تُصعّب تعدديّة الفنان محمود حمّاد الإحاطة بفّنه في مقال واحد. فمسيرته الغنية على مستوى فنيّ شخصيّ وتاريخيّ كما هي على مستوى تعليميّ وفكريّ، تضعُ أمامنا عناصر كثيرة للدراسة والتمعّن. يكشف أرشيف محمود حمّاد عن كثافة إنتاجيّة على صعيد الكم والتنوع. يتّسق هذا الزخم ضمن محاور جماليّة وفكريّة ثقافيّة نابعة من صفات حمّاد الشخصيّة، أهمّها في هذا السياق التنظيم الذهني والعمليّ وتعدد مصادره الثقافية بفضل اتقانه الإيطالية والفرنسية وإلمامه بالإنكليزيّة إلى جانب لغته الأم. في الواقع، لتتّبع الفكر الفنيّ لحمّاد، توجّب الاطلاع على مجموعة أعماله الفنية التي تُحصي ما يقارب أربعة آلاف عمل تُصنّف حسب طبيعتها كلوحات زيتية ولوحات مائية ورسوم تخطيطية ونحت نافر (ميداليّات وجداريات) وأعمال نصبية مع الرسوم التحضيرية ومجموعة كبيرة من التصاميم لطوابع أو كتب أو حتى عناصر تزيينية . دفعت بي مطالعة الأعمال إلى إقامة هذه النظرة الأوليّة التي تسعى إلى تحليل النواظم أو الافتراقات الجمالية التي عبرها حمّاد في فنه، والتأثيرات الأساسية التاريخية والجغرافية التي قادت توجّهاته الفنيّة، وذلك مع التركيز على أعماله التصويريّة من اللوحات الزيتية على القماش أو على اللوح الخشبي.
إن سيرةَ ذاتيّة تأريخية لمحمود حمّاد قد وُضعت من قبل الفنان والباحث الياس الزيات منذ التسعينات. وأهمّ ما يُستفاد منها هو الأساسات المفصليّة المتعلّقة بمراحله الفنيّة، حيث ميّزَ الزيات بين أربع مراحل «امتدت المرحلة الاولى بين عامي ١٩٣٩و ١٩٥٣م، وقد غلب عليها الطابع الواقعي الانطباعي، واما المرحلة الثانية فتمتد من سنة ١٩٥٣ إلى سنة ١٩٥٧م وهي مرحلة إيطاليا، واما المرحلة الثالثة فهي بين سنتي ١٩٥٨ و١٩٦٣، وفيها المدة التي أمضاها في درعا[1]. وأما المرحلة الرابعة فهي بين سنتي ١٩٦٤ و١٩٨٨م[2]، وهي المرحلة التي استكمل محمود حماد فيها عناصر الأسلوب الذي التزم به في مطافه الأخير، الا وهو الكتابة العربية وتحولاتها في اللوحة [3]» في الواقع، إن هذه التصنيفات النقدية التي وضعها الزيات، وأسهم في ترسيخها بشكل غير مباشر كتّاب آخرون مثل سليم عادل عبد الحق[4] وطارق الشريف [5] وفاروق البقيلي[6]، تمّ تبنيها من قبل حمّاد ذاته خلال حياته، لذا فهي تشكّل منطلقاً ابتدائيّاً ثابتاً عند معالجة أو تأمّل فنّ حمّاد.
