على مدى قرون متعاقبة اعتمد جمع الأعمال الفنية في أوروبا وبعض الدول العربية على دعم كيانات ذات نفوذ: الكنيسة والعائلات المالكة والأسر الغنية. ولكن لا ينطبق هذا الأمر على سوريا. فقد كان السوريون – وما يزالوا – معتادين على اقتناء السجاد والمزهريات الزجاجية والمجوهرات والأوعية الفضية والمشغولات الخزفية الصينية. وفي المنازل الدمشقية والحلبية القديمة، التي لا يزال الكثير منها قائماً إلى يومناً هذا، توجد خزانات مدمجة داخل جدران الصالة الرئيسية (1) في المنزل لعرض ما تملكه العائلة من أثريات وممتلكات قيمة. وحتى خمسينيات القرن العشرين، كان شراء أعمال الفنون الجميلة – خلافاً للأثريات والسجاد – يُعتبر بمثابة ظاهرة "حديثة" العهد. وقد يتساءل المرء عن السبب وراء تجاهل الأعمال الفنية في دولة تتجذّر في حضارتها المنحوتات والرسومات واللوحات منذ القرن الرابع قبل الميلاد. بطبيعة الحال، تطوّرت ممارسة شراء الأعمال الفنية في سوريا على مر التاريخ، ولكن ما الذي تغيّر؟ ما هي الأسباب الكامنة وراء ازدهار السوق التجاري للفن في أواسط الثمانينات والطفرة التي تلت ذلك عام 2006؟ ما الذي جعل الناس يشترون الفن ولا يزال يدفعهم إلى يومنا هذا؟
هذه الورقة البحثية هي بمثابة محاولة لفهم سوق الفن في سوريا، منذ نهاية القرن التاسع عشر، ووصولاً إلى بداية الثورة السورية عام 2011. أوصلني البحث الذي أجريته إلى تكوين قناعة بأن هناك سببين رئيسيين كان لهما تأثير على عدم جمع أعمال الفنون الجميلة في سوريا. يتمثّل السبب الأول بإساءة فهم الدين الإسلامي في بلد غالبية سكانه من المسلمين؛ والسبب الثاني هو الافتقار إلى البنية التحتية في مجال الفنون، وهو ما أدى إلى إطلاع غير كافٍ على الفن الحديث. سأتطرّق إلى العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أثّرت على تطور وتقدّم شراء الأعمال الفنية في كل عَقد، وتعثّرها في أحيان أخرى.
دور الدين
يُعتقد على نطاق واسع أن الفنون البصرية والموسيقى محرَّمة في الإسلام. وبحسب الرحالة عبدالرحمن بك سامي (2)، الذي زار سوريا ولبنان عام 1890، فإن الرسومات واللوحات كانت غائبة عن منازل دمشق. وبدلاً من ذلك، كانت تلك المنازل مزينة بمرايا وأعمال خط عربي، أما منازل العائلات المسيحية فكانت مزدانة برسومات ولوحات. لكن في كتابه "الإسلام والفنون الجميلة"، يشرح الدكتور محمد عمارة (3) أن الإسلام لم يُحرِّم الفن والموسيقى في واقع الأمر، بل أتى المنع بشكل تدريجي كنتيجة سياسية واجتماعية لسقوط بغداد عام 1258 ميلادي. وفي مقالته "فنون الشكل في سورية من الجذور إلى المعاصرة"، يقول الفنان الياس زيات إنه في سوريا وعموم الشرق الأوسط، وإبان عهد الدولة الأموية (661–750 ميلادي) سُمحت الأعمال الفنية التشخيصية (4) التي كانت موجودة في القصور والقلاع والحمامات: "أُبيح التصوير والنحت المشخّصين عن جدران تلك الأبنية: مشاهد صيد أو طرب وقيان" (5). ولذلك، فإنه في مجتمع مكوّن بغالبية سكانه من المسلمين، فإن إساءة الفهم هذه والمتعلقة بتحريم الأعمال التشخيصية كان لها دور أساسي في إهمال الفنون البصرية وما تلا ذلك لجهة جمع الأعمال الفنية في دمشق.
على نقيض ذلك، كان سكان حلب تاريخياً معتادين على الفن بدرجة أكبر، وذلك حتى مطلع القرن العشرين. ومشاهدة أعمال فنية في المنازل لم يكن أمراً نادراً. أما السبب في ذلك فيعود لعاملَين اثنين. الأول هو مكانة حلب في الإمبراطورية العثمانية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر كمركز رئيسي للتجارة بين أوروبا والشرق الأوسط، وهو ما جعلها تحتضن "قنصليات ومكاتب تجارية للبندقية وبريطانيا وهولندا وفرنسا" (6). والعامل الآخر هو وجود جالية مسيحية كبيرة بالمقارنة مع المدن السورية الأخرى، ففي عام 1900 كانت نسبة السكان المسيحيين في حلب تبلغ 26%. وبحلول عام 1944، وعقب الهجرة الأرمنية إلى حلب بسبب المجزرة التركية التي تلت الحرب العالمية الأولى، ارتفعت نسبة السكان المسيحيين إلى 37%. وبفضل انفتاح الثقافات الأوروبية والتنوّع اللاحق لأفراد المجتمع، لاقى الفن قبولاً أكثر في المدينة. فعلى سبيل المثال، كانت جوائز يانصيب خيري في حلب عام 1938 عبارة عن أعمال للفنان ألفريد بخّاش ووالده نديم (7).
وفي القرن التاسع عشر، وصل التأثير الأوروبي إلى سوريا عبر تركيا، وأصبحت بورتريهات السلطان دارجة. ولذلك بدأ سلاطنة سوريا وأفراد الطبقة البرجوازية بتفويض الفنانين لإعداد بورتريهات لهم. وربما يمكن الإشارة إلى تلك البوتريهات باعتبارها من أولى الأعمال الفنية التي اشتراها "جامعو الأعمال" بالمعنى الذي نعرفه اليوم، حيث يعود تاريخ أقدمها إلى مطلع القرن العشرين. أحد الأمثلة على تلك الأعمال هو بورتريه طارق مؤيد العظم الذي يعود لعام 1905 والذي كان شخصية معروفة في المجتمع الدمشقي. ويكتب زيات عن ذلك قائلاً: "الصور الشخصية التي استساغها الولاة والأمراء في القرن الثامن عشر وانتقل التباهي بها إلى برجوازيي المدن في القرن التاسع عشر، فكانت لوحات كلاسيكية صادقة صورت في بداياتها بأيدي إيطاليين وفرنسيين وأتراك، ومن ثمة فقد احترف الناشئة الموهوبون ذاك النوع من التصوير" (8).
