يعود المؤرخ الفنيّ السوريّ عفيف بهنسي في دراسة تناولت تاريخ «التصوير الإيضاحي» إلى نقطة تاريخية مبكرة من عصر المنمنمات في المخطوطات الإسلامية العربية بوصفها قاعدة مرجعيّة لهذا الفن. عرّف بهنسي التصاوير الإيضاحية في المخطوطات فكتبَ عنها : «لوحات فنية ذات وظيفة دلالية محددة تدعم النص المخطوط، توضيحاً وتزييناً» [1]
توفر الأعمال البصرية الإيضاحية أو التحريرية رؤيةً فريدة وخاصة بالرسام وتمكن المتلقي من رؤية الموضوع من منظور فكري محدد. وتتمثّل وظيفة الرسوم الإيضاحيّة الأساسية، بوصفها تنتمي إلى فنون تجسيد الأفكار، في فتح نوافذ بصرية لتوضيح أو تأكيد أو إثراء وتكثيف المحتوى النصيّ، وقد ترد هذه الرسوم أحياناً لأغراض تزيية بطريقة يتقاطع فيها الغرض الوظيفي مع التكوين البصري، بطريقة تهدف لشدّ انتباه المتلقي، وتلخيص جوهر المحتويات السردية لما يمكن استيعابه خلال ثوانٍ قليلة[2].
بدأت الحاجة إلى الرسوم التوضيحية حسب الكاتب أكرم قانصو منذ القرون الأولى من العهد الإسلامي حيث نشطت حركة التأليف والترجمة في البلاد العربية ونشط معها الاعتماد على الرسوم، وقد أوضحَ قانصو أنها : «كانت بمعظمها رسوماً إيضاحية لبعض المخطوطات وكانت أقرب للفن الشعبي منه إلى أي شيء أخر»[3] وأنها جاءت «لتزيين وتوضيح محتويات تلك المخطوطات »[4]. ومع أوائل القرن العشرين ظهرت صناعة ما سمّاه «الـرسـوم المـطـبـوعـة» والتي ظهرت في سوريا مع دخول المطابع إليها، بدايةً على يد الأرمن في حلب، وحيث ساهمت دور النشر في توزيعها وانتشارها. حملت معظم هذه الرسوم موضوعات دينية وشعبية مثل قصص الإنجيل والتوراة وكانت أساليبها قريبة من الأيقونات الدينية. كما وجدت الرسوم مطبوعة في بعض الكتب الشعبية ككتاب ألف ليلة وليلة. يذكر قانصو كيف كانت بعض تلك الرسوم المطبوعة الـتـي حملت مواضع السير الشعبية والدينية مرغوبةً كقطع منفردة، حيث بيعت بشكلٍ مستقلٍّ عن الكتب في سوق الحميديـة وأمـام المـسـجـد الأمويّ في دمشق، معظمها غير مؤرخ أو غير ممهور بتوقيع[5] .
يمكن تتبع بدايات الرسوم التوضيحية في الحقبة المعاصرة في المطبوعات السورية مع المراحل المبكرة للصحافة العربية منذ نهايات الحكم العثماني في القرن التاسع عشر[6]. إذ «لم يسبق الصحافة السورية في النشأة في العالم العربي سوى الصحافة المصرية التي عرفت أول صحيفة أنشأها محمد علي باشا في العام ١٨٢٨ باسم “الوقائع المصرية”. فأول صحيفة في سوريا صدرت … العام ١٨٦٥ كانت باسم ” سوريا” [7]» قيّدت ممارسات الرقابة على الصحافة العربيّة آنذاك وبشكل مباشر حرية التعبير، واشتدت في حكم السلطان عبد الحميد الثاني بسبب سياساته الاستبدادية، وبسبب سوء الإدارة وعدم كفاءة المسؤولين. [8] وبحسب وثيقة بروتوكول مسجلة عام ١٨٧٧ فيما سميّ «مجلس المبعوثان» «التجربة البرلمانية السورية الاولى حرية الصحافة والنشر» تم طرح ومناقشة موضوع «الجرائد الهزلية». عكست تلك الوثيقة التأثير الأزلي للسلطة على حرية الصحافة ونظرة السياسة والمجتمع آنذاك للفن بشكل عام، وعلى الرسوم التوضيحية الساخرة بشكل خاص.