مؤثرات شخصية
تعرّف محمود حمّاد باكراً على واحدة من أبرز الثقافات المرتبطة حيّويّاً وتاريخيّاً بالفن، حيث درس تعليمه الابتدائي والإعدادي في المدارس الإيطالية في دمشق، وبدأ فيها ممارسة الرسم على يد الراهب الأب لودفيكو[7]. منذ العام ١٩٣٩ زار إيطاليا مع رغبة بالاطلاع عميقاً على الفن. ومن ثمّ درس في روما بين عامي ١٩٥٣ و١٩٥٧ التصوير والميدالية والحفر والفريسك، حيث تقاطع مع فنانين آخرين مثل طالب يازجي (١٩٢٣-١٩٩٥) وفاتح المدرس (١٩٢٢-١٩٩٩) ولؤي كيالي (١٩٣٤-١٩٧٨) وفتحي محمد (١٩١٧-١٩٥٨) ودريّة فاخوري (١٩٣٠-٢٠١٥) وآخرين من الفنانين العرب. قُبيل دراسته في إيطاليا، اشترك مع فنانين سوريين في إنشاء مرسم فيرونيز (١٩٤١-١٩٥٠م) والجمعية العربية للفنون الجميلة (١٩٤٣-١٩٤٥م) ، وكانت تلك المرحلة بالنسبة إليّه تجريبيّة لم تحمّل أعباء الالتزام الأسلوبيّ أو الثقافي، حتى لو أن المشاغل كانت جليّة. إذ كان وزملائه مدركين لضرورة تكوين نواة تأسيسية في ظلّ ضعف التمثيل الرسميّ والحاضنة المجتمعيّة للفن والفنانين في تلك الفترة. وبالرغم من تصنيف تلك السنوات من حياة حمّاد الفنيّة كمرحلة يغلب عليها الواقعي والانطباعي من قبل الياس الزيّات، نرى في لوحات العريّ شكلانيّاً نزعة رومنسية رمزيّة، مع ملاحظة أنّ استخدام السماكات اللونية قد منحها خصوصية بصريّة تمكننا من تفريقها عن الرومانسيّة الرمزيّة التي اشتُهر فيها الشاعر والمصوّر اللبناني جبران خليل جبران منذ مطلع القرن العشرين. لا شكّ أنّ تأثيرات أوربيّة قد لامست حمّاد، حتى إن لم يكن بعد قد زار المتاحف أو شاهد بشكل حيّ على الفن الأوربيّ، قد كان ذلك عن طريق اطلاعه على الكتب مثل كتاب المفكر المصري سلامة موسى (١٨٨٧-١٩٥٣م ) «تاريخ الفنون وأشهر الصور» الصادر عام ١٩٢٧م والذي أشار إليه الفنان ضمن مذكّراته. تظهر الواقعية الانطباعية بشكل أوضح من خلال رسمه للمشاهد الطبيعية أو التراثيّة كما في لوحة «حلب عين التل» ١٩٤٩م و من ثم بشكل أوضح في لوحتي «بيروت» و «معلولا» عام ١٩٥٢م .
العناصر الماديّة المؤثرة : الجغرافيا والتنقل والخامات
أثناء دراسته في إيطاليا بدأ حمّاد ينحاز تدريجيّاً إلى تبسيط المساحات والقيم اللونية وهو ما يظهر في لوحاته التي صوّرت الجسد وتلك التي صوّرت الطبيعة على حدّ سواء. في أعماله من تلك الفترة، تبدو قيم النور المتوسطيّة واضحة التأثير، ويمكن اعتبارها سمة جماليّة أساسيّة سترافق لوحته حتى طوال مرحلة درعا ( ١٩٥٧-١٩٦٣)[8]. لم تكن سنوات حمّاد في إيطاليا مرحلة تمرين تقني وتلقّي معرفيّ أكاديميّ فحسب، فلقد سعى من خلال رحلات، محليّة ضمن إيطاليا وأخرى خارجها، بدأب إلى الغذاء البصريّ والثقافيّ. كانت أبرزها من دون شكّ رحلته مع أدهم إسماعيل عام ١٩٥٥م والتي عنوناها بـ «رحلة إلى الأندلس». استقلّ الصديقان سيارة (توبولينو) شخصية لحمّاد سالكَين درباً منتقاة مدفوعة برغبتهم تلك. بحدود العام ١٩٦٣م وبعد وفاة أدهم اسماعيل، وضمن مذكّراته المعنونة «ذكرياتي مع أدهم إسماعيل» كتب محمود حمّاد :
«في غرناطة – وفي الأندلس- يحلو كذلك التجوال في الأحياء القديمة التي تذكر بأحياء دمشق، مقاهيها -البلدية- ، كراسي القش وشجرة الليمون، والدالية، والظلال الموشاة ببقع الشمس. كنا نقرأ الأسماء على أبواب البيوت فنعثر بين حين وآخر على اسم عربي.[9]»
