أمناء وقيّمو الفن في السياق السوري: التاريخ والممارسات والانتشار

مقدمة

يُطلب من أمناء الفن من الشرق الأوسط حالياً النهوض بالإنتاج الفني المحلي، المتجذّر كذلك بالسياق العالمي، والمتعلّق به على حدّ سواء، وفي الوقت نفسه التعامل مع التحديات التي يفرضها الواقع الاجتماعي والسياسي المُعرقِل، ولا سيما الافتقار إلى البنية التحتية وانكماش الفضاءات العامة المخصصة لعرض الفن والترويج له. كل ذلك يطرح تساؤلات عن كيفية قيام المتاحف والملتقيات والمعارض الفنية والمهرجانات بتشجيع تبادل الأعمال الفنية، وعن طبيعة استجابتها لعوالم الإنتاج الفني الآخذة في التوسع.

انطلاقاً من تحليل ممارسات أولئك الذين يضطلعون بدور الأمين وحوارات مع فنانين وأمناء ومدراء في الحقل الثقافي من السوريين، تركز هذه الدراسة على صعود نجم مهنة لطالما كانت غائبة عن المشهد الثقافي في سوريا، وعلى العقبات التي لا تزال تواجه القائمين عليها في مهامهم. وتسعى الدراسة كذلك إلى تسليط الضوء على أهمية هذه المهنة بالنسبة للمشهد الفني السورية وتطوره المستقبلي. فما هو مستوى تقدير مهنة أمين الفن في سوريا وفي أوساط المنخرطين في عالم الفن السوري؟ وإلى أي مدى يُساهم التدريب الذي يحصل عليه الأمناء الفنيون وما هو التقدير المؤسساتي الذي يحظون به، وما هي جذورهم السورية في كينونة هذه المهنة واستمرارها؟ وما هي العوامل الأخرى التي تحدّ من تطور هذا القطاع؟ وأخيراً، كيف يمكن لمهنة الأمين الفني أن تفرض نفسها كأداة تنهض بالمشهد الفني السوري في الوقت الراهن؟

أمناء وقيّمو الفن في السياق السوري: التاريخ والممارسات والانتشار - Features - Atassi Foundation

المتحف الوطني بدمشق

تأسيس المتحف الوطني: مقاربة محافِظة لأمناء الفن الروّاد
تمت الإشارة لإنشاء المتحف الوطني في سوريا في كتاب "خطط الشام"[1] الذي نشره الباحث محمد كرد علي عام 1925، في خطوة دفعت باتجاهها على مدى عدة أعوام قبل ذلك كوكبة من الباحثين والمؤرخين والأكاديميين الذين طالبوا باستعادة اللُّقى المكتشفة في المنطقة من "متاحف إسطنبول الأثرية" وإيداعها في متحف تديره الحكومة السورية.[2] وافق الملك فيصل على هذا الطلب، وتم في عام 1919 إنشاء المتحف في المدرسة العادلية، مع فتح فروع له في حلب وطرطوس والسويداء.[3]

