محاولة غير رسمية لمناكفة المدينة
محاولة غير رسمية لمناكفة المدينة - Features - Atassi Foundation

المدينة حيزٌ في الفراغ، مساحة تعيد تعريف الغريب وتحاول الافتنان باحتمالات  المصادفة وصبغها بالمعنى الدرامي، وعندما تكون المدينة هي بيروت، تصبح حدودها وتعريفاتها غير مرئية نتيجة لتقاطعاتها غير المحدودة مع فكرة الحاضرة والفتنة

منذ خمسينيات القرن الماضي والمدينة تمضي في عيش الفنون وتنفسها ضمن جغرافيا ترتبط بالمنطقة العربية وأوروبا، ومنذ تسعينيات القرن الماضي والمساحات الفنية في هذه المدينة تولد لتكون مختبراً لاستفزاز أسئلة من قبيل: الفن والمدينة، العمارة، المدنية، الهوية، هموم الحداثة وما بعدها، سياقات تلقّي وإنتاج الفن في أوروبا وتمظهراتها في المنطقة العربية وغيرها الكثير. في هذا المجال امتهنت المدينة علاقة "حب وكره" مع عشرات الفنانين الذين كانوا على خريطتها، البعض منهم أنتج ونشر فيها، آخرون كتبوا عنها ولها، وغيرهم العشرات ممن رأوا فيها المدينة التي خسروها وفقدوها فكانت البديل المؤقت أو الدائم على سبيل منفى اختياري

محاولة غير رسمية لمناكفة المدينة - Features - Atassi Foundation

Amr Al Safadi, Women Choral, Oil on Canvas, 150 x 100 cm, 2014

اجتاحت الحرب المدينة واستقرت في سردها، اقتنصت من جدرانها، واجهاتها، طرقاتها، وأعادت تفكيك وتركيب حكاياتها، وكان مشهد وشعور الدمار فرصة لخلق حكاية جديدة وتشكيل خريطة جديدة عنها، وشهدت المدينة مشاريع استثنائية للاشتباك مع الحرب على مستوى الفكر ويحضر في هذا السياق تجربة مسرح بيروت الذي احتضن بعدها تجربة الجمعيّة اللبنانيّة للفنون المعاصرة ومؤسستها باسكال فغالي والتي دأبت الأخيرة على تنظيم "مهرجان أيلول" حتى 2001، في التوازي مع ذلك كان الفشل الحاصل في احتواء غنى الحرب ضمن مشروع "الدولة" مأزقًا أمام استمرار المشاريع الثقافية البديلة، إلا أن ذلك ترافق مع استمرار المدينة في حوارٍ مع المكان والذاكرة، كان هذا الحوار مقدمة لحوارات ستنتظم بعد سنوات عندما قرر فنانو دمشق امتهان بيروت بعد أن اضطروا لمغادرة حاضرتهم، ودمشق هنا هي كناية ومجاز عن سوريا، كناية بسبب مركزية الفنون في سوريا ومجاز لأن روح هذه المدينة يتسع ليقترح وطناً

عشرات الوافدين الجدد من دمشق الشقيقة "غير الشقيقة" وطؤوا بيروت، كتّاب ومخرجين وتشكيليين وبصريين وأصحاب مشاريع متعددة الوسائط، اقترحوا على مدينة التناقضات حواراً آخر عن معنى الهوية، امتحانات الفن، الثورات الكبيرة، ومشروعية هذا الحوار هو اللقاء "التاريخي" والذي حدث بمعزل عن كتّاب التاريخ بين فناني سوريا الحالمين بإنتاج مشاريع فردية بعد أن عانوا من طمس خصوصيتهم وتفردهم ضمن ثقل وترهل الدولة و"مشروعها" الرسمي في دمشق، وبين فناني ومنتجي بيروت الذي اشتاقوا إلى احتمال التجمع حول مشروع وتعبوا من مسار الفردانية الواسم لأغلب مشاريعهم، وبين الفردي والجماعي والحوار  المستفز كان الجميع يرى في هذا اللقاء فرصة -ربما أخيرة- لتحرير بيروت من تعذر المشاريع الطويلة، وتقلص مساحتها العامة وتحولها إلى مساحة لطمس الأحلام

هذا اللقاء والاشتباك الذي وصل أوجه خلال عامي 2013-2014، كان مساحةً لمناقشة قضايا عدة وموضعة سؤال الفن وتفكيك العنف ومواجهة رحلة التهجير ومعنى الالتزام والنشاط السياسي وقيمة الإنسانية أمام الممارسات العنصرية، توسع هذا الاشتباك ليطرح من كلا الطرفين أسئلة عن العلاقة مع الرقابة، إعادة تعريف الحيز العام، الخبرة والحرفة، المرجعيات الفنية، لحظة المدينة من جديد، الرحيل واللقاء مع الربيع، وكان من أهم مميزاته أنه اتسع ليضيف فنانين جدد تبدو تجربتهم الفنية مختلفة عن جيل من سبقهم، فلا هم بالضرورة ذوو خلفية أكاديمية ولا هم أيضاً من أولاد المدن الكبرى، ورغبتهم في خدش الحياء العام والعمل على استفزاز حدود التلقي تأتي في أساس خياراتهم الفنية، انخرط هؤلاء الفنانون مع هموم تراجع مساحات النشر في بيروت، إغلاق الوسائل الإعلامية، والتعرف على مشتغلي الإنتاج الفني الجديد ومعنى الثورات الشخصية

محاولة غير رسمية لمناكفة المدينة - Features - Atassi Foundation

Saad yagan, Untitled, Acrylic and Ink on Carton, 15x12 cm, 1995

اليوم ومع تناقص أعداد وفنانين المدينة ورحلاتهم إلى مدنٍ جديدة أغلبها هي برلين وباريس ومارسيليا وبروكسل يعود السؤال عن معنى التواصل مع المدينة ومناكفتها، تبدو شوارع بيروت كما جدرانها جائعة لمشاريع جديدة ومتلهفة لواصلين جدد، ولكن يبقى السؤال هو ما الذي يمكن أن يحمي هشاشة ورهافة هؤلاء الفنانين أمام توحش مغتصبي بيروت ودمشق؟ تمضي بيروت في إجابتها عن هذا السؤال من خلال احتضانها لثورة مدنية تعيد الاشتباك مع جوهر الإبداع: التمرد، والحرية، والخيال، والحق بحياة أفضل. تعيد المدينة فتح أبوابها أمام الثوار والناشطين والمناضلين وضمنهم الكثير من الفنانين والذين يرون في هذه الثورة فرصة للمصالحة مع المدينة. تعيد بيروت مباغتتهم بقدرتها على تجديد نفسها، واستحضار مدن أخرى من قبيل طرابلس ودمشق و القاهرة وبغداد والخرطوم والجزائر وصنعاء والمنامة وتونس، وهنا نعود لنسأل ممن جديد ما هي المدينة، ويأتينا الجواب من ساحات وشوارع بيروت: هي فرصة لسرد حكاية فيها خاتمة غير مبتذلة أو مكرورة