سجّل نقولا النقّاش في ذلك المجلس موقفاً مؤيداً لاستمرارية هذه الجرائد فقد رأى بأن لها «إيجابيات وسلبيات.. فإنها ترفّه عن الناس وتَعظْهم في ذات آن» أما نائب حلب مانوق قراجيان فقد دافع عن الفن بشكل عام مصرّحاً « إن كانت الجرائد الهزلية مجوناً كما يدّعون، فلنمنع " الكراكوز" أيضاً. يقولون أن أصحاب الجرائد الهزلية يسعون لكسب المال من هذا الفن غير اللائق، فإن كان ذلك مبرّراً لمنع الفن، فهناك من الفنون الأخرى ما هو أدنى وأبشع. يتحدثون أيضاً عن مضرّة الرسومات، فبرأيكم إن أغلقنا جرائد المزاح هل سنستطيع تكبيل أيدي الرسامين ؟»[9] من اللافت في هذه الوثيقة ذكر كراكوز وهو أشهر شخصية ساخرة من خيال الظلّ في مُعظم مناطق الإمبراطورية العثمانية. والجدير بالذكر أنّه لدى الاطلاع على أرشيف سوريا في الفترة العثمانية [10] نجد أنّ أقدم أثر لمطبوعة سورية مصوّرة يمكن العثور عليه هو جريدة هزليّة بعنوان «مسخرة» صدرت باللغتين العثمانيّة والعربيّة في مدينة حلب، على الصفحة الأولى من العدد رقم ١٥ عام ١٩١٠ يتوسط عنوان الجريدة رسم هزلي لشخصيتي على ما يبدو أنهما كراكوز وعيواظ. لقد كان من البديهي انتقال هاتين الشخصيتين من مسرح الظلّ إلى أحدى أوائل الرسومات التحريريّة، إذ لطالما تمكنّت عامة الناس من الارتباط بهما، حيث عكستا تجارب وتحديات الحياة اليومية للإنسان السوريّ وتسنى للفرد من خلالهما التعبير عن همومه، فمسار حياة كراكوز وعيواظ قد تشابك مع القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة. على هذا النحو، استُخدمَت هاتان الشخصيتان في الرسوم التحريريّة كوسيلة للتمويه عن الجمهور عن طريق دمج الحوارات الهجائية الساخرة مع الصورة ، بما يمزج بين الفكاهة والحدّة ويهدف إلى تحليل التحديّات الاجتماعيّة والسياسيّة. كانت تلك وسيلة جعلت النقد أكثر قابلية للاستيعاب من قبل السلطة الحاكمة. سمح هامش الحرية الاستثنائي المرتبط بهاتين الشخصيتين في خيال الظل بتطبيق مساحة الجرأة ذاتها في التقديم الجديد لهما في المطبوعة المصوّرة، فكما قُبلت اللغة الشعبية البذيئة في الأول قبلت في الرسوم المصوّرة أيضاً.
تزامن صدور جريدة «مسخرة» في حلب مع صدور جريدة أخرى في اسطنبول بعنوان «قره كوز» استخدمت أيضاً رسم كراكوز وعيواظ في ترويستها الثابتة وعرضت مكاناً محدداً لرسوم تحريرية متبدلة بتوقيع من المحتمل أن يكون لاسم "شربجي". يصعب الجزم أيّ من الجريدتين سبق صدورها الأخرى، ولكنّ يبدو عند مقارنة الرسوم المستخدمة في ترويسة عناوين الجريدتين يظهر أن الجريدة الإسطنبولية تفوقت على صعيد احترافية صورها، مما يعكس ربما تطوراً أكبر في مجال الصحافة المرسومة في تلك الفترة في إسطنبول مقارنةً بحلب. يمكن تفسير ذلك بمحدودية الموارد وعدم انتشار التعليم الفني في سوريا في تلك الفترة. كانت الصحف في تلك الفترة تستخدم مزيجاً من التقنيات لطباعة الرسوم الإيضاحية. منها طباعة شبكة «الهافتون» التي اعتمدت على تحويل الصور إلى نقاط متنوعة الحجم لإعادة إنتاجها في الطباعة، وتقنية الطباعة بالمكبس الدوار أو بالإزاحة (الأوفست) للطباعة على الورق. كانت هذه التقنيات تعمل سوياً لتمكين الصحف من دمج الصور الفوتوغرافية والرسوم التوضيحية المرسومة يدوياً في تصميم صفحاتها. انعكست قيود تكنولوجيا الطباعة في تلك الحقبة على خيارات تنفيذ الرسومات وأساليبها وأجبرت الفنانين على ابتكار طرق عملية لتنفيذ رسومات تتوافق بمرونة مع تقنيات الطباعة. لهذا السبب شاع استخدام الخطوط المتوازية أو المتشابكة أو حتى التنقيط أحيانا لخلق الظلّ والنور. كانت الرسوم التوضيحية المثالية هي الأكثر توافقاً مع تقنية الطباعة الدارجة. مثل الرسومات المعتمدة على الخطوط الواضحة ، التي تم تنفيذها بالقلم والحبر، حيث كانت وسيلة شائعة لنقل المعلومات البصرية.