ورغم ذلك، إلا أن تأثير الثقافة الأوروبية التي بلغت سوريا خلال القرن التاسع عشر، اصطدم مع تقاليد ومعتقدات المجتمع الدمشقي، وهو ما سلّط الضوء بشكل أكبر على مدى عدم تقبّل المجتمع للتغير فيما يتعلق بالموجة الجديدة من الفن والفنانين. ومن أشهر الأمثلة على ذلك حادثة حرق مسرح أبوخليل القباني المعروفة (9)، التي يقول المؤرخ الفني شربل داغر إنه كان لها تأثير سلبي هائل على التطور الفني إبان تلك الفترة (10).
الرسم كالشِّعر
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، ظهرت طبقة مفكرين ومثقفين جديدة في العالم العربي يُجسِّدها المفكِّر ومفتي الديار المصرية محمد عبده، الذي شرّع الفن البصري عام 1894 عندما أعلن: "الرسم ضرب من الشِّعر، يُرى ولا يُسمع. والشِّعر ضرب من الرسم الذي يُسمع ولا يُرى" (11). وفي سوريا عام 1906، بدأ المفكِّر محمد كرد علي – الذي تأثر بشكل كبير جداً بطروحات محمد عبده – بتطبيع مفهوم أن يكون المرء فناناً، والإبداعات التي ينطوي عليها هذا الدور (12).
ورغم هذا "التطبيع" مع الفنون الجميلة، إلا أن الجيل الأول من الفنانين في سوريا تعرّض لمستوى كبير من الضغط. وإحدى النوادر عن ذلك التي ترويها الباحثة سعاد جرّوس في كتابها قيد الطباعة هي أن الفنان توفيق طارق (1975–1940) وعندما كان يرسم أحد شوارع دمشق القديمة علّق أحد المارين منه قائلاً: "هذا هو الكافر [بالله]" (13).
مثال آخر هو رسالة تلقاها عام 1933 والد الفنان مجمود جلال، وجاء فيها:
"إلى عناية القاضي الفاضل محمد أديب جلال، وصلنا أن ابنكم، محمود أفندي، يرسم بني آدمين. وهذا العمل هو من الكفر، ويستحق العقاب الأبدي، لأن الحديث يقول إن الذين يرسمون الصور سيلقون يوم الدينونة العقاب الأكبر. ولما كان مركزكم العالي يفرض عليكم أن تكونوا دائماً من الأتقياء والمؤمنين، فإننا نحثكم على أن تطلبوا منه التوقف عن هذه الأعمال، وإلا فسوف نكون مجبرين على إشهار ذنبه على المنابر" (14).
البنية التحتية للفن
بحلول ثلاثينيات القرن العشرين، كان يتم تنظيم معارض فنية في دمشق. لكن على امتداد الخمسة العقود الأولى من القرن العشرين، كان بيع عمل فني خلال معرض أمراً نادر الحدوث. انطبق ذلك على معرض نصير شورى في نادي الضباط عام 1937. فقد تم بيع عملين اثنين فقط لجامع أعمال فنية في بيروت (15)، وكان ذلك بمثابة نجاح كبير (16). ومن الأمثلة الأخرى، معرض للفنان رشاد قصيباتي عام 1946 والذي استضافه أيضاً نادي الضباط. عرض قصيباتي 30 عملاً، تم بيع واحد منها فقط لوزارة الدفاع واثنين لنادي الضباط نفسه. وبهذا لم يغطّ المعرض تكلفة تركيب إطار للأعمال. وفي الواقع، أحجم الكثير من الفنانين في تلك الفترة عن إقامة معارض فردية "بسبب الخوف من الخسارة [المادية]" (17).
يقودني هذا إلى العامل الثاني في الافتقار لتذوّق الفن الحديث في سوريا، والمتمثل بالافتقار للبنية التحتية في مجال الفنون. للإضاءة إلى تأثير هذه "البنية التحتية" – أو تكوينها – على القيم الجمالية الاجتماعية، يؤكد عالِم الاجتماع بيير بورديو على أن الناس يفهمون الثقافة بناءً على رأس المال الثقافي، الذي يمثِّل "منظومة من العلاقات والمعارف المتراكمة.. في حقل ما" (18). ولهذا فإن فهم – وشرعية – الفن كامنة في صلب البنى الدعامة للمشهد الفني كالمتاحف والمؤسسات والمطبوعات والأمناء والنقاد الفنيين وغيرها من الأمور. وفي الوقت نفسه، حتى الحكومة لم تدعم الفن.
وقد نوّه الناقد الفني د. سليمان قطايا إلى أن "جهل الحكومة" أدى إلى إيقاف عجلة التطور في المشهد الفني، حيث أورد في مقالة نُشرت عام 1959:
"كان الفنانون يلقون آذاناً صماء كلما حاولوا المطالبة بحقوقهم وكان كلما سمع المسؤولون ذلك ارتسمت على وجهوهم علامات الاستخفاف فيرددون بأن البلاد بحاجة الى مهندسين واخصائيين في الزراعة والصناعة وإن الفن شيء ثانوي لا حاجة ماسة له الآن" (19).
طرحت "رابطة الفنانين السورية للرسم والنحت" (20) مشروعاً يمكن من خلاله للمؤسسات الحكومية اقتناء الأعمال الفنية بأسعار معقولة. وحاججت الرابطة "بضرورة احتفاظ الدولة بهذا الإنتاج الفني لإنشاء مجموعة قيّمة من الناحية الابداعية والتاريخية لتكون في المستقبل نواة لمتحف للفن الحديث" (21). استجابة لهذه الحاجة، قامت وزارة الثقافة ووزارة المعارف والمديرية العامة للآثار والمتاحف وإدارة حصر التبغ والتنباك بشراء أعمال من "معرض الربيع" عام 1958، حيث دفعت أسعاراً أعلى من المعتاد واقتنت إجمالي 58 لوحة ومنحوتتين (22).
الجمهورية العربية المتحدة: الخطوة الأولى
كان لإنشاء الجمهورية العربية المتحدة (1958–1961) إثر الوحدة بين سوريا ومصر أثر إيجابي على تطور الحركة الفنية في سوريا من خلال تنظيم المعارض والندوات المتبادلة والدراسات الفنية (23).
