دعت أسباب عديدة الفنانين السوريين للقدوم إلى باريس منذ بدايات القرن الماضي. لا شك أن النهضة الفنية القائمة و المستمرة في باريس منذ عدة قرون كانت من أهم هذه العوامل. يضاف إليها الحركة الكبيرة المتمثلة بالنشاط الواسع للصالات والمراكز الثقافية التي استقبلت العديد من المعارض المتميزة. كما أن حرية التعبير والانفتاح الفني كانا من الأسباب الرئيسية التي جذبت الكثير من الفنانين، ابتداءً من فناني الرعيل الأول الذين جاؤوا لتمكين تحصيلهم الأكاديمي وعادوا إلى سوريا مثل توفيق طارق وميشيل كرشة. ثم الجيل الثاني، منهم من قرر الاستقرار في مدينة الفن مثل أسعد عرابي، ليلى مريود وزياد دلول. باريس المدينة المميزة بهندستها المعمارية و جسورها الجميلة و مدارسها الفنية وجامعاتها الشهيرة، استقبلت مؤخّراً العديد من الفنانين من الجيل الشاب الذين وصلوا إليها في بداية الألفية الثانية للدراسة مثل نغم حذيفة، نور عسلية و محمد عمران وكثيرين غيرهم. وبما أن باريس كانت وما زالت تمثل مكانا آمنا للهاربين من أنظمة الاستبداد والإرهاب، فقد وصل إليها الكثير من الفنانين السوريين الذين اضطروا لمغادرة سوريا بعد اندلاع الثورة السورية عام ٢٠١١م, وذلك لأسباب مختلفة أمنية أو معيشية أو فنية، مثل علاء أبو شاهين وخالد ضوا.
فتحت باريس أبولها للفنانين السوريين، وكانت حاضنة لهم ولفنهم من خلال مبادرات فردية وجماعية، منها ما أسسه سوريون مقيمون في باريس أيضاً. ولقد اخترنا في هذه الإضاءة الحديث عن مبادرتين وهما «القافلة الثقافية السورية»La Caravane culturelle syrienne , ومبادرة « الأبواب المفتوحة على الفن» Les Portes Ouvertes sur l'Art ". وقد حققت هاتان المؤسستان دوراً كبيراً في احتواء ومساندة الفن والفنانين السوريين ، ولكل منهما بنية تأسيسية و آلية عمل مغايرة، وإن كانتا تتطلعان إلى رؤية واحدة.
في عام ٢٠١٤م تم تأسيس مشروع «القافلة الثقافية السورية» بالتعاون بين المصوّر الفوتوغرافي و المخرج السوري محمد الرومي مع مجموعة من الفنانين والمشتغلين في الشأن الثقافي وهم أميلي دواميل و خلود الزغير وولاء دكاك ووليد المصري وبدعم ومشاركة عاصم باشا وعلي قاف ووضاح كرمان، وبمساهمات فنية من قبل فنانين بعضهم كان لا يزال في سوريا في ذلك الوقت مثل ياسر الصافي وإيمان حاصباني. هي حركة ذات طابع نضالي ثقافي, هدفها هو إعطاء المجتمع الغربي المدني بكل شرائحه الاجتماعية صورة حقيقة عن الفن السوري، خصوصاً بعد موجة تركيز الإعلام الغربي على انتشار تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا و تصديره كواجهة واحدة تشمل كل من يعارض النظام السوري. منذ انطلاقها، لم تقتصر نشاطات القافلة على الفنون التشكيلية، وإنما تتعدتها إلى كل أنواع الفنون الأخرى من أداء فني و موسيقي وعروض سينمائية وأمسيات شعرية ومحاضرات ثقافية، وحتى ندوات للحوار السياسي، يدعى إليها بالإضافة إلى الفنانين والأدباء السوريين العديد من المفكرين الأجانب المختصين بالقضية السورية مثل فرانسوا بورجا François Burgat و إيف أوبان Yves Aubin.
بدأت القافلة السورية نشاطها انطلاقا من باريس في تموز ٢٠١٤ مع شاحنة صغيرة قابلة للسكن ( Camping car ) حملت معها الفنانين المشاركين وأعمالهم الفنية وتجولت بعروضها في الساحات العامة سواء في باريس أو في باقي المدن الفرنسية، حيث شاركت بنشاطات فنية وثقافية متعددة. وقد امتد تجوالها إلى خارج فرنسا ليصل إلى اسبانيا و إيطاليا ( نابولي- فلورانس) و برلين و بروكسل والنروج. كان هدف القافلة التوجه إلى جمهور أوسع من كافة الخلفيات وليس فقط المهتمين بالفن، سعياً لإيصال الفن السوري لأكبر شريحة ممكنة.