شهد النصف الثاني من القرن العشرين تراجعاً كبيراً في إنتاج الصور الشعبية في سوريا ومعها الرسوم الإيضاحية، كان ذلك بالدرجة الأولى بسبب دخول التصوير الفوتوغرافي وانتشاره، وبدء الاهتمام باللوحة المسنديّة والاتجاهات الفنيّة الغربية. في واحد من مقالاته، تطرّق الناقد والفنان محمود شاهين إلى أسباب نجاح أو فشل الاعمال من هذا النوع في المنشورات السورية، وعن كونها جزء لا يتجزأ من أركان متعددة لعمليّة فنيّة مركّبة يشترك فيها الكاتب والمشرف الفنيّ إلى جانب الرسام. فلقد أوضح بأن الرسوم التوضيحيّة: « نصٌّ بصريّ، مواكبٌ يتماهى مع النص المكتوب، أو هكذا يجب أن يكون» وأضاف: «من أجل هذا، يجب أن تتوفر في المشتغلين على هذا النوع من الفن [...] جملة من الخصائص والمقوّمات، أولها وأهمها، قدرتهم على تذوق المادة الصحافيّة المراد دعمها وتوضيحها وإبراز مضمونها (أو تجميلها وتقديمها بشكل مُغرٍ للقارئ) بالرسوم والصور المناسبة، والتفاعل معها، وثانيها تملكهم ناصية الرسم، وخبرتهم بتقاناته. [11]» في الواقع، يفتقر السياق السوري إلى كتابات نقدية وأبحاث تتناول فن الرسوم التوضيحيّة خصوصاً من منظور محليّ. كذلك يوجد فراغ توثيقي فيما يتعلّق بأسماء الرسامين التوضيحيين السوريين خصوصاً الرواد الأوائل. ومع أن بعض المجلات الفنية التخصصية السورية قد قدّمت بعض فناني الرسوم الايضاحية وأعمالهم، إلّا أنها لم تشرْ بشكل واضح إلى خصوصيّة مجال عملهم وتصنيفه. على سبيل المثال في مجلة الحياة التشكيلية [12]، لم تأخذ المجلة على عاتقها التطرّق إلي هذه المهمة الصعبة لوضع الفروقات التعريفيّة بين الرسومات الإيضاحية والأعمال الفنيّة التشكيليّة، وظلّت الخطوط الفاصلة مبهمة [13]، لكن مجرّد الإشارة إلى تلك الأعمال قد عكس ضمنيّاً توجهاً عامّاً ينظر إلى الرسومات التوضيحية كجنس من الأجناس الفنيّة التشكيليّة وبدون هرمية تذكر[14]. في الواقع، شغلَ سؤال تصنيف الرسوم التوضيحيّة الكثير من الباحثين الفنيين على صعيد عالميّ، وهو يشبه في تعقيده السؤال عن ماهية الفنّ بحدّ ذاته. وعلى هذا النحو، مع صعوبة التعريف وتداخل الفنون، ولكن أيضاً مع اتّساع دور الصحافة في العالم العربيّ وارتباطها بالفن، دخل مصطلح جديد لتعبير عن تلك الممارسة وهو الرسوم التحريريّة Editorial Illustration الذي اندرج تحت المصطلح الأشمل : الرسوم الايضاحية Illustration . لقد ارتبطت الحركة الفنيّة السوريّة بدت مرتبطةً ومتشابكةً مع العمل الصحفيّ، وقد مارس الفنانون من الرواد الرسم في الصحافة ولم ينظروا للفن على أنّه محراب مقدس يقتصر على العمل التشكيليّ في المحترف الفنيّ، معتبرين أن فنّ الرسم التحريري لا يقل عن فن اللوحة، خصوصاً بوصفها وسيلة اتصال بصريّ فعالة من أجل توضيح مفاهيم وعرض قضايا اجتماعية وسياسية هامّة في حياة الأفراد، وأنّها تحمل مسؤولية المساهمة في بناء الرأي الفضاء العام. اشتغل عدد لا يستهان به من الفنانين السوريين والعرب في الرسومات الصحفية الأولى على سبيل الذكر: توفيق طارق، عبد الوهاب أبو السعود، عبد اللطيف الضاشوالي، سمير كحالة، عبد اللطيف مارديني، مظهر شمه، خليل الاشقر وغيرهم. وكأحد أهمّ الأمثلة سوف نتعمق تالياً في تجربة الفنان عبد الوهاب أبو السعود.
