درس الفنان السوري متعدد الاختصاصات أنس البريحي الرسم في كليّة الفنون الجميلة في دمشق، وتخرّج منها عام ٢٠١٤م قبل انتقاله إلى لبنان. هنا، في السنة التالية، حاز على درجة الماجستير من الجامعة اللبنانية باختصاص علم النفس والعلاج بالفن. يظهر اهتمامه بالعقل من خلال عمل يتكون من الرسم والأداء المسرحي، والذي يستكشف سيكولوجية اللون ونظرة الآخر. تسأله آنا والاس تومبسون كيف يعبّر اللون عن العقل والوجه المتغيّر للبورتريه كفن وصورتنا عن الذات في عالمٍ رقميّ دائم التطور.
عندما انتقلت للعيش في لبنان، قرّرت أن تتابع دراستك في علم النفس والعلاج بالفن – ما الذي أثار اهتمامك في هذين الموضوعين؟
بعد إنهاء دراستي في دمشق، قضيتُ عاماً كمتطوّع لمساعدة اللاجئين. كشف لي هذا الأمر القضايا النفسية المعقّدة المطروحة للناس الذين أُجبروا على الانتقال وإجراء تغيير في حياتهم بهذه الطريقة، بالإضافة إلى اهتمامي بالمساعدة النفسية. أردتُ أن أتابع الدراسة في هذا الموضوع وحصلت على منحة دراسية للحصول على شهادة الماجستير في لبنان تحت إشراف أطباء وأساتذة واختصاصيين، وكان عنوان أطروحتي لاحقاً «العنف المنزلي وكيفية تمكين الحوار من تخفيف ظاهرة العنف»
يتناول عملك بكثرة سيكولوجية الألوان – كيف يؤثر اللون علينا وما الذي تستكشفه عبر خياراتك الخاصة للألوان؟
ليس بإمكاني أن أكون متأكداً تماماً عن سبب اختياري للألوان التي أستخدمها، ولكنني حتماً أختارها من أجل فصل عملي عن الواقع. أرسم ما تراه عينيّ – لا أستعمل الكاميرا بل أراقب ألوان الطبيعة والبيئة التي تُشعرني بأنني أرى ألواناً جديدة متداخلة. هذه الألوان تثير خيالي وأفكّر كيف تؤثّر كل درجة من اللون على الألوان المجاورة لها. في عملي على سبيل المثال، قد يصبح اللون الرمادي في جوار اللون البرتقالي لونا برتقالياً مزرقّاً متناغماً بلطف
أنت تملك بالفعل مجموعة لونيّة مميّزة مفعمة بالحياة تذكّرني بعض الشيء بالرسامين الانطباعيين مثل غوغان ، بالإضافة إلى تناغم الألوان مع بعضها، هل ترمز الألوان إلى شيء ما في أعمالك؟
نعم، أنا أحب غوغان وماتيس و يسرّني أن أعمالي تذكّرك بهما. ربما نحن نرشفُ من نفس النبع، كلنا نستمد من الطبيعة. إن بلدان البحر المتوسط والجنوب دافئة، مشمسة وغنية بالتفاصيل. وهي تملك روحاً قادرة على التأثير بنا. وفي ضوء هذا أقول ، أنني عندما بدأت مسيرتي في الرسم، لم أكن أعرف غوغان، كنت أعيش في الريف البعيد في السويداء وببساطة كنت أرسم ما يحيط بي. في الجامعة، وبفضل الانترنت، تعرّفت على فنانين مثل غوغان وماتيس فتفاجأت وسُررت في الوقت نفسه. فكّرت أن ربما بداخلي روح تشبه روحهما. الألوان التي أستخدمها هي ألوان البيئة الجميلة حولي
هل تقوم بمزج ألوانك الخاصة؟ هل هناك ألوان تحاول أن تبتكرها أو تشعر أنك أكثر ارتباطاً بها؟