وبحلول عام 1960، دخلت سوريا مرحلة اضطراب سياسي وتحوّل اقتصادي، إلا أن الحياة الثقافية كانت آخذة في الازدهار مع ظهور كوكبة جديدة من المفكرين والشعراء والكتاب والفنانين. وفي هذا الجو وخلال نفس العام تأسست كلية الفنون الجميلة وافتتحت "صالة الفن الحديث" في دمشق. وبحسب الناقد الفني د.عبدالعزيز علّون، كان لهذه الغاليري تأثير ملموس لجهة توسيع الاهتمام بالفن في المجتمع الدمشقي، وبالدرجة الأولى من خلال إقامة معارض منتظمة وعقد ندوات حوارية (24). لكن مبيعات الأعمال الفنية خلال النصف الأول من ستينيات القرن العشرين كانت محصورة بالدائرة المقربة من الفنان على الغالب، إلا أن "صالة الفن الحديث" نجحت في فتح مجال شراء الفنون أمام العامة (25). وبعد عامين فقط من افتتاحها، كانت أسعار الأعمال الفنية قد تضاعفت عدة مرات عما كانت عليه في نهاية الخمسينيات (26)، إلا أنها كانت لا تزال في متناول الطبقة الوسطى. فمثلا، تيريز جبور، التي شاءت الصدفة أنها تعمل في نفس شارع "صالة الفن الحديث". دائماً ما كانت جبور تزور المعارض المقامة في الغاليري وتوفّر راتبها لشراء الأعمال التي تقع في غرامها. حتى أنها حصلت على قرض لاقتناء أحد أعمال الفنان لؤي كيالي. والحقيقة التي يظهرها هذا هو الأثر الذي يتركه التفاعل مع الفن (27).
وبينما نشطت "صالة الفن الحديث" في دمشق، كانت حلب إبّان تلك الفترة موطناً لعدد أكبر من جامعي الأعمال الفنية. وفي الواقع، فإن أحد المعارض في صالة الفنون الحديثة في دمشق التي تركت الوقع الأكبر كانت لمجموعة الدكتور سلمان قطايا من حلب وقد تم تنظيمه عام 1962 بمشاركة 47 عملاً لفنانين سوريين. وعائلة قطايا، التي تضمّ 5 أشقاء من المفكرين، كانت رائدة بجمع الأعمال الفنية في الخمسينيات والستينيات. تتذكر نهلة قطايا منزل جديها في مطلع الستينيات قائلة: "كان ملتقى للفنانين والمفكرين، والجدران مليئة بالأعمال الفنية، ولم يكن هناك موضع فارغ فيها" (28). شجّع د. سلمان ابنة أخيه نهلة ذات السبعة عشرة عاماً على اقتناء أول لوحتين لها عند زيارة مُحترَف لؤي كيالي (الصورة 1). مثال آخر من حلب هو ريمون قنيدر، الذي هاجر إلى مونتريال في الستينيات مصطحباً معه مجموعة ثمينة من الفن السوري استمرّ بتوسيعها حتى مطلع التسعينيات.
إلا أنه وفي عام 1965، وتحت حكم حزب البعث تم بشكل كبير تشجيع تأميم المصانع والشركات الخاصة والأراضي الزراعية والمشاريع الصغيرة. ونظراً لكون معظم الأعمال السابقة مملوكة لعائلات، فسُحقت الطبقتان البرجوازية والوسطى المتعلمة (29)، وهما اللتان تشكلان دعامة المجتمع السوري واقتصاده. وأعتقد أنه كان لذلك أثر كبير جداً على سوق الفن في سوريا الهشّ أصلاً.
بيع بالمصادفة
قاد حافظ الأسد انقلاباً عسكرياً عام 1970 وأصبح رئيس سوريا (30). شنّت سوريا ومصر حرباً على إسرائيل عام 1973. ومباشرة عقب انتهاء الحرب، بدأت سوريا تحصل على مساعدات مالية ومادية من دول الخليج العربية وبرامج الأمم المتحدة المتخصصة والبنك الدولي، وكذلك من ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية (31). كانت نتيجة ذلك حصول طفرة اقتصادية برزت منها طبقة جديدة من أصحاب الملايين الذين تعاونوا يداً بيد مع الحكومة. كانت تلك طبقة من المسؤولين والوزراء الفاسدين الذين لم يولوا أدنى اهتمام بالفن والثقافة (32).
وفي سياق التغيير الاجتماعي والسياسي في السبعينيات، وبينما كان الشعب بالإجمال لا يُصنّف ضمن خانة العامة التي تشتري الأعمال الفنية، إلا أنه كانت هناك بعض الاستثناءات لأفراد كانوا مطلعين بالفعل على عالَم الفن والمعارض. ومن تلك الأمثلة ابتسام عقاد الأنصاري، التي تتذكر ابنتها لانا كيف أنها وخلال زياراتها إلى سوريا في السبعينيات والثمانينات كانت دائماً ما تسعى للالتقاء بالفنانين.
"كان لديها فضول واهتمام شديدين بعالمهم الإبداعي. كانت تتطلّع لاقتناء لوحات تقع بغرامها في كل مناسبة. وعلى النقيض من ذلك، كانت جدتي (التي وُلدت في مطلع القرن العشرين) تُعرب عن ضيقها وتبرُّمها من اقتناء والدتي للوحات بدلاً من شراء الذهب: ’يا بنتي، مو أحسنلك تشتري ذهب أو شي ينفعك عواض اللوحات؟‘ إلا أن والدتي كانت فنانة في الصميم وجامعة أعمال فنية. وعلى مدى السنوات، تكوّنت لديها مجموعة متنوعة حقاً من أعمال فنانين سوريين، ونجحت بتجاوز المفاهيم التي كانت سائدة آنذاك، بما فيها تلك لدى المقرّبين منها" (33).
وبينما كانت كوكبة مختارة من الأفراد تشتري الأعمال الفنية وتكوّن مجموعات فنية، إلا أن بيع وشراء الأعمال الفنية لدى عامة الشعب كان أمراً نادراً. يؤكد الفنان زياد دلول أن بيع الأعمال الفنية خلال السبعينيات كان أمراً "شبه معدوم" (34). والجهة المشترية الوحيدة هي الحكومة وذلك في معرضي الربيع والخريف (35). أما خلاف ذلك فقد كان "بيعاً بالمصادفة" (36).
دفع هذا الوضع بالفنانين خلال الستينيات والسبعينيات إلى القيام بأعمال أخرى لتغطية نفقات الحياة، كالتدريس في كلية الفنون الجميلة وفي المدارس.