عبد الوهاب أبو السعود والرسوم التحريرية الهزلية الناقدة
اندرجت معظم الرسوم التحريريّة تحت ما أطلق عليه البريطانيون في منتصف القرن التاسع عشر «كاريكتور» أو «كارتون تحريري». لم يكن المصطلح بعينه رائجاً في العالم العربيّ، إنّما تم استخدام تعبير «الصور الهزليّة»، حيث غلبَ على الرسوم طابعاً فكاهياً لتصوير الشخصيّات. غالباً ما أتت العناوين مرسومة يدوياً مع أنماط حروف زخرفيّة، مما أضاف لمسةَ شخصيّة فنيّة إلى تصميم كل صحيفة. اعتُبرَت صحيفة «جراب الكردي»، التي تأسّست في حيفا عام ١٩٠٨، واحدة من أبرز الصحف الناقدة والساخرة على صعيد محليّ. كان العنوان في سياقه الزمنيّ يحاكي "شقاوة" اللهجة العاميّة المازحة، وكان يعد مقبولاً ويحمل نوعاً من إعجاب صحيفة عربيّة بإحدى التقاليد الكرديّة. رمزَ العنوان إلى التنوّع والكفاءة في الاستعداد والجاهزيّة لمختلف المواقف، حيث أن هذا التعبير مستوحى من فكرة أنّ "جراب الكردي" كان يتسع لكلّ شيء، حيث كانَ الأكراد يحملون جوراباً مصنوعاً من جلد الماعز أثناء رحلاتهم، يضعون فيه كلّ ما يحتاجونه.
كان من أبرز رساميّ تلك الصحيفة الفنان الفلسطيني الأصل عبد الوهاب أبو السعود، أحد أبرز فنانيّ المشهد الفني السوريّ. بعد تنقلات بين عدّة مدن عربيّة [15]، وعندما بلغَ عبد الوهاب أبو السعود السابعة عشرة من عمره، انتقلَ مع أسرته إلى دمشق مدينة أبي خليل القباني[16]. قبيل الحرب العالميّة الأولى وأثناء انشغال الحكومة العثمانية بالاستعداد للحرب، أسّسَ أبو السعود الوقت لبناء شبكةٍ اجتماعيّة في دمشق. وعندما تمّ استدعائه للمشاركة الإلزاميّة في الحرب، فرَّ منها بالرغم من عقوبة الإعدام المفروضة، فتوارى عن الأنظار. وبعد ذلك بدأ في التدريس مدرسة الملك الظاهر كحجة للتهرّب من المشاركة في الحرب.
من بين المواد التي درّسها، أدخل أبو السعود مادتيّ التمثيل ومبادئ الرسم، وكان ما يزال مغموراً في كلا المجالين. أصبح أبو السعود فناناً ثوريّاً على الأرض، بدايةً ضد الأتراك ومن ثمّ ضد الاستعمار الفرنسيّ، الأمر الذي أجبره على التخفيّ والتنقل الدائم. لذا جاءت رسومه شكلاً آخر من نضاله الثوريّ وشخصيته ذات الرأي السياسيّ الوطنيّ الواضح. سمحت علاقاته المتينة مع الوسط المسرحي من كتاب ومؤلفين مسرحيين، مثل الأديب معروف الأرناؤوط الذي كان صاحب ومؤسس جريدة «فتى العرب»، بفتح باب العمل مع الصحف والمجلّات.