تطلّب تأسيس هذه المتاحف وجود كادر يديرها ويُشرف على مقتنياتها، ولهذه الغاية شهد عام 1920 قيام مجمع اللغة العربية في دمشق[4]بتعيين جعفر الحسني كبيراً لأمناء المتحف، وحصل على منحة لدراسة علم المتاحف واللغات القديمة.[5] ومن بين ما قام به الحسني، ترجمة المصطلحات المتحفية، ليكون ذلك بمثابة نواة لمشروع أكبر يشمل إجراء أبحاث وكتابة نصوص متعلقة بالفن وتاريخ الفن باللغة العربية. استلم زمام المتحف بعده سليم عادل عبدالحق عام 1945 والذي كان مهتماً بالترجمة والترويج للقى الأثرية من سوريا، وكذلك توسيع حرم المتحف، ووضع عام 1955 خطة لإنشاء أقسام جديدة، اختصّ أحدها بالفن الحديث، أما أولى الأعمال التي اقتناها فقد كانت لمحمود حماد ورشاد قصيباتي وصبحي شُعيب وألفرد بخاش ونصير شورى وميشيل كرشة وفاتح المدرس. وخلال الستينيات، قام كلّ من أمين القسم حسن كمال وكبير الأمناء عفيف بهنسي بتكيف عدة فنان بإعداد أعمال لمجموعة المتحف، ومن بينهم لؤي كيالي وأسعد عرابي. إلا أن أعمال الفن الحديث المقتناة كانت محصورة بتوجه لتفضيل تلك التي تعكس روح القومية العربية السائدة آنذاك مع الترويج للتجليات الثقافية المتوارثة في المجال البصري. تجسَّدت هذه المقاربة خلال الخطوات الأولى لإدخال الفن الحديث إلى مجموعة المتحف وشكّلت معايير للأجيال التالية من الأمناء عن طبيعة الأعمال التي يمكن اقتناؤها وعرضها. جعل ذلك من الصعوبة بمكان تطوير ممارسات رسمية في حقل أمناء الفن والاستجابة للتوجهات الصاعدة في المعارض الدولية والسرديات الفنية المحيطة بها.

وبالإضافة إلى ذلك، كان تبادل الخبرات على مستوى أمناء الفن مقتصراً على المنطقة، إذ نادراً ما تم توجيه الدعوة إلى أمناء من الخارج إلى سوريا. وفي شرح لهذه النقطة اعتبر حسن كمال في نصّ نشره في مطلع ستينيات القرن العشرين بعنوان "إشكاليات الفن التشكيلي السوري" أن حالة عدم النضج لدى الفنانين السوريين – المتمثلة بمهارات الإنتاج الضعيفة والهوية المنقوصة والمفاهيم غير المتبلورة للأعمال وغيرها من الأمور – تُمثِّل أحد الأسباب الرئيسية لكون الحقل الفني يشهد ضعفاً على مستويي الإنتاج والانتشار الدولي، ولذلك توجّه بالدعوة إلى الفنانين والجمهور من أجل التلاقي والتداول عن أسباب ذلك ووضع رؤية فنية تقدمية موحدة على المستوى الوطني.[6] وللمفارقة لم يذكر النص على الإطلاق الحاجة إلى تطوير على مستوى ممارسات أمناء الفن.

نتيجة لذلك، سار حقل تنظيم المعارض بخطى بطيئة طوال عقود من الزمن، أما صالات العرض الرسمية القليلة التي كانت موجودة آنذاك، فقد فضّلت النهج التقليدي في عرض الأعمال الفنية وإدارتها للمجموعات الفنية بحيث اضطلعت الصالات بدور أمين الفن في أغلب الحالات، بحيث لم يكن هناك فعلياً هامش للتجريب أو فرصة للتعاون مع أمناء من الخارج.

 

أمناء وقيّمو الفن في السياق السوري: التاريخ والممارسات والانتشار - Features - Atassi Foundation

صورة من غاليري أتاسي عام ١٩٩٣

ظهور الصالات الفنية الخاصة كمحفّز للتبادل الدولي
بالتزامن مع توسع دائرة المشاريع التي قام بها الفنانون، دعمت الفضاءات الفنية الجديدة توسيع انتشار المشهد الفني والتنوّع السائد فيه، لتكون بمثابة نقاط ارتكاز لتبادل المعرفة. تمثّلت فضاءات العرض الأولى هذه بمُحترفات الفنانين وصالات ملحقة بمؤسسات أكبر لا تُشكّل المعارض جزءاً من أنشطتها المنتظمة. ومن بين تلك الفضاءات التي وفّرت مثل هذا الدعم على مستوى التعليم وتنظيم المعارض، كانت هناك "ندوة الأندلس للرسم والأدب" (1940) و"مرسم فيرونيز" (1941) و"الجمعية العربية للفنون الجميلة" (1943).[7] إلا أن غالبية هذه الفضاءات الفنية لم توثّق أي استعانة باختصاصيين من الخارج سواء على مستوى الأخصائيين في المجال التقني أو الدعم الإداري أو الأرشيف. ولذلك يبدو من البديهي الاستنتاج بأن مهمة أمين الفن كانت مدمجة بالممارسة الفنية بحد ذاتها، وسادت هذه المقاربة المتعلقة بالمعارض طيلة عقود من الزمن، ولم تبدأ مهنة القيّم الفني بالتمايز إلا مع افتتاح الصالات الخاصة في سبعينيات القرن العشرين

