سرعانما أحبطتُ بسبب التجاوزات في قبول الطلاب في الكليّة من أجل المحسوبيات والرشاوي. كذلك كان هناك مشاكل منهجيّة في تدخل بعض المعيدين بأعمال الطلاب رغم افتقارهم للموهبة الفنيّة، هو ما اعتبرتُه تجاوزات في العملية التعليميّة. بعد ذلك صدر قرار إيفادي إلى روسيا فرفضت وطلبت إعادتي إلى فرنسا حيث كنت قد بدأت دراستي، لكن رئيس الجامعة في حينها مصطفى حداد رفضَ طلبي، فتقدمت بطلب استقالة رفضت بدورها، فقرّرت الهروب من البلد. حُكم عليّ غيابيّاً بالسجن لمدة ست سنوات لجرم ترك العمل وحرمت من زيارة الوطن لمدة خمسة عشر عاماً.

حدثنا عن تجربتك في التدريس في فرنسا، وعن علاقتك بالناقد الفرنسي جان جاك لوران الذي يعتبر من الشخصيات الثقافية البارزة في مدينة ليون والذي تستهويه أعمالك الفنية.

هناك فرق كبير بين التدريس الحكومي والتدريس الخاص في فرنسا. دوام الأساتذة في القطاع الحكومي يكون بحدود يومين في الأسبوع وللطلبة حرية الدوام، المهم هو إنجاز المشاريع المطلوبة للحصول على التقييم. كما تتوفر لديهم المواد الأوليّة. والجدير بالذكر أنه على مدار السنوات العشرين الماضية أُلغيت بعض الأقسام مثل الحفر والنحت على الحجر. أما التدريس الخاص فمناهجه أكاديميّة. لقد عملتُ معلّماً للنحت لطلاب السنة الأولى والثانية بمدرسة الفنون العليا «أميل كول» بليون منذ عام ١٩٩٦ وحتى ٢٠٢٢. تمتدّ الدراسة فيها لخمس سنوات بعد الشهادة الثانويّة، والدوام مطلوب بشكل كامل وأعداد الطلبة مقسمة في مجموعات منظمّة كنت مسؤولاً عن اثنتين منها. 

أما عن علاقتي بالناقد جان جاك لوران (١٩٢٢- ٢٠١١)، فقد كنت قد طلبت من أستاذ سابق لي من «بوزار» ليون كلمة لتقديم أحد معارضي ففضل وصلي بالناقد المحترف لوران. كنت التقي به في مقهى في مركز مدينة ليون اعتاد الأدباء والفنانون التردد عليه. كنت ولوران نتحدث عن الفن ومشاكل الشرق الأوسط التي كان ملمّاً بها، و ربما يرجع ذلك لكون زوج ابنته لبناني. 

مقابلة مع الفنان ماهر البارودي - Features - Atassi Foundation

دفتر مذكرات معرض ماهر البارودي في دمشق عام ١٩٩٥

حدثنا عن أول معرض فني فردي لك وأيّ معرض تعتبره مفصليّاً في مسيرتك.

في ظلّ حرماني من الاستقرار في وطني بسبب الاضطهاد، كان أوّل معرض فرديّ لي في صالة الفن المعاصر «شارل بيغي» في ليون بالمنطقة الثانية عام ١٩٩٥. ضم المعرض ما يقارب ثلاثين عملاً من نحت ورسم وتصوير، كانت أعمال نتيجة ما يقارب خمسة عشر عاماً من الوحدة والغربة والعمل المتواصل بعيداً عن قرقعة الإعلام. صوّرت حينها حالة الإنسان المقموع والفقير والمشرد والأمراض النفسيّة من جنون العظمة والازدواجيّة لحكامٍ أصحاب شخصيات مهترئة مزيّفة. وكان المعرض باباً لشبكة من المعارف من الوسط الثقافي.

وفي العام ذاته، تمكّنت من العرض في دمشق في صالة المرحوم عبد الرزاق توما في حي الصالحيّة، وقد أخذَ على عاتقه نقل الأعمال وكنت في حينه قد استفدت من قرار صدر عن المجرم حافظ الأسد سمح للمغتربين بزيارة الوطن مع موافقة تطلبت دفع ٥٠٠ فرنك فرنسي آنذاك. حضرَ المعرض حينها الفنانَين فاتح المدرس (١٩٢٢-١٩٩٩) ونذير نبعة (١٩٣٨-٢٠١٦) والمؤرخ عفيف بهنسي (١٩٢٨-٢٠١٧) وغيرهم، وسجّل البعض منهم انطباعه على دفتر يومي للمعرض الذي احتفظ به. غطّى الإعلام على نحو رائع ما تناولته الأعمال من إدانة للسلطة وسخرية منها وكأن بعضهم كان في تعطش للتنفيس في ظلّ القمع. في يوم الافتتاح دخل ثلاثة ضباط برتب عالية صدورهم مغطاة بالميداليات، فطلبَ أحدهم أن أشرح قصدي من الشخصيات القبيحة، فأجبت بأنه نقدٌ للعسكرة ونظام الدكتاتور صدام حسين، فهزّ الضابط برأسه وضحك وانصرف.