في واحد من رسومه في جريدة «جراب الكرديّ»، وثّق أبو السعود لحدثٍ تاريخيّ بارز من صيف عام ١٩٢٢ في بيروت. يَظهر في يسار الرسم مجموعة من الأشخاص في الخلفية في مشهد خارجيّ ورجال من مرتدي الطرابيش أو الملابس الإفرنجية ونساء بالرداء القصير وأخريات بغطاء الرأس. تظهر المجموعة التي تبدو في حالة غضب داخل عربة ترام بسائق. عند قراءة التعليق في إطار الصورة : «أصول مقاطعة التراموي في بيروت بواسطة البندورة» نفهم ما يرميه الأشخاص باتجاه العربة والبقع على واجهتها وملابس السائق. يشير هذا الرسم إلى حراك ثوري انطلق من المناطق المسيحيّة في بيروت انضمت إليه المناطق المسلمة لمقاطعة شركة الترامواي الفرنسيّة- البلجيكيّة. سجلّت الوثائق البلجيكية [17] حراكاً مدنيّاً متجاوزاً للاختلافات الطائفيّة، وأشارت إلى تحديّات المرحلة الانتدابيّة الصعبة في بيروت عام ١٩٢٢. في العدد ذاته من «جراب الكردي» والذي صدرَ في شهر آب من ١٩٢٢، أي بعد شهر واحدٍ من صدور صكّ الانتداب الذي جاء بناءً على وعد بلفور. نجد رسوماً أخرى لأبو السعود، نقلت المزاج العام والنبض الشعبيّ أكثر من النصوص. إذ سمحت الرسوم التحريريّة بما لم تسمح به النصوص من استعمال زائد للسخرية وتكثيف للمشاعر. رافقت إحدى الرسوم نصّاً ناقدا لـ«نشرة الهيئة القوميّة الإسرائيليّة الفلسطينيّة إلى الشعب العربيّ» وقد ورد في النص : «رأت بريطانيا نشاط الشعب اليهودي المتشتت في العالم فجعلت له البلاد المقدسة وطنا قومياً له كأن البلاد خالية من السكان أو كأنها قطعة من الصحراء أُعطيت إلى اليهود ليسكنوها دون منازع. ليت شعري هل رأى العالم سخافة أكثر من هذه...»[18]
صوّر عبد الوهاب ضمن حيّز مستطيل شخصيات تتوزع فيه بتوازن يميناً ويساراً. يقف في يسار الرسم "الكردي" [19] كشاهد دائم على الاحداث، وإلى يساره "الفلسطيني" بزي فلسطينيّ تراثيّ [20] وهما يشيران إلى يمين الرسم حيث تقف مجموعة من ثلاث مخلوقات بأجساد كلاب ورؤوس آدميْة مرتدية طرابيشاَ. وأظهرت الكتابات اسم كلفرسكي. مثّلت الكلاب الآدميّة شخصيات ترعرعت في قرية نعلين قرية التابعة لقضاء الرملة آنذاك، وحسب النص فهم مجموعة أشخاص تنحدر من قبيلة جذام العربية «بني حمران». أما كلفرسكي فهو حاييم مارغليوث كلفرسكي الذي أصبح لاحقاً رئيسَ «حركة بريت شالوم» التي تأسّست عام ١٩٢٥. كانت حركة بريت شالوم تقدْم نفسها على أنها حركة ثقافيّة أكثر منها سياسية، تدعو إلى تقوية العلاقات العرقيّة التي تعود للأصل السامي بين العرب واليهود. رفض العرب المشاركة ببرنامج بريت شالوم بوصفه دعاية صهيونيّة متخفيّة. وبالرغم من ذلك، كانت هناك بعض الاستثناءات، تلك التي انتقدها أبو السعود في رسومه مصوراً إياهم ككلاب للسلطة المتعاونين مع الاحتلال وباعة الأراضي والسماسرة من العرب، مثل حسن شكري رئيس بلدية حيفا التركيّ الأصل والذي كان مؤيداً لوعد بلفور وشجّع على هجرة اليهود إلى فلسطين وتعاون َمع مندوبي اللورد روتشيلد، و كان ضيفاً دائما على «مائدة كلفرسكي».
ساهمَ أبو السعود في مجلات ساخرة أخرى. ففي عام ١٩٢٤ ظهرت صحيفة «حط بالخرج» التي كان قد أسّسها هاشم خانكان كاستمرار لصحيفة سبقتها حملت الاسم ذاته [21] ، وقد رسم لها فنانون سوريون آخرون من أمثال توفيق طارق وعلي الأرناؤوط وخالد العسلي. لم يصدر منها هي الأخرى إلى بضعة أعداد بأربع صفحاتٍ من القطع المتوّسط وقد حرّرت كاملة باللهجة الشاميّة المحكيّة ولكنها توقفت مع اندلاع الثورة السوريّة الكبرى عام ١٩٢٥. وصفت الصحيفة نفسها بأنّها «جريدة سياسيّة فكاهيّة مصوّرة» ويبدو أنها كانت تفتح باب المشاركة بالمواضيع والصور وتعتذر عن إعادة المواد لأصحابها. استخدَمت الرسوم الكاريكاتورية التحريريّة مفرداتٍ بصريّة ولفظية مألوفة للقرّاء وكان الغرض منها هو جعلهم يفكّرون في القضايا السياسيّة الحاليّة. في العدد الأوّل للجريدة الصادر قبل عام واحد من الثورة السوريّة الكبرى وتحت عنوان "الأزمة الشديدة في هذه الأيام" قدّم عبد الوهاب أبو السعود مرة أخرى رسماً يؤرخ حدثاً مفصلياً من تاريخ سوريا. يظهر في ذلك الرسم ثلاثة أفراد يُجسدون بعض فئات المجتمع السوريّ.