لعلّ هذا المقتطف من أصدق ما يعبّر عن حمّاد في توجهّاته الفنيّة والجمالية الخاصّة أو المشتركة مع فنانيّ جيله. فهذا الحنين لم يكنْ عاطفيّاً بشكلّ صرف، إنما هو حنين يكشف عن الهوية الثقافية لحمّاد والذي يبدو مسكوناً بمشاعر العروبة [10]. كما يظهر انتمائه البصري إلى الطبيعة ليس فقط صوَريّاً من خلال نقل المناظر الطبيعية، إنّما من خلال تأثيرات قيم الضوء الطبيعي للمنطقتين (سوريا وإيطاليا) على لوحته، وهو عامل تشكيلي بإمكاننا تتبعه منذ أواخر الأربعينيات كما رأينا في لوحتي «معلولا» و«بيروت»، نقرأ عنه هنا عبارة : «الظلال الموشاة ببقع الشمس». لكن انحيازه للحضارة العربية لم يمنعه من توثيق إعجابه بكبار الفنانين الأوربيين أو من المقدرة على تميّز سمات فن إسباني بصرف النظر عن الأثر الذي تركته تلك الحضارة، وذلك في مقاربة نقديّة تصنيفيّة عندما كتبَ : «بعد زيارة الأندلس اتجهنا شمالاً إلى العاصمة مدريد. وهناك قضينا أياماً في متحف البرادو، أمام اللوحات الفذة لعباقرة الفن الإسباني : فيلاسكيز وزوربان والغريكو وغويا.[11]»
على الرغم من الإثراء البصري والمعرفيّ بحكم دراسته في روما، ساهمت عوامل أخرى غير فكريّة في لوحته، أبرزها الشروط الفيزيائية المتعلقة بإنتاج العمل. يتعلق ذلك على وجه الخصوص بالوسيط حامل العمل الذي لعب دوراً تطبيقياً في تحقيق إمكانيّة الميل نحو التبسيط، إذ إن معظم لوحاته في المرحلة ما قبل روما (أي قبل العام ١٩٥٣) رُسمت على لوح خشبي في حين أتُيحت الفرصة لاستخدام السطح القماشي في مرحلة روما. في الواقع، في ظلّ نقص الموارد في تلك الحقبة من تاريخ سوريا، كثيراً ما استخدم الفنانون السوريون الألواح الخشبية من نوع (النشارة المضغوطة) أو (الخشب المعاكس)، ولعلّ أبرزهم وأكثر من استثمر هذا السطح الخشن هو الفنان لؤي كيالي، حيث جاءت مجموعة كبيرة من أعماله على اللوح الخشبي. في مخطوط «تجارب شخصيّة في الفن التشكيلي» الذي كتبه حمّاد عام ١٩٨٤ يشير الفنان بوضوح إلى هذا الاستخدام وأسبابه[12]. وما تجدر الإشارة إليه هنا، أنه غالباً عند استخدام اللوح الخشبي وبسبب اختلاف درجة امتصاص وثبات اللون عن الحامل القماشي، ولتحقيق التغطية الطلائية المطلوبة، سادت لدى حمّاد السماكات، مؤثرةً على أسلوبه. نلاحظ في أعماله اللاحقة ميله إلى خلق المساحات الصريحة على المستوى التقني والفني على حدّ سواء. على سبيل المثال المناظر الطبيعية المرسومة على الحامل القماشي : «راباللو» ١٩٥٤و«مشهد» ١٩٥٥.
تلك المرحلة من تاريخ حمّاد رَسمت أولى محدّدات أسلوبه متمثّلةَ بنزوعه تدريجيّاً وطبيعيّاً وليس تقليداً إلى التبسيط اللوني والشكليّ، ما أوصله لاحقاً إلى التجريد والانخراط في الحروفية. وفي حين أن تلك المرحلة لم تَسُد ظاهريّاً على فنّه فيما تلى، كانت تأسيسيّة على الصعيد الفنيّ الذاتيّ. لقد منحه كلّ من التجريب والاطلاع جزالة ثقافية وفكرية، مما جعله حرّاً في أسلوبه الفنيّ، حتى أواخر الستينات، حيث تأثر حمّاد وفنانين عرب آخرين بالفكر القوميّ العروبي، مما جعلهم يتمسّكون بـ «الحروفيّة»، اتجاهاً بدا هامّاً لحمّاد على الجانبين المعنويّ والتشاركيّ العمليّ مع الفنانين العرب.
