Laila Muraywid, "la jupe rouge", mixed media on hand made paper, 25 x 73 cm, 2023
وُلدت ليلى مريود في دمشق عام ١٩٥٦. تخرّجت من كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وأكملت دراستها في المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفيّة في باريس. تستخدم مريود النحت والمجوهرات والتصوير الفوتوغرافي والرسم للتعبير عن رؤاها حول العالم والحريّة والجسد. تسلط الضوء عبر فنّها على مفاهيم تهميش المرأة وهشاشتها والرغبة والتشيؤ والعنف. تحمل عناوين أعمالها إيحاءات قصصية وتأثير أساسي على قراءة العمل. سبق لها أن اشتركت مع الشاعر أدونيس عام ٢٠١٤ وكل من الشاعرتين إتيل عدنان وڤينوس خوري عام ٢٠١٥ [1] ضمن كتب فنيّة -شعريّة من عشر نسخ فقط لكلّ كتاب.
ليلى حدثينا عن أثر المناخ العائلي على تكوينك الشخصي، وعن تأثير البيئة المكانية على ذاكرتك البصرية، فقد أشرتِ في محادثة سابقة إلى ذكريات عن الأثاث وألوان الجدران في بيت جدك. كيف أثّر ذلك على ميلك إلى الفن؟
الطفولة مفتاح لفهم الذات والعالم، وسيلة للارتباط بالعالم الخارجي بالمكان، بالضوء، بالروائح، والألوان.. كانت إحدى تساؤلاتي في السابعة من العمر متعلقة بألوان الجدران في منزل جدي (فالحائط الأصفر المشبع بالشمس والبني المحمر والأخضر الداكن، ولّدت داخلي تساؤلات حول تواجدها إلى جانب واحد في غرفة واحدة. كانت المواد كتيمة خشنة بعيدة عن الزخرفة مكتفية بذاتها. حرّضتني تلك التفاصيل على طرح أسئلة عن إمكانية وجود رؤى مختلفة حول المادة واللون.
أعتقد أنّ لكلّ منا طريقته الخاصّة في الرؤيا وفهم العالم، بمعنى أن ما يراه كلّ منا لا يشبه ما يراه الآخرون. شخصياً ارتبطت بواكير تجربتي بالحدث، بعيداً عن المعرفة كوسيط، وكانت كافية لتشكيل بداية فهمي للجمال وتأسيسه كموقف للتواصل مع العالم الخارجي.
بدأت الدراسة في كلية الفنون الجميلة في دمشق عام ١٩٧٥وتخرّجت عام ١٩٧٩ وتضمنت أعمال تخرجك عنصراً فريداً وغير مألوف في تلك الفترة : جسد الرجل عارياً إلى جانب جسد المرأة. هل ينبع هذا التوظيف من استغراقك بالقيم الفلسفية، أم أنه كان رغبة في تحدي السائد المجتمعي ؟
أعتبر أن بداية دراستي للفن لم تبدأ في الكليّة وإنما في سوق اللحوم الذي اكتشفته بعد عودتي من لبنان إلى سوريا بعد اندلاع الحرب الأهلية في ١٩٧٥. كانت بداية محاولتي لفهم الجسد، الحريّة، العنف، الوجع، الوحشيّة بكافّة أشكالها الحيوانيّة والإنسانيّة. ذهبتُ يوميّاً إلى السوق لأشاهد، لأتعلّم بكل حواسيّ (كانت الرائحة في ذلك السوق قويّة) وفي الحقيقة، كنت أبحث بشكل غير واعٍ عن ذلك الحيز الذي يفصل الحياة عن الموت، وحاولت أن أرسم ما بقي من الذبائح، اللحم المعروض في الواجهات، اللحم المتدلي، الجسد المدمّى. كانت محاولة للاقتراب من ذلك الشيء الذي يخيفني. فاللحم بشكله الفج كان مرعباً خصوصاً مع سيلان الدم الذي كان يرافقه وكأنّه شيء طبيعي. كانت تلك المشاهد مصدراً لا نهائيّاً للأسئلة.