يتوجّه كلّ فرد منهم بكلامه نحو الشخصيّة الرئيسيّة في عدد الصحيفة، وهو "أبو سطام"، الذي يظهر مرتدياً الزيّ الدمشقيّ وحاملاً خرجاً. يعبّر كلّ فرد عن رؤيته للأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة في تلك الفترة. وقد تم توثيق آرائهم في جمل تظهر في أربع فقاعات كلاميّة، يظهر في الزاوية السفليّة اليمنى الشاب المثقف قائلاً: "فليحيا الوطن"، إلى جانبه، الضابط الصغير بعبارة: "الورقة السورية في هبوط مستمر"، ثم التاجر الكبير وهو يقول: "خربنا من وقوف الحال"، أما شكوى الشاب المثقف الوطني مرتدياً البدلة الرسمية والطربوش يشد جيب بنطاله الفارغ في تماهي مع شكوى التاجر الكبير وشكوى الموظف ذو الملابس المهترئة، وقد يجد له سبباً إضافيّاً، ممثلاً شريحة كبيرة من المجتمع، ساخطاً على محاولات الاستعمار لطمس الثقافة العربيّة وإحلال الفرنسيّة مكانها [22]. أخيراً، يظهر أبو سطّام في الزاوية اليسرى ليَقل بشىء من اللامبالاة "حط بالخرج". يمثل هذا الرسم شهادة تاريخية حقيقيّة توثق المجتمع السوري قبل الثورة ويسجّل الظروف والمشاعر في تلك الفترة، بطريقة تمكننا من ربط رؤى الشخصيات في الرسم بالتحولات التي أدت فيما بعد إلى اندلاع الثورة السوريّة الكبرى (١٩٢٥) ضد الاستعمار الفرنسي فيما تلا. من المهم قراءة هذ الرسم ضمن سياقه التاريخي. لقد أظهر الباحث فاهم نعمة إدريس الياسيري في «أثر العوامل الاقتصاديّة في قيام الثورة السوريّة» أن سياسات الفرنسييّن الاقتصاديّة كانت تعتمد على الإفقار والنهب، وأن ورفع الرسوم على الحواجز الجمركيّة بين دويلات سوريا وبين جيرانها واحتكار الفرنسيين لكامل واردات الجمارك كان بهدف الإنفاق على دوائرهم وجيوشهم [23]. لم يقتصر نقد أبو السعود على الجوانب السياسية وإنما كان مهتماً أيضاً بهموم المجتمع. ففي العدد ذاته من صحيفة «حط بالخرج» ظهر رسم تحت عنوان "العواطف الكذابة". يتوسط الرسم شابة تجلس على أريكة، بينما يظهر شاب جاثياً على ركبته قائلاً: "أتقبلين بأن تملكي هذا القلب الخافق ترد عليه الشابة: "كلا، بل أفضل استئجاره حين إفلاسك" يلمح الرسم إلى بعض التحولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي قد أثرت على الديناميات بين الجنسين في تلك الحقبة. ويبرز جوانب من الثقافة والمجتمع في الفترة التي سبقت الثورة السورية الكبرى. تظهر الشخصيات بملابس وتسريحات معاصرة وعناصر من الحياة الحديثة الأنيقة.
كان أبو السعود يوقع رسوماته بعبارة «صوّرها عبد الوهاب» وكان يكتب اسم الشخصيات تحت أقدامها مباشرة. لعبت في رسوم أبو السعود كل من شخصية الكردي في جريدة «جراب الكردي»، وشخصية أبو سطام في جريدة «حط بالخرج» محاولة خلق شخصيات تعكس استمراراً غير مباشر لشخصيتيّ كركوز وعواظ وتلعب دور الشاهد المراقب والمتفرّج. شخصيات ثابتة في كل رسم صحفيّ بلباس شعبيّ لا يتبدل، ما عكس إصراراً على استمرارية وجودها لغرض معنويّ وآخر فنيّ رسّخ صورة الشخصيات في الرسم الصحفي حتى أصبحت مألوفة للمتلقي.