العامل الثقافي العروبي : التجريد والحروفية
لدى عودته من روما عام ١٩٥٧، عُيّن حمّاد مدرّساً للفنون الجميلة في مدارس مدينة درعا السوريّة الواقعة في جنوب البلاد حيث أقام لمدة سنتين. بالرغم من نوع من العزلة لدى الابتعاد عن العاصمة دمشق، والتي كانت في حد ذاتها تشهد بدء تطوّر الحركة التشكيليّة، استغرق حمّاد في تجارب فنيّة جديدة جرت في منزله أو منزل ممدوح قشلان[13] في درعا لقاءات مع أصدقائه من الفنانين مثل ممدوح قشلان وأدهم اسماعيل. في تلك المرحلة، ظهرت مجدّداً حرارة الشمس تاركةَ تأثيرها على لوحة حمّاد، ولقد كتب في مسوّدة إجاباته على لقاء أعدّه معه ممدوح قشلان « في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات كنت أحاول في أعمال صغيرة الخروج عن النمط الذي عُرفَت به أعمالي أثناء وجودي في المنطقة الجنوبية من سورية ببلدة درعا، حيث كنت أستوحي حياة الفلاحين والطبيعة القاسية وتأثيرات الجفاف والقحط، مما صبغ تلك الأعمال بسمات، أبرزها استقامة الخطوط وحدّة الزوايا التي تحصر المساحات اللونية المحروقة بحرارة الشمس. وقد لجأت لإدخال أشكال الحرف العربي في تكويناتي التي بدأت بصورة عفوية تبتعد عن تأويل المرئيات وتدخل في حيّز التشكيل التجريدي [14]» في الواقع، بالرغم من أن أعمال درعا قد شهدت دخول تقسيمات لونيّة هندسيّة بشكل واضح إلى لوحته، ظلّ حمّاد متمسّكاً بالتمثيل التشخيصي، على سبيل المثال لوحة «أمّ في الريف السوري» ١٩٦٠م ، إلى أن عاد إلى دمشق، حيث حضر التجريد بشكل صريح وبدأت مرحلة فنيّة جديدة.
إن التجريد في تلك المرحلة من تاريخ البلاد العربيّة، قد حضر كبادرة لبدء فترة الحداثة العربية من جهة وكوسيّلة مخلصة من التبعيّة للفن الغربي ومحاولة لتوحيد لغة تشكيلية عربيّة عبر الحروفيّة العربية تحديداً من جهة أخرى. نتيجة لذلك ارتبط التجريد عبر الحروفية بنشأة ما يُسمى اصطلاحاً بـ «الحداثة العربية». وهنا لابدّ من القول أن البلاد العربية لم يشهد جميعها تاريخاً واحداً للحداثة، وذلك لأسباب عدّة أبرزها اختلاف الظروف السياسية الداخلية لكل بلد عربيّ عن الآخر واختلاف تاريخ نشوء مدارس أو كُليّات الفن فيها والتي جاءت سوريا متأخرة عن العديد منها [15]. إلّا أن تلك لم تكن الإشكالية الوحيدة، حيث أوضّحت سيلفيا نايف في مقالها حول الفنون التشكيلية والحداثة في العراق إشكالية هذا الدخول، فكتبت : «طرح ظهور التجريد في بداية الستينات مشكلتين ملموستين : أولاهما مشكلة لغة الفن التجريدي، التي كان الجمهور لا يفهمها، وثانيتهما مشكلة معنى هذا الفن في بلاد لا تملك تراثاً تشبيهيّاً (المقصد هنا تشخيصي) متجذراً ليتكون الفن التجريدي ردّاً عليه. [16] »
إلى جانب تلك الصعوبات المتعلقة بالانشغالات الفنيّة، يبرز سؤال هام متعلّق بتعيين تسمية « الفن العربيّ». فهذا السؤال يتضمن في جوهره تساؤلاً حول إمكانية ربط الغايات والتوجّهات العربية للفن. في كتابها « الفن العربي الحديث: تشكّل الجماليات العربية» اشتغلت ندى شبوط على معالجة هذه القضيّة، ودعت لفهم معرّفات «الفن العربي» باعتباره تصنيفاً منحدراً من الانتماء الجغرافي لبلدان ناطقة بالعربية وليس كصورة أو صيغة واحدة جامعة للفن الصادر من تلك المنطقة. دعت شبّوط أيضاً إلى التمييز بين الفن العربي بمعناه الحديث والمعاصر من جهة والفن الإسلامي كتراث من جهة أخرى، مشيرةً إلى الحجج التي تُساق على أن العروبة لغةً أقدم من الإسلام وأن الإسلام انتشر في البلاد الفارسية وليس فقط العربية ـ كما أوضحت أنه في جميع الأحوال أن التسميات إشكاليّة لسبب نقص المصادر الأصليّة [17].