شهد عام 1960 تأسيس الأخوين محمود ومحمد دعدوش لـ"صالة الفن الحديث العالمي" التي أصبحت بمثابة محفّز لعرض الأعمال الفنية بشكل مختلف في سوريا.[8] تم وضع برنامج الصالة بهدف الربط بين فضاءات فنية محلية داخل المنطقة وخارجها، كما كانت الصلة أرضاً خصبة لإحداث تحولات على مستوى الممارسات الفنية التشكيلية في المنطقة العربية، وقد تجّلت هذه التغييرات في بيان صدر عن فناني صالة الفن الحديث العالمي كان بمثابة دعوة تمهيدية لإطلاق المؤتمر العربي الأول للفنون الجميلة بدمشق عام 1971[9] . ولربما كان الأثر الأبرز لهذا المؤتمر ما تلاه من تأسيس عدة صالات فنية خاصة نشطت بنفس الطريقة، ولا سيما تبني استراتيجيات اقتصادية أكثر استدامة، مع التوجه نحو تقسيم الأدوار والعمل مع توليفة من الأشخاص المساهمين من الخارج، وهو ما ساعد بالتالي على رسم معالم أدوار مختلفة في مجال دعم القطاع الفني والبنية التجارية لعالم الفن.

وفي سنوات الثمانينات والتسعينات نشط عدد من صالات العرض[10] في دمشق وحلب خصوصاً، وكان أصحاب تلك الصالات يقومون بالأدوار التنظيمية والتنسيقية والتي لم تبلغ في معظم الأحيان دور القيّم الفني.

مع مطلع القرن الحادي والعشرين، بلغت الصالات الفنية في سوريا مستوى من التطور سمح لها بدعم سوق الفن الثانوي. وبفضل اهتمام الصالات الفنية بالفنانين والترويج الذي حظوا به، بدأت تظهر أعمالهم في مزادات دولية. إلا أن حضور أمناء فن متخصصين ومستقرين في سوريا بقيَ شبه معدوم، بينما ظل النقد الفني محصوراً في إطار المقارَبات الوصفية التي لم تلبِّ بالضرورة متطلبات المساهمة في خلق سردية تقدمية.

أمناء وقيّمو الفن في السياق السوري: التاريخ والممارسات والانتشار - Features - Atassi Foundation

من مهرجان دمشق للفنون البصرية ٢٠١٠

الممارسات الفنية من منظور أمناء الفن المعاصرين والعاملين في الحقل الثقافي: من التشتت إلى رصّ الصفوف
شهد مطلع القرن الحادي والعشرين إذاً تبني مقاربات جديدة للفن، سواء على مستوى إنتاجه أو الترويج له أو عرضه، وخصوصاً مع ظهور الحاسوب والتطور الحاصل في مجالي التصوير الضوئي والفيديو. أتت الفترة الانتقالية التي انطوت على استكشاف وسائط جديدة بين عامي 2000 و2011 لتؤدي إلى توسيع آفاق ممارسات أمناء الفن، في وقت أصبح الطلاب والفنانون والباحثون أكثر قدرة شيئاً فشيئاً على الوصول إلى موارد أكثر تنوعاً، والإطلاع على التيارات الجديدة السائدة حول العالم، والانخراط في السرديات الدولية.