تفاعل الجمهور الفرنسي إيجابياً مع هذه المبادرة، ولاقى الفن السوري استقبالاً جيداً لديهم، مما أعطى الفنانين الشباب السوريين دفعاً وأتاح لهم إثبات هويتهم الفنية . لأن فكرة التجول بالكارافان والعرض الفني كانت جاذبة وفعّالة. وقد أبدت العديد من المجلات الثقافية والفنية اهتماماً بهذه العروض و التحركات، على سبيل المثال قد صدرعدد كامل من مجلة Art Absolument مُخصص للفن السوري على إثر متابعة نشاط القافلة. وهكذا بدأ الفن السوري يظهر بوضوح في باريس.
لا شك بأن القضية السورية قد لعبت دوراً هاماً في تحريك الرأي العام وإثارة فضول الجمهور الغربي للتعرف على هذا الفن الوافد الجديد و تنامي الاهتمام فيه. ابتداءً من عام ٢٠١٥م بدأت القافلة الثقافية السورية تتلقى الدعوات الرسمية من قبل مؤسسات وفضاءات ثقافية و فنية في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى، وقد سهّلت هذه الدعوات آلية عمل القافلة لأنها كانت تؤمن لهم الموافقات الرسمية والإقامات وجمهوراً متعدد الأطياف، وذلك بعد أن كان كل فرد من أعضاء القافلة يقوم بعدة مهام ، من إنجاز أعمالهم الفنية أو القيام بتنظيم النشاطات إدارياً و مراسلة رؤساء المديريات في مختلف المدن للحصول على الموافقات لإقامة هذه النشاطات، وحتى كل ما يلزم الكارافان من الناحية التقنية، مع التنويه إلى أن جميع هذه المهام تطوعية دون أهداف ربحية بهدف تحقيق استمرارية نشاط القافلة.
يؤكد محمد الرومي بأن هدف القافلة هو إعطاء المجتمع الغربي الصورة غير المعروفة والعميقة والأساسية للفن السوري بأنواعه. وهذا ما قامت به القافلة في رحلتها الثقافية إلى مدينة Aix en Provence في جنوب فرنسا حيث أقامت خلال أربعة أيام عروضاً ثقافية متنوعة تضمنت عرضاً سينمائياً ومناقشات ومحاضرات عن الأدب والفن السوري. من ضمن الدعوات الرسمية التي تلقتها القافلة السورية أيضاً دعوة للمشاركة في النشاط الثقافي والفني الذي أقيم في مدينة سان سيباستيان كونها عاصمة الثقافة الأوروبية.
ومهما اختلفت أنواع النشاطات بين هذه المؤسسات التي رعت الفن السوري في باريس، نستطيع الجزم بأنها نجحت في خلق روابط وجسور جديدة بين المجتمعين العربي والغربي، لأن مهمتها تمثلت بنقل الصورة الحقيقة للفن السوري . فقد استضافت القافلة السورية بالإضافة إلى الفنانين السوريين مثل خالد الخاني و نجاح البقاعي وخالد تكريتي وغيرهم كثيرون، فنانين فرنسيين مثل إرنست بينون إرنست Ernest Pignon Ernest و فلورانس أوبان Florence Aubin.
ساهمت بالنتيجة مجمل هذه المشاركات بشكل كبير في تغيير النظرة النمطية إلى الفنان السوري المطبوعة في ذهن المجتمع الغربي المحصورة بتقديمه كفنان لاجئ، لأن الفنانين لم يطرحوا فكرة اللجوء وإنما قدموا أعمالهم بما تحمله من قضايا متعددة ذاتية أو عامة. يقول الرومي : "القافلة الثقافية السورية لا تعطي قيمة للفنان، لأن أهميته موجودة أصلا"، إنما هي تفتح له أبوابا" وآفاقا" في المجتمع الغربي".
أما مبادرة « الأبواب المفتوحة » التي نشأت عام ٢٠١٦م فهي عبارة عن تجمع فرنسي – سوري أسسته سيدات فرنسيات و سوريات، يربط بين جمعية أصدقاء البيت الأحمر Les amis de Maison rouge وهو المتحف الذي كان يتأهب لإغلاق أبوابه نهائياً عبر : بولا ايزمبرغ Paula Aisemberg مديرة المتحف السابقة، ومديرة هذه الجمعية فيرونيك بيفر دومانديارغ Véronique Pievre de Mandiarg, والسيدة بولين دولابولاي Pauline De Laboulaye بالاشتراك مع دنيا الدهان والفنانتين علا العبد الله ورندة مداح. حيث تهدف هذه المبادرة إلى إعطاء الفرصة للفن والفنانين السوريين للظهور أمام المجتمع الفرنسي.