لكن على أرض الواقع، سعى الفنانون العرب في مناسبات عديدة إلى الاجتماع من أجل تقريب رؤاهم الفنيّة والحقوقيّة والنقابية على حد سواء، وذلك في مؤتمرات كان حمّاد عضواً فيها، وقد تتالت في مطلع السبعينات وهي : «المؤتمر العربي الأول الفنون الجميلة» في دمشق عام ١٩٧١، تلاه «المهرجان العربي الأول للفن القومي التشكيلي» الذي أقيم في دمشق أيضاً عام ١٩٧٢ تحت شعار «الفن التشكيلي في معركة المصير[18]» و «المؤتمر الأول للاتحاد العام للتشكيليين العرب» في بغداد عام ١٩٧٣. وهو ما عبّر عنه حمّاد بجلاء عندما كتب :
«إنّ الحركات الفنية في مختلف أقطار الوطن العربي في نمو متسارع، ومن خلال الاحتكاك والتبادل الفكري الذي نلاحظه اليوم بين فنانيها، سنصل ولا شك إلى تلك الهوية العربية التي طال الحديث عنها، والتي يجب أن تتميز بصفات المعاصرة لتقف جنبا إلى جنب مع أرقى فنون العصر.[19]»
على هذا النحو شكّلت الحروفية صلةً ثقافيّة مع الاعتبارات القوميّة العروبيّة التي تبناها الفنانون في تجمّعات رسمية بدت مؤدلجة إلى درجة طاغية على الغرض الفني[20]. وبسبب هذه النزعات الدامجة للعرب، وفي ظلّ صلابة النظرية العراقية، حُرم الفن السوري من أن يتمّ النظر إليه بشكل متفرد. في الواقع، جاءت الحروفية العراقية سباقة، سواء على الجانب الفنيّ فأول من بدأها كانت الفنانة مديحة عمر ( ١٩٠٨-٢٠٠٥) منذ أواخر الأربعينات، أو على الجانب النظري الذي تذكره سيلفيا نايف خصوصاً ما جاء في «بيان البعد الواحد» ١٩٧١، وذلك لأن مفاهيم نظريّة استطيقية قد وُضعت للحروفيّة جاعلة إيها نواة فكرية، ويرجع الفضل الأكبر إلى مؤلفه الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد، ليس فقط في البيان المذكور وإنما منذ كتابه «دراسات تأملية» ١٩٦٩.
لكن إذا ما تعمّقنا، سنجد أن ممارسة حمّاد للحروفيّة والتي تفرّد تقريباً في تمثيلها في سوريا في تلك الفترة، لم تكن محض مجاراة لتيّار ما. حيث نقرأ في معرِض ذكرياته متحدّثاً عن أدهم اسماعيل : «راح ينظم في مرسمه -في شارع المهدي بن بركة- أوراقه ورسومه ودراساته، ويطلعني على آخر أبحاثه التي أجراها في القاهرة، ومن أهمها الدراسات التي تنبى فيها الكتابة العربية باعتبارها عنصراً تشكيليّاً وبنائياً في اللوحة ، الأمر الذي كان شاغلي في الوقت ذاته وكانت بيننا مناقشات طويلة حول الموضوع[21]» كما نجد في مسوّدة حوار صحفي مع حمّاد التالي : «رموز الكتابة أشكال دخلت حياتنا منذ الطفولة الأولى ورافقت كياننا وفكرنا حتى غدت جزءاً من طابعنا الشخصي وغدا لكل منا خطاً مميزاً يعرف به. كما أن تمجيد الحرف العربي دخل تراثنا منذ أن خطت النسخ الأولى من القرآن الكريم [22]»
في الواقع من وجهة نظر فنيّة، ترتكز الحروفية على الإمكانيات الرمزية للحرف العربي، على مستويين الأول هو المعاني والصوتيات المتخيّلة، والثاني هو صفته الاعتبارية الموّحدة للعرب والمرتبطة بكونه لغة الإسلام لدى بعض الفنانين. وبناءً على ذلك، قد نتساءل : هل الحروفية حقاً تجريد؟ هل هي بريئة من التمثيل التشخيصي؟ فالنصّ القرآني وكذلك الشعر العربي صوَريّان إلى درجة كبيرة. بمعنى أنه في النص القرآني أو الشعري كانت إلى درجة كبيرة ‘’اللوحة’’ الحاضرة في الحضارة العربية على مدار عقود من تأخر الفنون التشكيلية عبر الكلمة. إن خيار الحروفية لدى حمّاد في عبارات مثل : «سلامٌ قولٌ من ربٍّ رحيم» (آية قرآنية) « كلام الملوك، ملوك الكلام» (قول عربي) أو حتى « أعلّمه الرماية» (مأخوذة من شعر لمعن ابن أوس: أعلّمه الرماية كلّ يومٍ، فلمّا اشتدّ ساعده رماني) قد منح التجريد معنىً صوَريّاً بما يختلف عن المعنى التعريفي الاستطيقي للتجريد. يتجلى التجريد الحروفيّ لدى حمّاد كمعالجة تشكيلية، اختفت معه تقريباً الأعماق الضوئية وأصبحت السطوح ثنائيَّة البعد على نحو واضح، وعلى غير ما جاءت عليه أعماله السابقة. و لفهم موقع حمّاد في المشهد الفنيّ السوري، يجب القول أن الفنانين السورييّن معاصريّ حمّاد لم يهتمّوا بشكل واضح بالتجريد، فيما عدا بعض التعليقات الرافضة أو الرؤى التحليليّة مثل نظرة فاتح المدرّس إلى التجريد كمفهوم [23].