الجسد هو دائماً نقطة البدء في عملي، فهو الذي يسمح أو لا يسمح بأن نكون جزء من هذا العالم. الجسد هو أيضاً مكان السحر والأسرار والجمال. لذا، للتعامل مع هذه المنطقة (أي الجسد) الحساسة الهشة القوية المليئة بكل أنواع العنف والهوس كان لا بد من استخدام ديناميكية التضاد حيث يتجاور الجميل مع العنيف المخيف مع الآمن، الثابت مع المتحرك.
انتقلتِ إلى فرنسا والتحقتِ بالمدرسة العليا للفنون الزخرفية في باريس عام ١٩٨١، ما الذي دفعك للدراسة في فرنسا؟
انتقلتُ إلى فرنسا بعد تخرجي وحصولي على منحة فرنسية لمتابعة دراستي. اعتبر السفر تجربة غنيّة لاكتشاف العالم ومتابعة الحوار مع عالم يدور حول الخوف والوجع والرغبة والتوتر والوحدة والتحوّل والممكن.
حدثينا عن أول معرض فني فردي لك وأيّ معرض تعتبرينه مفصليّاً في مسيرتك.
أقمت أوّل معرض لي في سوريا عام ١٩٧٩، وكان معرضاً ثنائيّاً بالمشاركة مع الفنان زياد دلول. كانت تجربة ثريّة بالنسبة لي، كان عملي يدور حول محاولة فهم آليات المجتمع من خلال مفهوم الحرية، وارتباطها بهوية حاملها في سياقها المجتمعي الذي يفصل بين الحرية الانثوية وعالمها الدائري المرتبط بجسدها ومظهرها وسلوكها وحصرها بوظائفها الطبيعية، والحرية الذكورية وامتلاكها للعالم الخارجي. خلال هذه التجربة تكونت فكرتي عن ارتباط حرية المرأة بجسدها الذي يولّد الحياة ويحملها ويربطها بالأرض والطبيعة، هذا الارتباط بالطبيعة المتعارف عليه في فهم المرأة، استخدم كحصار تاريخي لجسدها.
Laila Muraywid, "Leçon de piano", mixed media on paper, 41 x 48 cm, 1979
أنت فنانة متعددة الوسائط، في جميعها، النحت والتصوير والرسم، وأينما صوّرت الجسد البشري بإمكاننا استقراء إشارة إلى هشاشة الجسد وقابليته للفناء (رغم إبرازك جمالياته في الوقت ذاته) حيث تميلين إلى نزع الطهرانية عن الجسد البشري من خلال الكشف العنيف عن أجزاء من الجسد وليس كامله، وأيضا من خلال تعرية الطفل والدمية والذي ربما هو رجوع للحالة الأولى للإنسان. حديثنا عن معاني العري في فنك؟
التعامل مع الجسد يعني التعامل مع ما هو مقبول أو مرفوض، المسموح و الممنوع. ولمعالجة هذا الموضوع كان لا بدّ من البحث عن مواد جديدة مختلفة عن السائد لبناء أبجدية خاصة بي تشبه رؤيتي للاقتراب من الجسد بمعناه الواسع : تفكيك الجسد وإعادة بنائه وربط الماديّ بغير الماديّ، تفكيكه بهدف محاولة إعادة بنائه بطريقة تسمح برؤيته بشكل مختلف من خلال وسائط مختلفة : التصوير والرسم والنحت. فعندما يعيد الفنان بناء العالم، أو أجزاء منه، يصبح العالم الخارجي امتداداً لعالمه الداخلي. يدور عملي حول التوتر والضغط والمواجهة بين الجسد وحدوده، بين النظام والفوضى. وهذا التضاد في حالة تبدل وتحول دائمة. وهذا ما يجعل عملي في النحت وأبجديته التي أوجدتها يذكر بأن الإنسان شاهد وهو ليس مركز الكون.
خلال فترة الحرب في سوريا بدأ النحت يأخذ في عملي حيّزاً كبيراً، لكن بشكل صامت وموجع، مثل ظلال لأشياء وأحاسيس كان لا بد من تثبيتها وإعطائها حجماً ملموساً، أي استحضار اسقاطات لأشياء غابت واختفت.