أترك ذاتي تستشعر اللوحة أثناء عملي بها. لديّ خيال غنيّ بالألوان ولأكون صريحاً، أعتقد أني لو توقفت للحظة عن التفكير باختيار اللون، سوف لن أستطيع الرسم بصدق. في أغلب الأحيان، عندما أبعد عن اللوحة لأتفحصها ، أرى كيف اجتمعت الألوان مع بعضها وكأنها فعلت ذلك لوحدها
كثيراً ما تتناول أعمالك فن البورتريه المعاصر – كيف تغيّر هذا الفن باعتقادك في عصر «السِلفي، الإنستاغرام والفايس بوك» والصورة الفورية على هواتفنا الجوّالة؟ هل تظن أن هنالك عبء على الفنان للحفاظ على هذا الشكل من الفن على قيد الحياة، أو لتكييفه؟ هل تفكّر في هذا الأمر؟
أفكّر في هذا الأمر كثيراً وأنا قلق وحزين على مستقبل الرسم. يبدو تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الفن خطيراً ولكن الناس لا يدركون هذا. هنالك خلط حقيقي بين الصورة و اللوحة و تتم مقارنة اللوحة بالصورة بشكل فعلي. نشعر كأن عامة الناس قد اعتادوا على الصور ثنائية الأبعاد الخالية من أي روح وأي بعد حسّي وعاطفي. كل الصور متقنة بسبب استخدام تقنية «الفوتوشوب» و يبدو أن لا أحد يريد أن «يعيش اللحظة» أو يشعر ويختبر ما هو أمام عينيه. مثلا، إذا أراد أحد ما أن يرى شجرة، يصوّرها ويكبّرها للحصول على الزاوية المثالية، الحجم المثالي، لكنه لن يستطيع أن يتمتع بها بعينيه الاثنتين
ماذا تعني؟
على سبيل المثال نحن اليوم لسنا بحاجة إلى اللوحات «الواقعية» التي تصوّر الواقع بحذافيره ، الحاجة لأن يكون الفن توثيقاً دقيقاً للعالم المحيط بنا قد تضاءلت مع تطوّر التصوير الفوتوغرافي. في نظري، محاولة خلق لوحة تسعى جاهدة لأن تشبه الواقع، هو مضيعة للوقت. نحتاج إلى الفن من أجل الفن، أن نرسم شخصاً بلونٍ مميّز، مليء بالروح والتعبير. إذا أراد الشخص صورة حَرْفية، هنالك الكاميرا. والأهم من كل ذلك ، وفي حالة اللوحات، لا يجوز مقارنة العمل الفني بالصورة، إذ أنهما نهجان مختلفان كلّيًا. أنا أتساءل فعلا ما سيكون عليه مستقبل الرسم
تستكشف أيضا نظرة الآخر، نشعر بأن رسومك حميمية جداً، وكأننا نحن الناظرون، إن لم نكن متطفّلين، لكننا بالتأكيد نشاهد لحظات هادئة وخصوصية. ما الذي يثير اهتمامك في نظرة الآخر؟ هل هو التطفّل أو شيء ما تدعو إليه؟
عليّ القول بأنني لا أستطيع أن أعطيك اجابة مُرضية، لأن الأشياء العميقة داخل نفوسنا يصعب التعبير عنها بكلمات، ولذا فإني أقوم برسمها. نظرة الآخر هي إحساس ، وآمل أن تزوّد لوحاتي المُشاهد بنفس الإحساس الذي دفعني إلى ابتكارها في المقام الأول
في معرضك الأخير، «صائد الأحلام» في صالة أجيال، عرضتَ أعمالاً تستكشف صناعة النوم، مثل الفكرة أن الجيش يحاول أن يخلق «الجندي الذي لا ينام»، وكيف يُنظر إلى النوم في بعض الصناعات كسلعة تعمل على إبطائنا. لماذا تظن أن النوم قد أصبح نقطة ضعف في المجتمع المعاصر؟