الطبقة البرجوازية والفن
بحلول أواخر سبعينيات القرن العشرين، عاشت سوريا مجدداً فترة اضطراب سياسي بسبب حركة الإخوان المسلمين. وشهدت عدة مدن اندلاع قتال، ونتيجة لذلك حاصر الجيش السوري مدينة حلب. وضعت الحكومة نهاية للنزاع عام 1982 بدخول مدينة حماه وقامت بتسوية أحياء كاملة بالأرض، وقُتلت عشرات الآلاف في غضون أسبوع. أثّرت هذه الأحداث كذلك على تطور سوق الفن في حلب ومدن كبيرة أخرى في البلاد. افتتحت رندة نصور، وزوجها معن "غاليري الفنون الجميلة" في دمشق عام 1980، وتتذكر كيف أن السوق في السنوات الأولى كان متعثراً للغاية، ومعظم عمليات البيع كانت لدبلوماسيين أوروبيين وسائحين كانت تروق لهم أعمال فنية صغيرة الحجم ورسومات بالألوان المائية وأعمال حفر.
لكن مع مطلع الثمانينيات، بدا واضحاً أن الاقتصاد السوري يعاني من عواقب فساد الحكومة وسوء الإدارة المالية (37). وفي نهاية ذلك العقد، كانت الفجوة بين الأغنياء والفقراء قد توسّعت. أما الطبقة الوسطى، التي كنت تتمتع بقوة شرائية في الستينيات والسبعينيات ومطلع الثمانينيات، فأخذت تعاني من التكلفة الباهظة للحياة (38). ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن، أصبح شراء الأعمال الفنية بمثابة امتياز متاح أمام الطبقة البرجوازية حصراً.
لكن بعد تدهور الطبقة البرجوازية نتيجة إجراءات التأميم المتشددة للشركات في الستينيات، أدى تدفق الأموال في أواسط السبعينيات إلى طفرة في مجال المال والأعمال. وبرزت نتيجة ذلك في سوريا طبقة برجوازية جديدة إبان نهاية العقد. وتكوّنت من أطباء ومهندسين وصناعيين وأشخاص درسوا في بيروت ومصر وأوروبا قبل العودة إلى سوريا.
استمرّت البنية التحتية للقطاع الفني بالنمو في الثمانينات ساعد على ذلك تعيين الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة (عينت عام ١٩٧٦ واستمرت حتى عام ٢٠٠٠). أظهرت العطار اهتماما خاصاً بالفن التشكليلي عبر إقامة المعارض وإقتناء الأعمال الفنية من قبل الدولة. كان اهتمام العطار بالفن التشكيلي نتيجة دراسة وخبرة فهي حاصلة على دبلوم للنقد الفني من جامعة ادنبرة في بريطانيا. (جروس، سعاد، مجموعة من الكاتبات السورية ,نساء سورية، صفحة ٢٤٤. الهيئة السورية لشؤون الأسرة)
ففي الثمانيات تم إطلاق "مجلة الحياة التشكيلية" الجديدة. دعمت الحكومة عدة معارض سنوياً، بالإضافة إلى افتتاح حوالي 7 صالات فنية في دمشق وحدها. أدّت هذه البيئة الفنية الجديدة إلى التعرّف على الأعمال الفنية وتذوّقها ولاحقاً شرائها.
تُشير نصور إلى أن النصف الثاني من الثمانينيات كان بمثابة "فترة ذهبية" للسوق الفني (39). وباعتقادها أن عوامل عدة تضافرت في هذا الازدهار، ولا سيما أن الطبقة البرجوازية الحديثة كانت أكثر تقديراً وتذوقاً للفن من الجيل السابق. وعندما أخذت هذه الطبقة الثرية الجديدة تشتري منازل أو ترمم بيوتاً قديمة، كان يتم استبدال العناصر الزخرفية بأعمال فنانين سوريين. كما أن كمية الأعمال الفنية قيد التداول كانت كبيرة بين أعمال الجيل القديم من الفنانين، ولا سيما نصير شورى وفاتح المدرس والياس زيات، والجيل الجديد من الفنانين الشباب العائدين من الخارج. وشملت تلك القائمة صفوان داحول وحمود شنتوت ومصطفى علي وعبدالله مراد، والأسعار التي بيعت بها أعمالهم كانت منخفضة نسبياً. وفي مقابلة إذاعية أجراها مؤخراً، أشار الفنان شنتوت إلى أنه إبان عودته إلى دمشق بعد إتمام دراسته قادماً من باريس عام 1986، كان من الفنانين الأوائل في سوريا الذين تمكنوا من تلبية تكاليف المعيشة دون الحاجة إلى الانخراط في عمل جانبي (40). يُظهر ذلك بجلاء تطور الاهتمام بالفن.
عاملٌ آخرٌ لا يجب إغفاله ويتمثل بغريزتنا للحاق بالجماعة – ذهنية القطيع – واتخاذ قرارات في إطار الجماعة لربما لا يتخذها المرء كفرد منعزل. وعلى هذا النحو، أصبح حضور المعارض وشراء الأعمال الفنية جانباً من الفعاليات المجتمعية. تصاعدت الحاجة للتماشي مع التوقعات المجتمعية لدرجة أن بعض المشترين أخذوا يطلبون من الفنانين إعداد نسخ من أعمال شاهدوها في بيوت أصدقائهم. ويطرح هذا الأمر سؤالاً: إلى أي مدى كان يتم تقدير الفن لقيمته الفعلية، ولأي مدى كان اقتناء الأعمال مجرّد سلوك رائج؟
إبان تلك الفترة، نادراً ما كانت الغاية من شراء الأعمال تكوين مجموعة فنية، بل لتزيين جدران المنزل. ورغم بعض الاستثناءات القليلة، إلا أن شراء الأعمال الفنية كان يتوقف عندما يتم استكمال تزيين الجدران. أحد الاستثناءات تلك هو جامع الأعمال الفنية عامر عجمي، الذي يعتبر أن شغفه بالفن بدأ عندما سافر إلى بيروت وهو في السابعة عشرة من العمر ودخل إلى مكتبة أنطوان: "ذهلتُ لاكتشافي بحراً من المجلات والصحف والكتب، بينما كان يوجد في دمشق آنذاك خمس مجلات فقط" (41). تُظهر هذه الحكاية مجدداً أهمية البنية التحتية الفنية في تشجيع الناس على الاهتمام بالفن.
أول عمل يشتريه عجمي كان عام 1986 عندما كان في الثانية والعشرين من العمر، حيث اشترى عملاً للفنان حمود شنتوت من غاليري الفنون الجميلة مقابل 18 ألف ليرة سورية (حوالي 500 دولار آنذاك) (الصورة ٢). والمفارقة أنه عندما توجه والد عجمي بالسؤال عن السعر، أجابه ابنه "8 آلاف ليرة سورية" خوفاً من رد فعل الوالد الذي كان ينتمي لجيل لن يكن ينظر للفن على أنه يمثل قيمة بحد ذاته بعيداً عن وظيفته على مستوى التزيين، وهو ما تعكسه قصص أخرى في هذه الورقة البحثية. يملك عجمي حالياً حوالي 280 عملاً تم اختيارها بعناية، ومعظمها لفنانين سوريين. وهو ممتن لكون عمله في كندا منحه "دخلاً يمكن التصرّف به" (42) ويسمح له بتحقيق شغفه.