بمعنى آخر، أردت تسليط الضوء على الألم وإعطائه أبعاداً وجسداً، وجاءت بعد ذلك رغبة في تجاوز هذه الظلال، السقوط من جديد في العدم. باعتقادي إن الكلمة الاخيرة للطبيعة دائماً، والإنسان لا يربح في وجه الموت .تبدّد الحرب جميع اللغات وتُظهر الحياة بعريها وقوّتها وضعفها، وكلما تراكمت الآلام، فقدت الكلمات مصداقيتها ومعناها. وإزاء ذلك، هناك من يشهد وهناك من يقصّ وآخر يحكم، أمّا الفنان فيحاول أن يفهم العمق الموجع لفوضى الوجود.
العالم هو المكان الذي لا نمتلكه، لكن جسدنا ينتمي إلى هذا العالم، والفن هو محاولة لاستعادة الجسد. إن استعادة الجسد نوعٌ من الاحتيال لقبول الحياة، فالجسد هو الذي يعرف الأحاسيس والآلام والمتعة والتي تعجز اللغات عن وصفها. والجسد هو موضوع سياسي لأنه يرتبط بالرغبة ويخل بالقوانين الاجتماعية بالممنوع والمسموح. ما يهمني في الجسد هو ربطه بالمعرفة كمشروع لفهم العالم، الجسد الذي يسبق الثقافة وليس الجسد كمنتج ثقافي. والمعرفة مرتبطة أيضا بالجنس كما يرى كل من سيغموند فرويد وجورج باتاي. أي هو وسيلة لفهم الحياة والموت. هناك علاقة دائمة بين المعرفة والسطلة والجنس. وكوني امرأة أحاول أن افهم البعد الجسدي لوضع المرأة المعاصرة.
في الواقع، ومع أننا نعيش مرحلة تغييرات أنثروبولوجية واجتماعية في بعض المجتمعات، إلا إن نظرية أرسطو التي شككت في أن يكون للمرأة روح والتي تقوم على عدم مقدرة وكفاءة المرأة وتبرر عدم المساواة والانصياع الكامل للرجل، هي حامل أساسي عبر القرون لنظرية الاختلاف بين الرجل والمرأة. وما زالت أسس الزواج الروماني حتى القرن الواحد والعشرين فيما يتعلق بالعائلة والزواج والمرأة قائمة في لاوعي المجتمعات. وبالتالي عندما أتناول الجسد وتحديداً جسد المرأة فأنا أتحدث عن الخوف، عن الغضب والحب، الجنس، والعار، عن كل ما هو خفيّ وغير مسموح.. عملي هو محاولة لإعطاء بعد تكاملي لمفهوم الثنائيات وتأثيرها على العلاقات الإنسانية : العقل والعاطفة، العام والخاص، الجسد والروح. من ناحية أخرى ربطت فلسفات عديدة جسد المرأة بالطبيعة مما اختصر المرأة إلى جسد مُنجب، وهذا ما تسبّب في اضطهاد وتحديد قدرات المرأة كإنسان أولاّ.
بالنسبة لي، لا يجب أن تتحول أي تجربة نعيشها إلى صندوق مغلق أو إلى مرآة نرجسية بل الأجدى أن تتحول إلى مواد وعناصر وأدوات لمواجهة الموت والحياة، وفي هذا التحول يكمن فعل الابداع الذي يسمح بأن نتآلف مع سر الكون.
Laila Muraywid, "The waiting", mixed technique, 2014-2019
تحمل كل من الحلية و الدمية لديك معاني مغايرة تماماً لرمزيتهما المألوفة. ما هو منظورك النسوي لتلك العناصر المرتبطة تقليدياً بالأنثى : طفلة ومن ثم امرأة؟
لقد اقتربت من النحت من خلال لغة المجوهرات، الأحجار الكريمة التي تولد أحيانا في الرأس كما تقول بعض الأساطير، والتي تربط الضوء بطاقة الأحجار المخبأة في الأعماق. المجوهرات لها عالمها المرتبط بالسلطة، بالامتلاك، بالقوة، بالسيطرة، بالانتماء، وغالبا ما كانت مرتبطة بالمرأة وعالم المرأة.