عندما انتقلت لأول مرة إلى بيروت، عشتُ مع مجموعة من الأصدقاء. اندهشت كيف يكونون عند النوم، في حالة كاملة من الاستسلام والحقيقة. رأيتهم في شكل بلاستيكي بحت – خليط من الأيدي، خطوط ملونة، كتل من الأشكال، نور وتفاصيل أخرى، لكن الوجوه المتعبة كانت غائبة. دفعني هذا الأمر إلى إجراء بحث عن النوم وكيف تغيّر. نعيش في عصر السرعة، تريد الرأسمالية أن تبرمج كل شيء لصالح الإنتاج، وتروّج فكرة الاستهلاك. يؤثر هذا الأمر علينا حتى لو لم نلاحظ ذلك. كنا في السابق نأوي باكراً إلى الفراش. اليوم ننام أقل، ونقضي ساعات طويلة في تمرير الصور، الإعلانات، التسويق، التواصل الاجتماعي (وعلى جانب ذلك ، أفكر أحيانًا فيما إذا كان الجنس البشري سيتطور بطريقة مختلفة للتكيّف مع هذه الأمور، وهل سيكون لأولادنا يوما ما في المستقبل البعيد عيون أوسع وإبهام أكبر؟) ننام قليلاً وأقل لأن حياتنا فارغة وسريعة، نحن عالقون داخل نظام يريدنا أن نعمل بسرعة أكثر ونستهلك المزيد. هذا يثير اهتمامي وأود التعمّق به
نحن ضعفاء عندما ننام. أشكالك ملفوفة في اللحاف مثل شرانق، تُخفيها عن عينَي الناظر كما لو أنك تحمي الإنسان وتحجبه عن العالم المحيط به
ينتمي هذا اللحاف إلى بيئتي، هو تحفة فنّية قد صنعتها النساء منذ العصور القديمة، وكنّ يتنافسن لصناعة اللحاف الأجمل. توجد لحافات كهذه في ذاكرة كل منّا. لقد رسمتها كتمجيد للنساء اللواتي يصنعها ولأجل ثقافتنا. هو رحمٌ بديل، مسكن ومكان آمن نتغذى منه عندما نغفو. يُغطّينا اللحاف في أوقات أفراحنا وأحزاننا ويسمح لنا أن نسلّم أنفسنا ونبتعد عن الحياة ولو لبضع ساعات. عند النوم كلنا متشابهون. إذا كان أحدهم ينام في قصر أو كان ثمّة ولد ينام في الشارع، فإن الإثنين غائبان عن الواقع. اللحاف حميم مثل المنزل الخاص بنا. في سياق لوحاتي، يتخذ كل لحاف لوناً مختلفاً لإظهاره كمسكنِ مميّز للنائم فيه
أخبرني عن سلسلتك «منال» . قلت أنك كنت تستكشف عقلك الخاص من خلال وجه جارتك. ما الذي قد دفعك في متلازمة داون للتفكير في التعبير عن الذات ؟ ماذا كشفت عنك؟ ما الذي تم استحضاره من خلال وجهي الجندر، الرجل و المرأة؟
لأكون صريحاً، هي التي علّمتني كيف أرى. منال لديها مظهر مميز وجمالية رقيقة. في عدة نواحي، تسمح لي برسم نفسي من خلال رسمها هي. من الصعب أن أصف ذلك ، ولكن قد يكون التعبير عنه أفضل عبر الفيديو الذي صنعته ، بالإمكان مشاهدته هنا
ما هي التحديات التقنية في فن البورتريه؟ هل تحاول أن تدفع عملك نحو اتجاهات جديدة؟
البورتريهات معقّدة حقاً ، فهي تحتاج إلى عمق وإدراك وموهبة جيّدة وصلبة. والبورتريهات التي تفتقد للإبداع قد تكون بارعة تقنياً لكن لا روح فيها. عندما أرسم أو ألوّن اللوحات، لا أفكّر بالمستقبل بل أبقى كليا في الحاضر.. يعطيني هذا الأمر شعوراً بأنني أفعل ما عليّ فعله على هذه الأرض
على ماذا تعمل في الوقت الحالي؟
أعمل على تنظيم معرض جديد أبتكر فيه تحية إجلال للنساء اللواتي يعملن في الزراعة. في البداية، جذبتني ألوان تلك المناظر، ثم أدركت أن بودّي الإضاءة على أهمية دوار النساء عبر التاريخ. الإلهة الأولى كانت عشتار وأول مخلوق على وجه الأرض كانت الأم. الأنثى تحتوينا، تعيش في داخلنا وتخلقنا ، أردت أن أحيّيها