لمست القيّمة الفنيّة دلفين ليكاس، التي وصلت إلى دمشق عام 1998، هذه التغييرات التي تزامنت مع تصاعد الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي في سنوات عملها الأولى في سوريا. نظّمت ليكاس مهرجان أيام التصوير الفوتوغرافي بين عامي 2001 و2007، والذي استقطب مصورين شبان، وشكّل منصة لعمل الفنانين الدوليين في سوريا. ركّز المهرجان على موضوع مختلف في كل دورة له، وتنوعت بين مفهوم المدينة وصولاً إلى تجليات الهوية. حفّز تأسيس هذا المهرجان إطلاق مبادرة أخرى عام 2010 هي "مهرجان دمشق للفنون البصرية" الذي اشتمل على أعمال رقمية وفن الفيديو وأعمال هجينة تجريبية، بالإضافة إلى أعمال تصوير ضوئي وأفلام. لكن مع اندلاع انتفاضات عام 2011، أخذ هذا المشروع شكل "مهرجان متنقّل".

تكييف أمناء الفن للتقنيات الجديدة وأنماط العمل الهجينة
توسّعت آفاق ممارسات أمناء الفن في المشهد الفني السوري حالياً، وتمثّل المحفّز على ذلك بعنصرين: هجرة الفنانين السوريين وإمكانية الوصول الأكبر لمنصات دولية من خلال الإنترنت، وهو ما تحوّل إلى أداة ضرورية لنشر ونقل الفن السوري.

ومن أجل تكوين قراءة نقدية لأدوات أمين الفن المعاصر وأساليب عمله، نطلع هنا على عدد من الأسماء السورية المنخرطة بشكل فعال في توسيع آفاق ممارسات أمناء الفن. ومن شأن تحليل عملهم أن يُظهر القيود الناشئة في ممارسات أمناء الفن السوري في بلاد اللجوء، بالإضافة إلى الإمكانيات الجديدة التي يجلبها.

أطلقت ألما سالم عام 2017 منصة "سوريا الفضاء السادس" لأمناء وقيّمي الفن، وليكون بمثابة استمرارية لمشروعها السابق "سوريا الفضاء الثالث". سعى هذا المنبر الرقمي لأن يكون بمثابة فضاء مخصص للمعارض الجوالة لوسائط جديدة يتجلى فيها مفهوم "اختفاء الحدود"، ويدعو الفنانين والجمهور لإعادة تخيّل ما هو "حقيقي" مقابل مفاهيم "الافتراضي". وضمّت قائمة الفريق متعدد التخصصات في "سوريا الفضاء السادس" كلاً من حسن عباس (أكاديمي وكاتب)، ورشا عباس (كاتبة)، وزياد عدوان (مسرحيّ)، وديمة الشكر (ناقدة وكاتبة)، وعابد الحكواتي (صانع أفلام)، وعبدالله الكفري (كاتب مسرحي والمدير التنفيذي في مؤسسة اتجاهات الثقافية)، وجمانة الياسري (باحثة ومديرة في مجال فنون الأداء)، وإبراهيم فخري (فنان غرافيتي/فنان بصري)، وعمر إمام (مصور فوتوغرافي)، وحنان قصاب حسن (باحثة في مجال الفنون) وأسماء أخرى توظّف خبرتها ورؤيتها في مشاريعها، التي تساهم بتنوّع المقاربة الفنية لهذه المنصة. وبحسب سالم:

 