وعلى نقيض ذلك، كان سوق الفن غائباً كلياً عن مدينة حمص في الثمانينيات. وعندما سئلتُ منى أتاسي (التي كانت تملك صالة فنية في المدينة آنذاك): "لمن كنتِ تبيعين الأعمال الفنية في حمص عام 1987؟" أتت إجابتها: "لم أكن أبيع لأحد. لم تتم عمليات بيع، باستثناء الأقرباء وقلة من الأصدقاء المقربين" (43). تؤكد أتاسي أنه لم يكن لدى معظم الناس في تلك الفترة اهتمام بالفن. وهي نفسها لم يكن لديها أي أعمال فنية في منزلها إلى أن زار منزلها الفنان رضا حسحس وعلّق قائلاً: "البيت جميل جداً، ولكن لماذا الجدران فارغة" (44).
وبحلول أواسط الثمانينيات، انضمت إلى الفئة البرجوازية الحديثة طبقة اجتماعية اقتصادية جديدة مكوّنة من أصحاب الشركات الخاصة. كانت هذه الطبقة آخذة بالازدهار "تحت حظوة ورعاية الحكومة" (45). كما تشكلت طبقة اجتماعية اقتصادية أخرى "مكونة من أبناء مسؤولي الحكومة ومسؤولي المؤسسات" (46). أدى ظهور وتطور، وفي النهاية اندماج، هاتين الطبقتين "إلى خلق مصلحة تضغط باتجاه تبني اقتصاد السوق" (47)، وأصبح أولئك من أهم مشتري الأعمال الفنية في التسعينيات والعشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين.
نمو مضطرد
خلال النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، تكرر سيناريو السبعينيات والثمانينات: فالمحنة الاقتصادية في العقد السابق خفّت وطأتها نتيجة المساعدات المالية الدولية، بينما أدى ارتفاع تكلفة الحياة إلى انكماش الطبقة المتوسطة عبر ما تركه من تأثير حاد على مستوى المعيشة (48). في ذلك الحين، يقول سمير سعيفان: "بفضل مشاركتها في حرب الخليج الأولى، قامت الولايات المتحدة والسعودية ودول الخليج بمكافأة سوريا من خلال تدفق الدعم المالي والقروض الميسَّرة" (49).
ازدهرت البنية التحتية للفنون في التسعينيات مع افتتاح حوالي 8 صالات فنية جديدة في دمشق، وأكثر من 4 من في حلب (50). نتج عن ذلك نمو مضطرد لسوق الفن، لكن مع ذلك بقي الفنانون يعانون من قلة بيع أعمالهم.
ففي مقابلة مع صاحبة "غاليري السيد" التي افتتحت في دمشق عام ١٩٨٩، تشير الهام السيد إلى الوضع المعاشي الصعب عند بعض الفنانين نتيجة تردي سوق الفن. وهي ترى أن "صالة عرض فنون تشكيلية هي مشروع تجاري خاسر، إلا إنها مشروع ثقافي ناجح ورابح". )جروس، سعاد، جريدة السياسة الكويتية، ٢٥ آب ١٩٩٥)
كذلك تشير منى أتاسي إلى أن المبيعات من داخل سوريا في صالتها في دمشق (51) خلال التسعينيات كانت قليلة جداً. أهم عملائها كانوا من جامعي الأعمال الفنية اللبنانيين وأفراد من الخليج، وبالأخص قطر. كما تعاظمت قوة شرائية جديدة لدى المغتربين السوريين الذين كانوا يزورون سوريا بشكل منتظم. حتى أن أتاسي تعتقد أنه في تلك المرحلة لم يكن هنا "أي جامع أعمال فنية سوري فعلي واحد على الإطلاق" (52).
ولتلبية طلب السوق على أعمال فنية يمكن اقتناؤها بأسعار مقبولة أو رخيصة، ازدهر سوق جديد للأعمال المطبوعة والنسخ ولوحات التزيين، جنباً إلى جنب مع سوق الأعمال الفنية مرتفعة السعر. فمنذ نهاية الثمانينيات وحتى عصرنا الراهن، شهدت سوريا صعود طبقة مغالية في المحافظة الإسلامية وعلى قناعة بأن الإسلام يمنع اللوحات التشخيصية: سواء كان ذلك إنسان أم حيوان أم طير. ولذلك تطور سوق موازٍ آخر لأعمال الخط العربي وتشكيلات الأزهار والأنماط التزيينية. حتى أن بعض الفنانين، مثل نجاح البقاعي، كان يرسمون أعمالاً تزيينية لدمشق القديمة إلى جانب أعمالهم الفنية الأخرى لتوفير تكاليف الحياة. ويتذكر كيف أنه كان يقوم مع أصدقاء فنانين بتوقيع الأعمال بأسماء مزيفة وبيعها للصالات الفنية (53).
وبنهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، كانت دعامات السوق الفني قد ترسّخت بشكل جيد بوجود مشترين منتظمين. يتذكر الفنان خالد الخاني أنه باع كافة أعماله في معرضه الأول عام 1999، وفي معرضه الثاني عام 2000 الذي أقامه في غاليري شورى في دمشق. وقد كان أحد الفنانين الشبان القلائل القادرين على العيش من بيع لوحاتهم.
وفي عام 2000، وعقب وفاة حافظ الأسد قام الحرس القديم في سوريا بتعديل الدستور لإتاحة المجال أمام بشار الأسد، ابن حافظ، ليكون الرئيس التالي لسوريا. عقب عقود من القمع، تفاءل الكثير من السوريين، وخصوصاً عقد خطاب القسم، بأنه أصبح لهم رئيس شاب حسن التعليم، حيث قدّم وعوداً بالانفتاح والديمقراطية والإصلاحات الاقتصادية والداخلية. على المستوى الاقتصادي، انفتحت سوريا على مستثمرين القطاع الخاص، ورُفع الحظر على الاستيراد. لكن ونتيجة لفساد الحكومة وقيام مجموعة من رجال الأعمال المرتبطين بالأسرة الحاكمة بالهيمنة على الاقتصاد، استمرّت غالبية قطاعات الشعب بالمعاناة من الفقر. وباختصار، أصبح الفقراء أكثر فقراً، والأغنياء أكثر غنى.