المجوهرات هي ضوء يتسلط على جسد. أمّا اللعبة، فلها دور الوسيط، تسمح للفرد أن يتداخل مع العالم، مع الآلهة والأسلاف. الدمية قادرة على نقل الرغبات والمخاوف، وهي جزء من تاريخ الفن، ترتبط باللاوعي الجمعيّ.
لقد استُخدمت اللعبة بكامل مكنوناتها الرمزية لتكريس الصورة النمطية لمفاهيم الجمال السائدة. يقول والتر بنيامين أن عالم الدمية يدور حول الحب واللعب وأنّها تلعب الدور المزدوج للحياة والموت. لقد أُعطيت الدمية غالباً شكل المرأة في كل الحضارات لتعزيز الدور المرغوب تكريسه للمرأة ( وكأنها تقول للفتاة هكذا يجب أن ترين نفسك وصورتك، كلعبة ، كشيء، وأن تقبلي بمعاملة كما تتعاملين مع لعبتك ) اللعبة تنتمي إلى ذلك المكان الضيق بين الطفولة والبلوغ، وهي تعكس ذلك الجزء من ذاتنا الذي يعود إلى عالم الأشياء.
لا تؤمنين بالحدود المرسومة وتعتقدين بانتماء الإنسان، وخصوصا الفنان، للعالم بأكمله، وهذا يظهر في أعمالك حيث لا مكان أو عناصر تقيدنا بهوية معينة. حديثنا عن مفهومك حول الانتماء
عملي قائم على رغبة ملحة مثالية دونكيشوتيه لتوسيع روح العالم عن طريق استخدام الوجع والتوتر والعنف والغضب والرغبة والقلق.. الفن بالنسبة لي هو محاولة لربط الإنسان بعالم العواطف، وربط ذاته بالآخرين. وللوصول إلى حقيقة الأشياء وعمقها لا بد من سلخ جلدتها الخارجيّة وتجاوز القشور. عملي يطرح أسئلة حول كيفية التواصل مع الاخر، وإلغاء العلاقات القائمة على الاختلاف، يتكئ على بناء علاقات قائمة على توسيع الرؤى، وعلى تحويل الصعوبات إلى قوة تجمع لا تفرق. فالفن هو فعل حياة، لا يمكن فصل التجربة الحياتية عن التجربة الفنية، هو فعل اختراق كامل للواقع المعيش يمكننا من رؤية العالم وتفاصيله من كل الزوايا في آن واحد، و بعمق واحد.
بقول آخر، الفن هو محاولة لفهم تدفق الكون كنهر في حركة دائمة ولانتماء الإنسان لهذا المسار. وعملية الخلق الفني كذلك، لا تتم بشكل رقيق مرهف فهي كالولادة موجعة عنيفة واستثنائية ولا يمكن إيقافها.
عرضت ليلى مريود مؤخراً في باريس في معرضين بارزين، معرضك الفردي في غاليري جاك ليجنهوك بتنظيم القيمة نادين فتوح وفي العرض الجماعي حداثات عربية في متحف باريس للفن الحديث بتنظيم مشترك لمراد منتظمي وأوديل بورلورو ومادلين دي كولنيه. جاءت مشاركتها في هذا المعرض الأخير كحلقة تبيّن قوّة تاريخها الفنيّ، حيث تعود الأعمال التي عرضت إلى معرضها الفرديّ الأوّل الذي أقيم في دمشق عام ١٩٧٩، وبعد ما يزيد عن أربعين عام من إخفاء تلك الأعمال، عادت لتؤكد عبرها إصرارها على كلمتها التي قالتها في ريعان شبابها، عن نظرتها إلى العالم عبر الجسد.
[1] L’Histoire qui se déchire sur le corps d’une femme, 2014.Poème manuscrit d’Adonis.
Sea and Fog, 2015. Poème manuscrit d’Etel Adnan.
Le Livre des suppliques, 2015. Poèmes manuscrits de Vénus Khoury-Ghata.