"يُحدَّد عمل القيّم الفني بحسب الأشخاص الذين يضطلعون بهذا العمل. فبالنسبة للبعض، يمثّل ذلك فضاءً يتم فيه اختيار وإعادة ترتيب عناصر موجودة مسبقاً في الحيز المادي، وبالنسبة لآخرين يُعتبر ذلك بمثابة رحلة يتم فيها الربط بين نقاط مختلفة للوصول إلى مقاربات جديدة. ولكن ذلك هو أيضاً بمثابة نقطة انطلاق لعملية تحليل للفضاء نفسه وللسياسات في إطار سياقات متعددة الثقافات، وكيف يمكن للفن أن يعكس ويتوقع ما يحمله المستقبل من إمكانيات".[11]

 

تجلّت هذه الرؤية في مشروع متنقل حمل اسم "كشّاش" (2017-2018) جمع بين عناصر معرض فعلي وحملة عبر الإنترنت ومجموعة أدوات للغرافيتي يمكن لعامة الجمهور استخدامها كنوع من الانخراط في العمل. شجّع مشروع "كشاش" على الاستفادة من الفضاء الافتراضي لإعادة النظر في الحدود الثقافية المعيقة وتحديها، وخلق وقائع بديلة وجديدة تستفيد من قدرة الفن الرقمي على إحداث تحوّل، وقد شملت قائمة الفنانين المشاركين في المشروع عمّار البيك وخالد عقيل وعبدالله حكواتي وخليل يونس. تُعتَبر سالم من دعاة استغلال الإعلام الرقمي في سبيل سبر أغوار "العالم الافتراضي" باعتباره يمثّل بديلاً، وذلك رغم اعتمادها على جيل ينشأ في مختلف أرجاء العالم وأكثر مهارة عادة في التعامل مع هذه الأدوات الجديدة "ولربما يكون قادراً على كسر القيود التي تواجه جيلنا في هذا الصدد".[12]

يتردد صدى هذا الكلام لدى الجيل الجديد من قيّمي الفن السوريين الذين يوظّفون الأدوات التكنولوجية كمحاولة للالتفاف على استحالة الوصول إلى أعمال الفنانين السوريين المنتشرين في أرجاء العالم، وهو ما يتجلى بالعدد المتزايد من المعارض الرقمية للفن السوري، ويُظهر أن تسخير التكنولوجيا في ممارسات أمناء الفن تذهب إلى ما هو أبعد من الهدف الموضوعي لاستخدامها، بحيث تساهم في خلق سرديات أكثر شمولية.

 

أمناء وقيّمو الفن في السياق السوري: التاريخ والممارسات والانتشار - Features - Atassi Foundation

 من نشاط لمنصة أبواب مفتوحة على الفن

بحث عن ثقافة مشتركة بين الفاعلين في المشهد الفني
بمعزل عن الإنجازات الفردية التي يحققها السورين في مختلف أرجاء العالم، فإن السياق المقدَّم والتصورات القائمة في المشهد الفني تطرح تساؤلات عن السردية المفضلة. وبالنسبة للأشخاص المنخرطين في هذا الحقل والذين تم إجراء مقابلات معهم، فإن نشر هذا السردية المتناغمة مع الممارسات والمواضيع التي يتطرّق إليها الفنانون السوريون إنما هو جهد جماعي.

انطلاقاً من هذا المنظور، قامت جمانة الياسري بإعادة ترتيب للسياق العام في عملها كمديرة ثقافية، إذ يتقاطع عملها مع الجوانب النقدية للعمل المسرحي والتركيز على تكوين الهوية في المنفى والجغرافيا السياسية للخيال. أما تغيير السردية في ممارسات الفنانين السوريين، بحسب الياسري، فهو أمر يعتمد على البحث والتشبيك والانفتاح على النقاش والنقد، وتشير إلى جملة من العوامل الهامة: "أحدها هو البحث والانخراط في الجوانب التي تركز عليها المراكز المؤثرة الرئيسية... والتواصل مع الأشخاص المسؤولين عن ضبط مثل هذه النقاشات وتشجيعها. يتمثل عامل آخر بتطبيق هذه الممارسة وتوسيع دائرة النقاش في أوساط المشهد الفني. وأخيراً، [يجب] ممارسة النقد وإجراء حوارات موضوعية تستغلّ المنصات المتاحة التي تعمل على القضية السورية".[13]