انطلقت هذه المبادرة من آلية تفكير مشترك ورغبة واحدة، وهي مساعدة الجمهور الفرنسي على فهم واقع الفن السوري و في الوقت ذاته إعطاء الفرصة للفنانين السوريين للتواصل مع هذا الجمهور الجديد، بالاعتماد على الإمكانيات المتوفرة لدى كل واحدة من العضوات المؤسسات حسب تخصص كل منهنّ للقيام بدور أساسي في العمل. تقول دنيا الدهان : " كان اللقاء والحوار بيننا هو الأساس في آلية عملنا، كما أن الرؤية حول ضرورة التعريف بالفنانين السوريين وحاجة المجتمع الفرنسي لهذا التعريف هي الغاية التي جمعتنا ".
بدأت مبادرة الأبواب المفتوحة في باريس وضواحيها كمرحلة أولى لفتح أبواب مراسم أكبر عدد ممكن من الفنانين السوريين وتنظيم زيارات جماعية شهرية لها، حيث قامت بدعوة الأفراد المهتمين بعالم الفن والخبراء والمؤسسات الفنية، وليس فقط الإعلام، وذلك ليكتشفوا بأنفسهم هذا الجيل الشاب من الفنانين السوريين، الذي لاقى إعجاب واستحسان الجمهور المختص. تتالت بعدها الدعوات للفنانين للمشاركة في معارض فنية فردية أو جماعية . شارك في هذا البرنامج الذي استمر عاماً كاملاً تقريباً معظم الفنانين السوريين ( عشرون فناناً ) منهم محمود الحلبي و خالد التكريتي و محمد عمران و بيسان الشريف و ريم يسوف و عمر ابراهيم و منيف عجاج و دينو أحمد علي.
ساهمت زيارة مراسم الفنانين طوال عام ٢٠١٨م بالتعربف بهم و بفنهم، مما أعطى الجمهور الفرنسي رؤية واضحة لفهم الواقع السوري من خلال أعمالهم بعيداً عن التشويه الإعلامي والمغرض أحياناً . نتيجة لذلك تلقت مبادرة الأبواب المفتوحة اقتراحات من مؤسسات متعددة للتعاون المشترك مثل غاليري Premier regard ومركز الفن المعاصر في مالاكوف . حيث أقيم معرضاً جماعياً ضم واحداً و عشرين فناناً سورياً جاؤوا حتى من النمسا ( أكرم الحلبي ) وألمانيا ( سلافة حجازي، ديالا برصلي ، تمام عزام, وخالد بركه). بالإضافة إلى المقيمين في فرنسا (بيسان الشريف, خالد تكريتي, ولاء دكاك , وليد المصري وغيرهم). " أين بيت صديقي؟ " وهو الاسم الذي اخترنه المنظمات للعرض الذي أُقيم في مركز الفن المعاصر في مالاكوف، قد لاقى نجاحاً وصدى في كل الأوساط الفنية والثقافية مما دعا إلى تمديد مدة عرضه لثلاثة أشهر إضافية.
كما أقامت مؤسسة الأبواب المفتوحة بالتعاون مع صالة النظرة الأولى Premier regard سلسلة من المعارض الجماعية بعضها خُصص للفنانين السوريين و بعضها كان مشتركاً مع فناين من جنسيات متعددة لفتح فرصة للتقارب و التعارف بين الفنانين لتفادي حصر الفنان في قوقعة انتمائه وأصوله القومية، مما قد يثير أراء مسبقة من شأنها حصرهم في خانات محدودة فهذا يتعارض مع الحرية الفنية الإبداعية.