في نهاية القول لقد كان محمود حمّاد مرآة ذاتِه، عكستْ بورتريهاته الذاتيّة، وهي ممارسة لم تنقطع عنده منذ بداياته وحتى عام وفاته، مساره التاريخي الفني، نقرأ في كلّ واحدٍ منها خطوة أسلوبية أتت معبرة لتقدم الزمن. ولربما أن الحروفية التي اشتهر فيها، كانت مرحلة توجّه ثقافي، في حين أن مراحله السابقة قد أظهرت استغراقاً جماليّاً في قيم اللون والضوء، ما يعزز انتمائه، على مستوى بصريّ فني هذه المرة، للمنطقة.
الحواشي
1) أمضى حماد سنتين في درعا نُقل بعدها الى دمشق حيث درّس في المعهد العالي للفنون الجميلة وعيّن رئيساً لقسم الحفر للعام الدراسي ١٩٦١-١٩٦٢ أما مرحلة درعا كمرحلة فنية فقد امتدت على مدار خمس سنوات
2) على وجه الدقّة، بدأ حماد تجاربه في التجريد والكتابة العربية منذ عام ١٩٦٣
3) الياس الزيات، محمود حمّاد (١٩٢٣-١٩٨٨)، الموسوعة العربية السورية، المجلد الثامن، ص ٥١٢ https://arab-ency.com.sy/ency/details/4393/8.
4) على سبيل المثال في مقال: سليم عادل عبدالحق، النهضة الفنيّة في سوريا، مجلة راديو سوريا،١٩٥٤، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد https://www.atassifoundation.com/masa-items/mqlt/images?view=slider#3
5) على سبيل المثال في مقال : طارق الشريف، في معرض الخريف، جريدة الثورة، ١٩٦٣، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد
https://www.atassifoundation.com/masa-items/mqlt/images?view=slider#19
6) على سبيل المثال في مقال :فاروق البقيلي، الفن السوري، خمسة فنانين وقضيّة واحدة ، مجلة الأسبوع العربي، ١٩٦٦، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد https://www.atassifoundation.com/masa-items/mqlt/images?view=slider#47
7) سليم عادل عبدالحق، النهضة الفنيّة في سوريا، مجلة راديو سوريا،١٩٥٤، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد https://www.atassifoundation.com/masa-items/mqlt/images?view=slider#3
8) مع أن الياس زيات ذكر في تفصيل مراحل حمّاد بأن مرحلة درعا بدأت منذ العام ١٩٥٨، تؤكد ابنته السيدة لبنى حمّاد أن مرحلة درعا قد بدأت بالفعل منذ ١٩٥٧
9) محمود حمّاد، «ذكرياتي مع أدهم إسماعيل» ، تاريخ غير معروف، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد
https://www.atassifoundation.com/ar/mwd-rshyfy/mkhtwtt/images?view=slider#50
«ذكرياتي مع أدهم إسماعيل» نشرت أيضاً في : خليل صفية، أدهم اسماعيل قراءة في ثلاثة أبعاد، أعلام الفن التشكيلي، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية : دمشق، 1991
10) كانت أجواء التمّسك بالعروبة قائمة حتى في يوميات العديد من الفنانين، يذكر محمّود حمّاد في «ذكرياتي مع أدهم إسماعيل» : «كان لدى أدهم ورقة مثقبة في عدد من النقاط بحجم الكلمة، ومثلها لدى مراسليه في أنطاكية، إذا ما وضعت فوق الرسالة، أمكن قراءة الفكرة المراد إيصالها من خلال تلك الثقوب. بهذا الأسلوب كان يتم إرسال التوجيهات والمعلومات المتعلقة بالنضال من أجل عروبة اللواء بسريّة تامّة. ومن ذلك الحين بدأ أدهم بالمشاركة في المعارض التي كانت تقام في دمشق منها معرض (الجمعية العربية للفنون) الذي أقيم في معهد الحريّة عام ١٩٤٢. »