ضمن سيرة أبو السعود الذاتية وخصوصاً كتاب مؤرخ وحكواتي الشام عادل أبو شنب «حياة الفنان عبد الوهاب أبو السعود» يظهر بجلاء دخول فكرة «المسرح أبو الفنون» الشهيرة إلى فنّ الرسم التحريري على يده، إذ بدت أُطر رسومه الرسم كخشبة للمسرح والشخصيات كممثلين، وجاءت بنية معظمها مشهديّة، حيث المنظور امامي شبه واحد (خط الافق) تتوزع الشخصيات فيه على ثلاثة ابعاد مما يعطي التكوين على بساطته عمقاً محسوساً. ما جعله يبدو كمخرج أعطى التفاصيل التاريخيّة عنايّة نقديّة. بالإمكان استشفاف حماسه الثوري وهمه الوطنيّ من خلال تلك الأعمال. خصوصاً تلك التي أنجزها في الفترة ما قبل الثورة السوريّة الكبرى وهي الفترة التي انكبّ فيها على الرسم الصحفي. حملت رسوم أبو السعود صوتاً واضحاً وعبّرت عن آرائه وانتقاداته في مواضيع سياسية واجتماعية، ومارس حياته كناشط وطني دفع ثمنَ وضوح مواقفه ونشاطاته. انعكست الشجاعة ذاتها في طريقة تناوله للأحداث السياسية بصوت ناقد لاذع. ومع أنّه قد أضفى على الرسوم التحريرية طابعاً معاصراً وخاصّاً، لم يركّز عمله في سياق رسوماته الصحفية على تطوير الجانب الجماليّ، فأتت رسوماته فطريّة ومختزلة وحاولت أن تكون وفيّة للمحتويات النصيّة. بذلك تعتبر هذه الأعمال وثائق تاريخية عبّرت عن تفاعل الممارسة الفنية مع محيطها وزمانها. لقد أسهمت رسوم أبو السعود الشُجاعة في إثراء الحوار العام وتسليط الضوء على القضايا الملحّة والمحظورة في مجتمعه وعصره، وذلك بالرغم من التحديات والرقابة التي واجهها طوال حياته.
[1] بهنسي، عفيف، التصوير الإيضاحي بين المرقنات والمنمنمات الإسلامية، رقم العدد: ٧٦-٧٧، ٢٠٠٧، ص ٤
[2] Male، Alan: Illustration: A Theoretical and Contextual Perspective، 2007، P: 68
[3] قانصو، أكرم، التصوير الشعبي العربي، كتاب عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ١٩٩٠، ص ١٩
[4] المرجع السابق ذاته.
[5] مثل بطاقة بريديّة من منشورات الجوهرجي يوسف عبيد من رسوم أبو صبحي التيناوي.
[6] في عام 1865، أصدرت السلطات العثمانية أول قانون يتناول مسألة الدوريات المطبوعة. وفقًا لهذا القانون، كانت الشروط الأساسية لإصدار دورية أن يحصل صاحبها، الذي يكون مواطنًا عثمانيًا، على ترخيص من وزارة التعليم. كان يتعين على هذا الشخص أن يكون ذو سمعة حسنة وأن يكون قادرًا على تحمل المسؤولية القانونية عن محتوى الدورية التي قام بنشرها.
[7] معسعس، رياض: في الذكرى 157 لميلاد الصحافة السورية، السوري اليوم. https://syrian-today.net/ar/opinion/485/في-الذكرى-157لميلاد-الصحافة-السورية
[8] Cioeta، D.J.: Ottoman Censorship in Lebanon and Syria، 1876–1908، International Journal of Middle East Studies، Vol. 10 No. 2، 1979، P: 167–186.
[9] الأتاسي، فارس: مجلس المبعوثان 1977: التجربة البرلمانية السورية الاولى (4): حرية الصحافة والنشر- رسم الخطوط الحمراء
https://syrmh.com/2023/09/23/مجلس-المبعوثان-1877-التجربة-البرلمانية-ا-4/
[10] https://syrmh.com/2022/12/02/من-الأرشيف-العثماني-1910-جريدة-مسخرة-في-ح/
[11] شاهين، محمود: الرسوم التوضيحيّة .. نص بصري مهمل، ٢٠١٠، https://www.albayan.ae/paths/books/2010-05-29-1.249960
[12] https://archive.alsharekh.org/magazineYears/244
[13] توجد على شكل مقالات عن عبد القادر أرناؤوط ومدرسته الفنية، ،و أحيانا على شكل مقابلات مع فناني رسوم الطفل مثل لجينة الأصيل. أيضاًدراسات عن الملصقات السياسية. وتراجم عن علاقة الصور بالنص القصصي وأخرى عن علاقة النص و الرسم والواقع الاجتماعي أشكال واتجاهات الرسم في كتب الاطفال.