وفي معرِض تعليقها على حالة عدم الاستقرار والتقلّب التي يتّسم بها المشهد الفني السوري فيما يتعلق بإنتاج سردياته، تشير الياسري إلى أن اللغة التي تبناها بعض المثقفين الفاعلين في المشهد الفني ساعدت، وللأسف، في تكوين صورة نمطية عن الفن السوري، بحيث يتم التعامل معه انطلاقاً من رؤية صحفية وكأنه توثيق للأحداث بعدسة لاجئ، وهو ما يؤدي بدوره إلى تقييد في تفاعله مع الدوائر الفنية الدولية ذات النفوذ، وهو رأي يتشارك به فاعلون آخرون في المشهد الفني، مثل ألما سالم، والذي تقول عنه الياسري:

"ما نحن بحاجة للقيام به، بدلاً من مراكمة وإعادة نفس الطرق الفردية لتمثيل الأفكار، هو خلق فضاء لمقاربات جديدة تتبنى المقاربات المتشكّلة متعددة التخصصات، ومن ثم تخيّل مستقبل غير محصور بالأعمال التي تشكلت في الماضي"[14].

وتشير الياسري في هذا الصدد إلى فترة في سوريا شهدت ظهور ممارسات فنية تجاهلت أعمال مفكرين وباحثين وفنانين لم يلتزموا بالتيارات التي احتضنتها المراكز الفنية الحكومية.

وبالنسبة إلى القيّمة دنيا الدهان، التي تدير فضاءً فنياً[na1] ، فإن العمل الجماعي وإرساء أواصر علاقات مع الفنانين شكّل القوة الدافعة وراء عملها. فنسج هذه الصلات المتينة مع الفنانين كان السبب الرئيسي وراء انخراطها في ممارسة مهام أمينة للفن منذ أن كانت دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008. تتعاون الدهان مع أمناء من خلفيات متنوعة سعياً منها لتعزيز الصلات معهم وتوسيع الإمكانيات، وانطلاقاً من هذا المفهوم، تم تأسيس منصة Portes ouvertes sur l'art (أبواب مفتوحة للفن) التي تتقاسم الدهان إدارتها مع أمناء فن أوروبيين وتهدف للدفع نحو دمج الفنانين السوريين في دول المنفى. كما تنوّه الدهّان إلى الحاجة لوجود "إطار يردم الهوة بين الأجيال، ويعزز التضامن باعتباره عاملاً أساسياً للمساعدة في تحسين مستوى التبادل واتخاذ خطوات فعالة واضحة نحو رسم معالم نابضة بالحياة للمشهد الفني السوري".[15]

يبدو أن مهنتي أمناء وقيّمي الفن في سوريا، التي لطالما شكّلت القيود السياسية حجر عثرة في طريقها والمقيَّدة كذلك بعدم قدرتها هي نفسها على التجدد والتنوّع، تشهد حقبة جديدة، إذ تتضاعف أنشطة هؤلاء الفاعلين بشكل عابر لحدود الدول، وضمن مقاربة تنطوي على تعاون وتخصصات متعددة وذات بُعد دولي أوسع نطاقاً. ولكي يتركوا بصمتهم في هذا المشهد الدولي المعقد والذي ينطوي على تنافس شديد، يتعيّن على أمناء وقيّمي الفن السوريين توسيع آفاقهم ومقارباتهم والتعاون مع مختصين في مجالات متعلقة كالباحثين والمؤلفين، فهذه الأشكال من العمل تُعلي من شأن التنوع في الأفكار المطروحة والوسائط المستخدَمة. وفي حقبة يتّسم فيها المشهد الفني السوري بالتشتت، يتمثّل التحدي بالنسبة للجيل الجديد من المستقرين بغالبيتهم خارج البلاد، بأن يحافظوا على صلاتهم مع الفنانين في منافيهم، وكذلك مع فناني الداخل، فالتشظي الجغرافي للمشهد الفني السوري يترافق مع حالة من تهميش للفنانين المتواجدين في الداخل السوري ممن يواجهون صعوبة في إكمال مسيرتهم الفنية وعرض أعمالهم.