11) محمود حمّاد، «ذكرياتي مع أدهم إسماعيل» ، تاريخ غير معروف، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد
12) «كنا نجد صعوبة في توفير المواد والألوان اللازمة لعملنا، فنلجأ إلى الأتربة المستعملة في طلاء الجدران نسحقها بزيت الكتان، ونعبئها بأنابيب قديمة لمعجون الأسنان بعد تنظيفها، وكنا نستعمل الخشب المعاكس لإنجاز اللوحات الصغيرة فنبتاع صناديق الشاي الفارغة ونهيئ قطعها التهيئة اللازمة لعملنا. إلى أن حصلنا على ترخيص (كوتا) من دوائر التموين بكمية من هذا النوع من الخشب، أسوة بالنجارين» محمود حمّاد، تجارب شخصيّة في الفن التشكيلي، ١٩٨٤، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد، مؤسسة أتاسي،https://www.atassifoundation.com/ar/mwd-rshyfy/ktbt/images?view=slider#19
13) أتت معظم اللقاءات في منزل قشلان حسب ما يذكره في مقابلة معه، وشكّل الثلاثة فيما بينهم ما أسموه بمدرسة درعا
عن ثلاثيّة درعا يقول الفنان ممدوح قشلان: «كانت هذه الثلاثية بين عامي ١٩٥٨ – ١٩٥٩… وقد جمعنا موضوع فنّي واحد هو الحياة الريفيّة في مدينة درعا كلّ منّا تناولهُ بطريقته ومنهجه الخاصّين، من حيث اللون والخط والتكوين والبعد. استمرّت هذه الثلاثيّة عامين في درعا…» لبنى حمّاد، تاريخ تأسيس الجمعيات الفنية بدمشق في القرن العشرين منذ بداية ظهورها وحتى انعقاد المؤتمر العربي الأول للفنون الجميلة بدمشق عام 1971، المجلّة، مؤسسة أتاسي، ٢٠٢٠.
14) مخطوطات، إجابات محمود حماد على مقابلة مع ممدوح قشلان، تاريخ غير معروف
https://www.atassifoundation.com/ar/mwd-rshyfy/mkhtwtt/images?view=slider#47
15) يمكن النظر إلى الخط الزمني في كتاب «كرونولوجيا غير مثاليّة» من إعداد مؤسسة برجيل، على سبيل المثال تأسست كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام ١٩٠٨م، وأكاديمية الفنون الجميلة في بيروت عام ١٩٣٧م، ومدرسة الفن والتصميم في السودان عام ١٩٤٦م، وكليّة الفنون في الرياض عام ١٩٥٦م، في حين أنشأت كلية الفنون الجميلة في دمشق في عام ١٩٦٠.
Collective work, Imperfect Chronology: Arab Art from the Modern to the Contemporary Works from the Barjeel Art Foundation , Munich, London, New Yourk : Prestel, 2015.
16) «طرح ظهور التجريد في بداية الستينات مشكلتين ملموستين : أولاهما مشكلة لغة الفن التجريدي، التي كان الجمهور لا يفهمها، وثانيتهما مشكلة معنى هذا الفن في بلاد لا تملك تراثاً تشبيهيّاً (المقصد هنا تشخيصي) متجذراً ليتكون الفن التجريدي ردّاً عليه. سعياً إلى إيجاد حل لهذه المعضلة ، من بين أمور أخرى، عمل شاكر حسن آل سعيد، وهو عضو سابق في «جماعة بغداد للفن الحديث» مع فنانين آخرين على غرار رافع الناصري وضياء العزّاوي، على نشر بيان «البعد الواحد» عام ١٩٧١. وكان القصد من ذلك رجوعاً إلى بعد «للخط» وهي كلمة متعددة المعاني. ولقد رأى موقّعو البيان أن على استعمال الحرف العربي أن يساعد في تخطّي مفهوم للعمل التجريدي بقي حتى ذلك الوقت تقنيّاً ومؤسلباً فحسب.» سيلفيا نيف، باريس - بغداد؟ الفنون التشكيلية والحداثة في العراق، الآداب، ص. 68-73، بيروت، ٢٠٠٤.
17) Nada Shabout, Modern Arab Art: Formation of Arab Aesthetics, Florida : University Press of Florida, 2015.