منحت الأبواب المفتوحة إذا الفنانين فرصة الظهور و التعبير عن فنهم ومشاعرهم ، وذلك بخلق روابط بينه وبين القيّمين على الفن في فرنسا. فهي بشكل أو بآخر قد سهلت دخولهم مجدداً في مشهد فني، لم يكفوا لحظة عن أن يكونوا جزءاً منه، حسب السيدة بولين دولابولاي .و في المرحلة الأولى كان فضول الجمهور مرتبط بشكل أساسي بالوضع السوري، ولكن أهمية تجربة بعض الفنانين استطاعت أن تنقل هذا الفضول إلى مستوى آخر وإلى تواصل منفصل عن القضية السورية. وبهذا استطاع الفنان السوري أن يثبت نفسه بعمله على الساحة الفنية في باريس، متجاوزاً حدود بلده ومنشأه ومعاناته ووضعه الحالي. مما ساعد المتلقي الفرنسي على التعامل معه كفنان بمعزل عن أي تعريف آخر وفهم موقعه بشكل عام وأخيراً تقييم موضوعي لإنتاجه الفني.
من الجدير بالذكر في هذا السياق أن هناك صعوبة في الخروج عن الصورة النمطية التي تروج لها البروباغندا حول الفنانين الوافدين و تأطيرهم في صفة اللجوء، ولكن عندما يتوقف الإعلام عن الترويج لهذه الفكرة ستسقط تلقائياً. و لا شك أن المتلقي الفرنسي لا يستطيع بسهولة الفصل ما بين ماكينة الإعلام وبين المنتج الفني للفنان السوري الذي يجهله نوعا ما. تحقيق هذا التواصل بين الطرفين ليس بالأمر الهين وقد يتطلب جهداً كبيراً سواءً من الفنان نفسه أو من المؤسسات التي تسانده. في هذا الإطار قامت مؤسسة الأبواب المفتوحة عام ٢٠١٩م بالتعاون مع المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتنظيم يوم بحثي استضافت فيه العديد من الفنانين والقيمين على الفن والباحثين لعرض رؤاهم حول الفن السوري ومشاركة تجاربهم ومساراتهم المهنية أو الفنية.
بالرغم من ذلك ما زال هناك جهود تقع على عاتق الفنان السوري في فرنسا لكي ينجح في عملية الاندماج في المجتمع الجديد وليحقيق نوعاً من التوازن وخصوصاً في هذه المدينة التي تستقطب الفنانين من كل الدول والجنسيات. متجاوزين طبعا صعوبات كثيرة تبدأ باللغة، مروراً بالمعاملات الإدارية والبيروقراطية، وصولاً إلى مشاكل الحياة المعيشسية مثل صغر مساحة المرسم أو حتى عدم وجوده أحيانا. هذا بالإضافة إلى الأسئلة الوجودية التي تعصف بالبعض مثل الشعور بالذنب لمغادرة البلد، أو قلق الكثير منهم على عائلاتهم في سوريا، أو حتى مدى القدرة و الجاهزية للانفتاح على حضارة جديدة وساحة فنية جديدة بدون وجوب الانسلاخ عن الماضي كمصدر وحي وإلهام دائم. في هذا تقول دنيا : " أظن أن العنوان الأساسي للمرحلة المقبلة هو الاستمرار بالعمل والبحث والتطوير والتجريب, ذلك بالضرورة سيقود لنتائج إيجابية ".
تساهم مؤسسة الأبواب المفتوحة في خلق جسور جديدة من خلال إصدار كتاب، هو الأول من نوعه، يتناول الفنانين السوريين و حياتهم و تاريخهم في سوريا وتجاربهم الفنية في فرنسا من خلال لقاءات قامت بها وقدّمت لها دنيا الدهان من خلال شرح وتحليل نوعية عمل المؤسسة وآلية عملها مع الفنانين ، وذلك بحكم اطلاعها الوثيق على الفن السوري لدراستها المتخصصة بالنقد المسرحي وكفاعلة أساسية في إدارة «دمشق عاصمة الثقافة العربية»عام ٢٠٠٧م. يحتوي الكتاب أيضاً على نص للناقدة الفنية الفرنسية كورين روندو Corinne Rondeau وصور لأعمال الفنانين الواردة مقابلاتهم في الكتاب.
نهاية يمكننا القول أن العاصفة التي شتّتت هؤلاء الفنانين لم تنتزع قدرتهم على الخلق، بل ولّدت من صلب معاناتهم فناً حقيقياً في الأدب أو الموسيقى أو الفنون الجميلة. إن حاجة الفنانين السوريين للتعبير الإبداعي واحدة أينما كانت وجهتهم ومكان استقرارهم سواء هنا في باريس أوهناك في بيروت أو برلين، لذا سيواصل إنتاجهم إغناء المشهد الفني وسيمثل دوراً رئيسياً في مواجهة هذه المأساة عبر حساسية رفيعة تتجاوز بالتأكيد خصوصية الحكاية السورية.