الفورة
لم تحصل تغييرات أو تطورات كبيرة في عالم الفن خلال تلك الفترة وحتى عام 2005. طرأت عندها تبدلات سريعة حتى عام 2011 عندما حصلت فورة في السوق الفنية. ومع افتتاح دار كريستيز لأول فرع إقليمي لمزادات فن الشرق الأوسط الحديث والمعاصر في دبي عام 2006، بلغت أسعار أعمال لفنانين سوريين مثل فاتح المدرس أرقاماً قياسية جديدة، مقارنة ما كانت تباع به في سوريا. وتقول هالة خياط المديرة الإقليمية لمعرض "آرت دبي" والتي عملت كمتخصصة لدى دار كريستيز في أواسط العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين: "للمرة الأولى، أصبح الفن السوري إقليمياً" (54). كان ذلك المزاد بمثابة جرس تنبيه للسوريين، وجعلهم يعيدون تقييم أعمال الفن الحديث التي كانوا قد اشتروها في الماضي. كما كان المزاد محفّزاً للطبقة الوسطى، التي شكّل أفرادها في الماضي جلّ مقتني الفن في سوريا، لبيع أعمالهم الفنية مقابل عائد مادي للمحافظة على مستوى معيشتهم. تتذكر خياط أنها كانت تتلقى دائماً رسائل بريد إلكتروني واتصالات من سوريين يطلبون منها تقييم أعمال فنية اقتنوها منذ زمن بعيد. نتيجة لذلك، بدأت سوريا تشهد هجرة الفن السوري الحديث إلى متاحف في الخليج ومجموعات خاصة، وهي ظاهرة لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا. أدت هذه الطفرة كذلك إلى ظهور أعمال مزيفة أغرقت السوق في بلد لا تراقب الدولة عمليات التزوير، ولا تعاقب عليه قانونياً حتى.
الفورة الفنية بين عامي 2005 و2011 لم تشمل الجيل الشاب من الفنانين السوريين الذين قرروا الخروج عن أساليب المدرسة القديمة، والانخراط في التجريب باستخدام وسائط معاصرة كالتصوير الفوتوغرافي والفيديو والأعمال التجهيزية. لم تلق أعمالهم آنذاك صدى تجارياً سواء لدى أساتذتهم الذين كانوا لا يزالون على قناعة بأن الفن محصور باللوحات والمنحوتات، أو لدى العامة الذين لم يكونوا معتادين على مثل هذه المفاهيم الجمالية. تشير المؤلفة ومنسقة المعارض شارلوت بانك إلى أنه وبحلول نهاية عام 2010 "كان قطاع واسع [من المنخرطين] في الشأن الثقافي" يتساءلون "عن السبب الذي يجعل فناناً صغير السن يبتعد عن النجاح المادي ويستخدم وسائط لا يفهمها أحد لأعمال ربما لا تُباع؟" (55) وهذا ما يقودني لطرح السؤال التالي: كيف يختار المشترون في سوريا الأعمال الفنية؟
للإجابة على هذا السؤال، يتوجب علينا أولاً استقصاء العوامل الرئيسية الأخرى التي قادت إلى هذه الطفرة في السوق الفني، وهو الفورة التي صاحبت اختيار دمشق لتكون عاصمة الثقافة العربية عام 2008. تحضيراً للحدث الكبير في تلك السنة، عملت أسماء الأسد على ما وصفته بأنه "نهضة ثقافية" (56) في سوريا، وقدّمت نفسها باعتبارها "سفيرة ثقافية لسوريا" واستثمرت في نشر كتب عن الفن السوري، وعملت على ترميم أعمال فنية كانت بحالة سيئة في المتحف الوطني.
عبر حضور المعارض وشراء الأعمال الفنية، شجّعت أسماء غيرها على القيام بالأمر نفسه. ونظراً لأن الفئة الثرية الجديدة لم تكن معتادة على شراء الأعمال الفنية بهذه الطريقة، فقد تأثر أفرادها بدرجة كبيرة إما بنصيحة أصحاب الصالات الفنية أو بمقتنيات غيرهم. أتذكر حواراً دار بيني وبين الفنان مروان قصاب باشي أثناء زيارة له إلى دمشق عام 2009، وقال عندها: "الناس في هذه البلد يستخدمون آذانهم لشراء الأعمال الفنية، بلا من استخدام عيونهم وقلوبهم" (57). وفي الواقع، كان أحد العوامل في ذلك تزايد عدد الفلل الكبيرة في ضاحية يعفور قرب دمشق: مجدداً ازدهر سوق الفن مع سعي الناس لتزيين جدران منازلهم الجديدة. فإذاً، صالات الفنون الجديدة التي تم افتتاحها والفورة التي صاحبت احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية واهتمام الخليج بأعمال الفن السوري، كلها كانت عوامل أدّت إلى ازدهار سوق الفن في سوريا.
وبغض النظر عن الدافع الفعلي، إني على قناعة بأن تصاعد عمليات شراء الأعمال الفنية جعل الناس يشرعون في فهم وتذوُّق قيمة الفن. ولكني أعود إلى سؤالي: إلى أية درجة كان الفن يُقدّر بقيمته الفعلية، وإلى أي مدى كان اقتناء عمل فني هو بمثابة أحد أشكال التكيّف مع المعايير المجتمعية؟ ولماذا يجمع الناس الأعمال الفنية؟
يُحاجج المؤرخ الفني وعالِم الاجتماع توني بينيت بأن "الأعمال الفنية تجسّد وتحفظ روح صانعيها، بل وحتى مالكيها" (58). وبينيت على قناعة بأنه في القرن الثامن عشر في فرنسا عندما كانت المجموعات الملكية متاحة لكي يشاهدها العامة، كانت تمثِّل "قوة المَلِك. فالصالات الفنية المَلَكية تخاطب زوارها باعتبارهم رعية المَلِك" (59). إلا أن جامعي الأعمال الفنية ليس بوسعهم فهم شغفهم بشراء الأعمال الفنية: بعضهم يقول إنها تمنحهم سعادة، بينما يقول آخرون إنهم يجمعون الأعمال الفنية للاستثمار. يعتبر أستاذ الطب النفسي الراحل الدكتور فريديرك بيكلاند "يبدو أن الغرور والرغبة بالتقدم الاجتماعي هي عوامل تلعب دوراً مهماً. فسواء تعلّق الأمر بالشرق أو الغرب، دائماً ما يُنظر إلى امتلاك أعمال فنية بأنه ينطوي على تعليم وتحضّر ورقي. ومن الأسباب الأخرى التي تم ذكرها الحيوات الخاوية عاطفياً داخل المنزل، والنزعة للتملّك، والحاجة للخلود" (60). ويحاجج قائلاً إننا نجد لتلك الأسباب نماذج مثل الملياردير الأمريكي جان بول غيتّي الذي "يمكن فهم إنفاقه لملايين الدولارات في سوق الفن عندما نأخذ بعين الاعتبار كيف أن مشترياته منحته هوية بديلة: شخصية أوروبية راقية بدلاً من شخص أمريكي غير مثقف" (61).