في كتاب «حيونة الإنسان» يتحدث الكاتب السوري ممدوح عدوان الجانب العدواني الوحشي من الإنسان، حتى أنه يحيل الانتماء للقطيع إلى جانب وحشيّ عنيف، متى ظهرت الخرفان في أعمالك وهل تضمر خرافك المُنساقة عُنفاً؟ وما هي دلالات مفردات مثل الميكرفون والمرآة المرافقة لها وكذلك غياب اللون في العديد من أعمالك؟

كنت في بحثٍ مستمرّ عن كيفية الخروج من دوامة رسم المرضى والمشردين ومجانين السلطة والتسلّط. إلى أن جاءت المناسبة بغزو الأمريكان لأفغانستان عام ٢٠٠١، حيث تأثّرت بشدة واستبدلتُ الإنسان بالخرفان. أردت التعبير عن نظرة الغرب إلى شعوب العالم الثالث كحيوانات. لقد قاموا بمحو قرى ومدن كاملة بضربات محدودة ومدروسة، وقد عبّرتُ عن ذلك بعملَين من الفحم على الورق وكان أبطال هذين العملين من الخراف. بعدها أقمت سلسلةً من الدراسات والأعمال من الخنازير والببغاوات والحمير والكلاب مع الميكرفون كإشارة لمهنة حكام العالم: النفاق والكذب.

اعتمدت الخروف كما هو في القصص الشعبية حسب الكاتب الفرنسي جان دولا فونتين (١٦٢١-١٦٩٥): «اتخذت الحيوان رمزاً لتعليم البشر». بالعموم، أعتقد أن الحيوان أكثر رحمةً من الإنسان، لكنّ العنف كامن في داخل كل شخص مسالم إن تعرض أو أهله إلى موقف مريب، والخراف كذلك وديعة في مظهرها لكنها عنيفة في الدفاع عن نفسها وعن أقرانها، لكن، كيف لها أن تقاوم وهي مكبّلة؟ إن الخروف بالنسبة لي رمز للخنوع والتبعية والانسياق الأعمى. عندما اشتغلت بورتريهات لخرفان اعطيتها وضعيات بشرية ودمجت عناصر بشرية. أحيانا جعلتها تكون ثائرة. بمعنى آخر هذه الخرفان تمثل صوت المقموعين.

استخدمت المرايا في بعض الأعمال لأنها تكشف المستور، فهي فخّ للبعض ومحرض للبعض الآخر. المشاهد يرى قسماته، روحه، يرى نفسه، حالته، وجهه المتلاشي، ذليل، خانع، مغرور، مكسور، قاهر أو مقهور، ذابح أو مذبوح.. المرآة تسمح بالتوحد بين الناظر والمنظور إليه، على سبيل المثال في عمل «سحر» (٢٠٠٥) و«خطاب رائع» (٢٠٠٢).

أما بالنسبة لوجود اللون أو اختفائه في أعمالي فهو عائد للوقت وسرعة الإنجاز... طبعاً أبدأ من فكرة ما سجلتها أو كروكي سريع يتطور إلى دراسة عمل متكامل بأقلام الفحم، هذه المادة الرائعة لها معطيات واسعة من التخيلات والأحاسيس وبها أُسجّل المشاعر الأولى وهي الأساس في إنجاز أعمال النحت والأكريليك.

طبعاً يبقى عدد من الأعمال المشغولة بمادة الفحم أكبر بسبب سرعة وسهولة التنفيذ، بالإضافة إلى التكيف في الطابع الدرامي من زيادة أو نقصان. كل مادة إن كانت فحم أو لون أو منحوتة لها إثارة ونزوة تعبيرية خاصة بها.

البعض من اللوحات المشغولة بالفحم قمت بإعادتها باللون لكن بعد تسعة عشر عاماً مثل «الضربة الذكية» (تعود نسخة الفحم لعام ٢٠٠٢ والأكريليك لعام ٢٠٢١)، أو إثني عشر عاماً مثل «الظلّ» (تعود نسخة الفحم لعام ٢٠٠٩ والأكريليك لعام ٢٠٢١).

هناك في تسميات أعمالك وصياغات تراكيبها نوع من المسرحة، هل تعتبر أنك تقترب من فن المسرح في لوحاتك أو منحوتاتك؟

بالنسبة إلى تسمية الأعمال فقد أردت أكثر الأحيان أن تكون عكس ما تعبر عنه إما للإدانة أو للسخرية أو إعطاء فرصة لمخيلة المتفرج للبحث والتفكير... نحن جميعاً ممثلون في مسرح الحياة وكل واحد يُمثّل و يُمثل على طريقته. إلى الآن لم أجد الحل أو الآلة المناسبة والمتطورة التي تضيء طريقي أثناء العمل، لا يمكنني افتعال شيء لا أشعر به.. بمعنى آخر، هناك عواطف وأحاسيس شخصية يعود إليها القرار لكن بكل توازن وتركيز وعقلانيّة.

نحن في عصر (اختلط فيه الحابل بالنابل) كما يقال في العامية.. أي شخص ممكن أن يعتبر نفسه فنان تشكيلي أو أديب وشاعر، فيلسوف، فنان وناقد، ممثل مهرّج.. استعراضي.. والأمثلة كثيرة آخرها صرعة الموزة للإيطالي ماوريتسيو كاتيلان (١٩٦١).. الإبداع الآن متجه نحو تعددية التمثيل والتأويل، طبعاً هذا لا يمنع ظهور نخبة من عمالقة الفن بابتكار طرق جديدة في التعبير والمزج بين المألوف وغير المألوف.