الحواشي

[1] محمد كرد علي، "خطط الشام"، الجزء الأول، المطبعة الحديثة، 1925.

[2] محمد كرد علي، "خطط الشام"، الجزء الأول، الفصل 6، صفحة 173-175، المطبعة الحديثة، 1925.

[3] جرى الافتتاح الرسمي عام 1936 بعد استكمال الأقسام الأخرى.

[4] مؤسسة مكرَّسة للأبحاث المتعلقة باللغة العربية والإعلاء من شأنها، وكان المتحف ملحقاً به.

[5] مكي الحسني، الأمير جعفر عبدالقادر الحسني، مجمع اللغة العربية في دمشق، 2012.

[6] مجلة "الحوليات الأثرية العربية السورية"، العددان 11 و12، المديرية العامة للآثار والمتاحف، 1961-1962.

[7] تاريخ تأسيس الجمعيات الفنية بدمشق في القرن العشرين منذ بداية ظهورها وحتى انعقاد المؤتمر العربي الأول للفنون الجميلة بدمشق عام 1971"، المجلة، مؤسسة أتاسي.

[8] لنسن، أنيكا، "صالة الفن الحديث العالمي"، تأسست في دمشق، سوريا، 1960. موسوعة روتليدج للحداثة، تايلر وفرانسيز، 2016.

[9] أنيكا لينسن، "إثارة جميلة: اللوحات الحديثة والسياسة في سوريا"، "دار نشر جامعة كاليفورنيا"، 2020.  

[10] يمكن الاطلاع على نشاط بعض الصالات في الثمانينات والتسعينات عبر قراءة العدد التاسع من مجلة أتاسي على الرابط التاليhttps://www.atassifoundation.com/ar/lmjl/l-dd-9-jm-w-ml-wglyryt

[11] اقتباس من حوار مع ألما سالم، يوليو/تموز 2022.

[12] المرجع نفسه.

[13] اقتباس من حوار مع جمانة الياسري، أغسطس/آب 2022.

[14] المرجع نفسه.

[15] اقتباس من مقابلة مع دنيا الدهان، أغسطس/آب 2022.

المراجع
عسلية، نور، "الأرشيف في الفن، الفن في الأرشيف"، المجلة، مؤسسة أتاسي، 2022.

بدر، أنور، "فورة الفن التشكيلي السوري: اللوحة السورية من 1600 ليرة الي مليون!"، القدس العربي، 2008.

بهنسي، عفيف، "النقد الأدبي وقراءة الصورة، دار الوليد، 1997.

بانك، شارلوت، "التعليم الفني في سوريا في القرن العشرين، تعليم الرسم: حول العالم! الاستمرارية – الانتقال - الاختلاط"، 2019.

الدروبي، هالة، "حكاية صغيرة عن حلم فني سافر من حمص إلى أماكن بعيدة"، موقع Raseef22، 2017.

الحسني، مكي، "الأمير جعفر عبدالقادر الحسني"، مجمع اللغة العربية في دمشق، 2012.

كرد علي، محمد، "خطط الشام"، الجزء الأول، المطبعة الحديثة، 1925.

لنسن، أنيكا، "شكل الدعم: الرسم والسياسة في سورية القرن العشرين"، رسالة لنيل درجة الدكتوراه. معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، 2014.

مجلة "الحوليات الأثرية العربية السورية"، العددان 11 و12، المديرية العامة للآثار والمتاحف، 1961-1962.