ما من شكّ في أن الوقوع بغرام عمل فني، ومن ثم امتلاكه يجعل حياة الإنسان "حافلة بالترقب والسعادة والإثارة المحتملة" (62). تؤكد منى أتاسي التي استهلّت مع زوجها صادق أتاسي في نهاية الثمانينيات تكوين مجموعتها الخاصة التي أصبحت الآن نواة "مؤسسة أتاسي" أنها "مرّت بكل المراحل. بدأتُ كمشترية غير خبيرة، ومن ثم تطور لدي شغف حقيقي. كنتُ في بعض الأحيان أحب موضوع العمل، وفي أخرى عن قناعة بالفنان، وفي أحيان لمجرّد أني سمعتُ بأن اسماً معيناً هو فنان مهم. حالما يبدأ المرء بجمع الأعمال الفنية، فإنه لن يتوقف" (63).
الخلاصة
بعد إضفاء الشرعية على الفنون الجميلة في مطلع القرن العشرين، تطلّب الأمر عدة عقود من الزمن حتى تترسخ البنية التحتية لقطاع الفن بسوريا. وفي عام 1960، دفعت طبقة مكونة من المفكرين والشعراء والكتاب والفنانين نحو تأسيس كلية الفنون الجميلة، التي أعتقد أنها كانت بمثابة الخطوة الأولى نحو تقدير قيمة الفن في المجتمع.
ولاحقاً، ومع النمو التدريجي لعدد الصالات الفنية والمعارض والمطبوعات الفنية ومساهمات النقاد الفنيين، بالإضافة إلى التأثيرات الاجتماعية، تضافرت كل هذه العوامل نحو حدوث تطور تدريجي لمجتمع لم يكن يميل بطبيعته إلى مفهوم جمع الأعمال الفنية. لكن بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ يكوّن مجموعات فنية. يأخذ هذا بعين الاعتبار القوى السياسية والاقتصادية التي لعب دوراً هاماً في سقوط الطبقة الوسطى وصعود الطبقة البرجوازية التي شكلت دعامة شراء الأعمال الفنية.
أنجزتُ هذه الورقة البحثية دون أن أتمكن من زيارة سوريا، ودون إجراء مقابلات مع أصحاب الصالات الفنية ومشتري الأعمال الفنية في سوريا نفسها. حاولتُ التواصل مع بعض القائمين على الصالات والذين لا يزالون مقيمين في سوريا. كان بعضهم مترددا في الإجابة، بينما لم يتجاوب آخرون أبداً. ولذلك فإني أعتبر هذه الورقة البحثية مجرد جزء من مشروع بحثي طويل المدى يمكن توسيع نطاقه وسبر أغواره بدرجة أكبر مستقبلاً.
الحواشي
(1) كانت تسمى "كتبيَّة".
(2) سامي، عبد الرحمن بك، "القول الحق في بيروت ودمشق"، دار الرائد العربي، بيروت 1981، ص 82.
(3) عمارة، محمد، "الإسلام والفنون الجميلة"، دار الشروق، القاهرة 1991، صفحة 190–142.
(4) زيات، الياس، "الفنون البصرية في سوريا، من جذورها إلى الفن المعاصر"، المجلة، مؤسسة أتاسي، 2018.
(5) المرجع نفسه.
(6) منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، https://ar.unesco.org/silkroad/silk-road-themes/world-heritage-sites/mdynt-hlb-alqdymt.
(7) سعد، د. فروق وألفرد بخاش، "السيرة المنسية لفنان رائد"، دار المراد، بيروت، 1998، صفحة 16.
(8) زيات، الياس، "إحياء الذاكرة التشكيلية في سوريا"، وزارة الثقافة، 2008، صفحة 13.
(9) يُعتبر أبوخليل القباني مؤسسة المسرح في سوريا. أنشأ حوالي عام 1880 أول مسرح وفرقة مسرحية في دمشق. اعترض بعض الشيوخ بأن المسرح يخالف التقاليد والأعراف السورية، وتم حرق المسرح ليُغادر القباني إلى مصر عام 1884.
(10) داغر، شربل، مقابلة مع الكاتبة، بيروت 2019.
(11) كرد علي، محمد، "المقتبس"، العدد 3، 1 مارس 1906، ص 136–138.
(12) المرجع نفسه.
(13) جروس، سعاد، "الخطى المتعثرة للفن التشيكي في سوريا"، تحت الطبع.
(14) المرجع نفسه.
(15) تجدر الإشارة إلى أنه ومنذ أول المعارض في سوريا، كانت بيروت – ولا تزال – سوقاً رئيسياً للأعمال الفنية السورية.
(16) علون، عبد العزيز، "منعطف الستينات في تاريخ الفنون الجميلة المعاصرة في سورية"، الدار الثقافي لمجموعة دعدوش العالمية، دمشق، سورية، صفحة 176–177.
(17) علون، صفحة 164.
(18) ثومبسون، ناتو، "النظرة للقوة: الفن والحراك في القرن الحادي والعشرين" (Seeing Power: Art and Activism in the 21st Century)، دار Melville للنشر، 2015، صفحة 84.
(19) جروس، سعاد، "الخطى المتعثرة للفن التشيكي في سوريا"، تحت الطبع.
(20) نشطت الرابطة بين عامي 1956–1959.
(21) حماد، لبنى، "تاريخ تأسيس الجمعيات الفنية بدمشق في القرن العشرين منذ بداية ظهورها وحتى انعقاد المؤتمر العربي الأول للفنون الجميلة بدمشق عام 1971"، الفائزة بجائزة الكتابة الفنية، مؤسسة أتاسي، ديسمبر 2020.
(22) مقابلة مع رندة نصور، نشرت عبر Culture House.
(23) جروس، مصدر سابق.
(24) "منعطف الستينات في تاريخ الفنون الجميلة المعاصرة في سورية".
(25) علون، صفحة 29.
(26) علون، صفحة 52.
(27) جبور، نبيل، رسالة عبر واتساب، 2021.
(28) قطايا، نهلة، مقابلة مع الكاتبة عبر المسنجر، 2020.
(29) أتاسي، نشوان، "تطور المجتمع السوري 1831–2011"، منشورات أطلس، 2015، صفحة 256.