18) لبنى حمّاد، تاريخ تأسيس الجمعيات الفنية بدمشق في القرن العشرين منذ بداية ظهورها وحتى انعقاد المؤتمر العربي الأول للفنون الجميلة بدمشق عام 1971، المجلّة، مؤسسة أتاسي، ٢٠٢٠
19) محمود حمّاد، مسوّدة أجوبة على لقاء، تاريخ غير معروف، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد
https://www.atassifoundation.com/ar/mwd-rshyfy/mkhtwtt/images?view=slider#49
20) حيث امتلأت بياناتها بخُطب شجب للاستعمار وإعلانات الولاء للقضية الفلسطينية والاقتراحات التنظيمية الإدارية التي نُظمت على غرار خطاب الأحزاب السياسية العراقية في تلك الفترة خصوصاً حزب البعث الذي كان حاضراً بقوة منذ تأسيسه عام ١٩٥١ ، إذ كان العراق هو الراعي لتلك المناسبات.
21) محمود حمّاد، «ذكرياتي مع أدهم إسماعيل» ، تاريخ غير معروف، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد، مؤسسة أتاسي.
22) محمود حمّاد، مسوّدة أجوبة على لقاء، تاريخ غير معروف، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد، مؤسسة أتاسي.
https://www.atassifoundation.com/ar/mwd-rshyfy/mkhtwtt/images?view=slider#49
23) لقد قامت سجالات عديدة ضد التجريد في سوريا، خصوصاً منذ أن دخل الفنان الإيطالي ومعاصر حمّاد جوديو لاريجينا إلى هيكل التدريس في كليّة الفنون الجميلة بدمشق، حيث لم تلقَ توجّهاته التجريدية التي تركت تأثيراتها على الطلاب ترحيباً كاملاً من قبل الوسط الفنيّ.. وفي مقابلة أجراها الكاتب فاروق البقيلي عام ١٩٦٦، يَردُ فيها نوع من الجدل حول التجريد واستخداماته في المشهد السوري، خصوصاً لدى إبداء لؤي كيالي عدم إعجابه بالتوجّهات الجديدة (التجريديّة) لزملائه، إلّا أن جواب فاتح المدرّس فلسفيّاً استطيقيّاً صريحاً : « إني وإن كنت لم أبلغ بعد مرحلة التجريد الصافي. إلا أنني أؤمن بأنّ التجريد ألف باء اللغة الفنيّة في الرسم والنحت كما هو كل اللغة في الموسيقى. وعلى هذا الأساس فالتجريد موجود في كل عمل فني أصيل منذ أن رسم الإنسان منذ ٢٧٠٠٠ عام على جدران كهوف لاسكو والطميره وغيرها من الكهوف. وإن اللوحات المشهورة في عصر النهضة مبنية بناءً تجريديّاً على الرغم من وجود الأشكال بوضوح تام. إن الذين يعلنون احتضار التجريد هم الذين يعتبرون أن التجريديّة مدرسة، فالتجريد كما قلت هو أساس بناء اللوحة الفنية الحقيقية» فاروق البقيلي، الأسبوع العربي، ١٩٦٦، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حماد، مؤسسة أتاسي.
المراجع :
الياس الزيات، محمود حمّاد (١٩٢٣-١٩٨٨)، الموسوعة العربية السورية، المجلد الثامن، ص ٥١٢.
محمود حمّاد، «ذكرياتي مع أدهم إسماعيل» ، تاريخ غير معروف، أرشيف الفن السوري الحديث MASA، مجموعة أرشيف محمود حمّاد، مؤسسة أتاسي.
محمود حمّاد، تجارب شخصيّة في الفن التشكيلي، ١٩٨٤، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد، مؤسسة أتاسي.
محمود حمّاد، مسوّدة أجوبة على لقاء، تاريخ غير معروف، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد، مؤسسة أتاسي.
محمود حمّاد، مسوّدة أجوبة على لقاء، تاريخ غير معروف، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حمّاد، مؤسسة أتاسي.
لبنى حمّاد، تاريخ تأسيس الجمعيات الفنية بدمشق في القرن العشرين منذ بداية ظهورها وحتى انعقاد المؤتمر العربي الأول للفنون الجميلة بدمشق عام 1971، مجلّة مؤسسة أتاسي، ٢٠٢٠.
سيلفيا نيف، باريس - بغداد؟ الفنون التشكيلية والحداثة في العراق، الآداب : بيروت، ٢٠٠٤.
فاروق البقلي، الأسبوع العربي، ١٩٦٦، أرشيف الفن السوري الحديث، مجموعة أرشيف محمود حماد، مؤسسة أتاسي.
Collective work, Imperfect Chronology: Arab Art from the Modern to the Contemporary Works from the Barjeel Art Foundation, Munich, London, New York : Prestel, 2015.
Nada Shabout, Modern Arab Art: Formation of Arab Aesthetics, Florida: University Press of Florida, 2015.