(30) بقي على رأس الحكم حتى وفاته عام 2000.
(31) أتاسي، صفحة 280.
(32) أتاسي، صفحة 292.
(33) الأنصاري، لانا، مقابلة مع الكاتبة، دبي، فبراير 2021.
(34) دلول، زياد، مقابلة مع الكاتبة عبر واتساب، 2021.
(35) منذ عام 1950، نظمت الدولة السورية تحت رعايتها معرضاً سنوياً للفنانين. ومن ثم أصبح حدثاً يتكرر مرتين سنوياً: معرض الربيع ومعرض الخريف.
(36) دلول، مقابلة مع الكاتبة عبر واتساب، 2021.
(37) أتاسي، صفحة 310–317.
(38) خسرت الليرة السورية أكثر من 10 أضعاف قيمتها عام 1983، وتراجعت من 4 ليرات مقابل كل دولار، إلى 40 ليرة مقابل كل دولار عام 1987، ولاحقاً 46 ليرة عام 1990. بلغ عندها مستوى التضخم 60%.
(39) رندة، نصور، مقابلة مع الكاتبة عبر واتساب، 2020–2021.
(40) شنتوت، حمود، راديو روزنة، 2020.
(41) عجمي، عامر، مقابلة مع الكاتبة، دبي، ديسمبر 2020.
(42) المرجع نفسه.
(43) أتاسي، منى، مقابلة مع الكاتبة، دبي، يناير 2021.
(44) المرجع نفسه.
(45) سعيفان، سمير، "الطريق إلى الإصلاح الاقتصادي في سوريا" (The Road to Economic Reform in Syria)، مركز جامعة سانت أندروز للدراسات السورية، إسكتلندا، المملكة المتحدة، 2011، صفحة 10.
(46) سعيفان، صفحة 13–14 .
(47) المرجع نفسه.
(48) أتاسي، صفحة 310–317.
(49) سعيفان، صفحة 10.
(50) علون، صفحة 62–64.
(51) تم فتح صالة الأتاسي في حمص أولاً عام 1986، ومن ثم انتقلت إلى دمشق عام 1992 تحت اسم "غاليري أتاسي".
(52) أتاسي، منى، مقابلة مع الكاتبة، دبي، يناير 2021.
(53) البقاعي، نجاح، مقابلة مع الكاتبة، باريس، أغسطس 2018.
(54) خياط، هالة، مقابلة مع الكاتبة، دبي، 2021.
(55) بارنك، شارلوت، "المشهد الفني المعاصر في سوريا: النقد الاجتماعي والحركة الفنية" (The Contemporary Art Scene in Syria: Social Critique and Artistic Movement)، منشورات ، 2020، صفحة 55.
(56) بيلهام، نيكولاس، "مصرفية، أميرة حرب، أميرة: الحيوات المتعددة لأسماء الأسد، كيف أصبحت فتاة من غرب لندن الفائزة غير المتوقعة لحرب سوريا" (Banker, warlord, princess: the many lives of Asma Assad, Here’s how a girl from west London became the unlikely winner of Syria’s war)، Financial Review، 18 مارس 2021.
(57) مروان، دمشق، 2009.
(58) بينيت، توني، "ولادة متحف: التاريخ والنظريات والسياسة" (The Birth of the Museum: History, Theory, Politics)، منشورات Routledge، 1995.
(59) المرجع نفسه.
(60) بيكلاند، فريديرك، "الجوانب النفسية لجمع الأعمال الفنية" (Psychological Aspects of Art Collecting)، دورية Psychiatry،المجلد 44، فبراير 1981، صفحة 45–46.
(61) تومسون، إرين، "لماذا يجمع الناس أعمال الفن؟" (Why People Collect Art?)، aeon، 23 أغسطس 2016.
(62) بيكلاند، صفحة 50.
(63) أتاسي، منى، مقابلة مع الكاتبة، دبي، 24 يناير 2021.
References
Ajami, Amer, Interview with the author, Dubai, 2020
Ali, Mohammad Kurd, Al Moqtabas, Issue 3, 1 March, 1906
Aloun, Abdel Azeez, Monataf Alsiteenat fe tareekh al funoun Al Jameela al moasira fee souria, Culture House, Daadoush Group, Damascus, Syria
Albukai, Najah, Interview with author, 2019, Paris
Alkhani, Khaled, WhatsApp interview with author, May 2021
Elansari, Lana, interview with the author, Dubai, Feb 2021
Atassi, Mouna, Interview with the author, Dubai, 2021
Atassi, Nashwan, Development of the Syrian Society 1831–2011, Atlas Publications, 2015
Baekeland, Frederick, Psychological Aspects of Art Collecting, Psychiatry, Vol. 44, February 1981
Bank, Charlotte, The Contemporary Art Scene in Syria: Social Critique and Artistic Movement, Routledge, 2020
Bennett, Tony, The Birth of the Museum: History, Theory, Politics, Routledge. 1995
Dagher, Charberl, Interview with the author, Beirut 2019
Chantout, Hammoud, Rozana Radio, 2020
Dalloul, Ziad, Interview with the author, WhatsApp, 2021
Hammad, Lubna, ‘A History of Art Associations in Damascus During the 20th Century: From Emergence Until the First Arab Conference of Fine Arts in Damascus in 1971’, Art Writing Prize, Atassi Foundation, December 2020
Jarrous, Souad, Al Si’r Al Saket: Al Khota al motaathera lilfan altashkili fee souria 1900–1970, under publication
Khayat, Hala, Interview with the author, Dubai, 2021
Nassour, Randa, Interview with the author, WhatsApp, 2020–2021
Pelham, Nicolas, ‘Banker, warlord, princess: the many lives of Asma Assad, Here’s how a girl from west London became the unlikely winner of Syria’s war’, Financial Review, March 18, 2021.
Saad, Dr Farouq and Alfred Bakhash, Al Sira Al Mansiya lifanan ra’ed, Dar Al Mourad, Beirut, 1998
Saifa, Samir, The Road to Economic Reform in Syria, The University of St Andrews Centre for Syrian Studies, Scotland UK, 2011
Sami, Abdul Rahman Beik, Al Qawl Al Haq fe Beirut wa Dimashq, Dar Al Ra’ed Al Arabic, Beirut 1981
Thompson, Erin, Why People Collect Art, aeon, 23 August 2016
Thompson, Nato, Seeing Power: Art and Activism in the 21st Century, Melville House Publishing, 2015
Zayat, Elias, ‘The Visual in Syria, from its Roots to Contemporary Arts’, The Journal, Atassi Foundation, 2018
Zayat, Elias, Ehya Al zakira al tashkiliya fee souria, Ministry of Culture, 2008