[14] يَعتبر الباحث أوتو إيجه ان الرسومات التوضيحية نظرا لارتباطها بمحتوى سردي يضعها في مستوى أدنى من الفن التشكيلي ويدرجها تحت الفنون التطبيقية
Ege, Otto F.: Illustration as a Fine Art, 2015, p: 3-11
https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/15436322.1949.11465908
[15] كان عبد الوهاب أبو السعود من مواليد نابلس الفلسطينية عام ١٨٩٧ لعائلة ذات مكانة، اضطر والده الذي كان ضابطاً في الجيش العثماني للهجرة إلى صيدا. نشأ أبو السعود وتتلمذ في بيروت وهناك بدا الاهتمام في الرسم والتعلق بالمسرح. لاحقاً غادر أبو سعود مضطراً إلى القاهرة لدراسة الفقه في الأزهر مضمراً مخططاً آخر في مدينة التمثيل العربية فقطع دراسته الدينية لينشغل بالفن بشكل كليّ. وعاد بعد حوالي العام إلى صيدا مجبراً بعد اعتراض والده. بعد أن استقرّ في دمشق كلف أبو السعود من وزارة المعارف ومن المؤلفين لإنجاز رسومات تنشر في مطبوعات المناهج التعليمية والكتب التاريخية وهي بورتريهات تخيلية لشخصيات تاريخية مثل طارق بن زياد، صلاح الدين الأيوبي، هارون الرشيد وغيرهم. ثم غيرت وزارة المعارف من قوانينها واقتصرت على التعاون مع من يمتلك شهادة عالية. وبما أن ابو السعود لم يكن يحمل شهادة جامعية وكان قد علم نفسه بنفسه. سافر ١٩٣٤ على نفقته الخاصة إلى باريس لدراسة الرسم والتصوير الزيتي وامضى عاما من البحث وزيارة المتاحف والمسارح والتجول في أوروبا. انحصر نشاط أبو السعود بعد عودته في مجال المسرح المدرسي وقدّم العروض المسرحية في لجمهور دمشق المؤلف من النخب السياسية والثقافية. في شبابه تركّز إنتاجه على الرسوم الصحفية حيث يظهر كرسام قام بتعلم الفن بذاته. ورغم صغر سنه في هذه المرحلة تجلت في هذه الأعمال تبنيه لمنظومة قيم وطنية، بالإضافة إلى التأثير الواضح للثقافة السياسية. يُظهر أبو السعود، في هذه المرحلة الشابة من حياته ومسيرته الفنية، قدرته على متابعة وفهم المشاكل والاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الساحة الوطنية. انظر: أبو شنب، عادل، حياة الفنان عبد الوهاب أبو السعود، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، ١٩٦٣.
[16] أبو شنب، عادل، حياة الفنان عبد الوهاب أبو السعود، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، ١٩٦٣، ص١٨-٢٢
[17] سعادة، وسام، مئوية «لبنان كبير»: ورشة التاريخ في مواجهة الأساطير الرسمية، القدس العربي، ٢٠١٩ https://www.alquds.co.uk/مئوية-لبنان-كبير-ورشة-التاريخ-في-موا/
[18] جريدة «جراب الكردي» عدد شهر آب، ١٩٢٩
[19] مرتديا بشم وبركيز مع حزام من القماش "شوتك" وجوارب طويلة حتى الركبة وعمامة ملفوفه حول طاقية.
[20] قمباز، بشت مقصب وعمامة.
[21] «حط بالخرج» التي تأسست على يد فخري البارودي الذي أصبح لاحقاً زعيماً وطنياً شعبياً. هنا يمكن النظر لأحد جوانب شخصية البارودي كمحرر و مدير فني لدورية فكاهية كباحث جاد عن مصادر إلهام لمشروعه الجديد و مطوّر لمحتويات نصية وبصرية خارج الصندوق يجد فيها حلولاً إبداعية تخول كتابها ورساميها من النقد اللاذع الساخر للسلطة ورجال الدين. فلقد صرّح البارودي: «حط بالخرج الدمشقية التي أصدرها في نيسان ۱۹۰۹ وكنتُ أحررها باللهجة العامية وكان لها ضجة في مختلف الأوساط ، ولما كنت أجهل أصول الصحف الفكاهية فقد استحضرت من القاهرة ما توصلت إليه من الجرائد الفكاهية الصادرة هناك» فرشوخ ، محمد أمین : أدب الفكاهة في لبنان، بيروت ١٩٨٩، ص: ٨١
[22] Al-Ḥawādith - Issues 2344-2356، Muʼassasat al-Ḥawādith lil-Ṣiḥāfah wa-al-Nashr. 2001، P: 50.
[23] زغير، فهد مسلم، الأوضاع العامة في لبنان وانعكاساتها على سوريا ١٩١٨-١٩٤٣، مجلة كلية الآداب، بغداد، ٢٠١٣ «لقد كان لسياسة فرنسا الاقتصادية في سوريا ومحاولاتها ربط الاقتصاد السوري بالاقتصاد الفرنسي وتدمير كل قطاعات الاقتصاد الزراعية والصناعية والتجارية، كل هذه السياسات خلقت الارضية المناسبة لقيام الثورة السورية» ص ٢٣١-٢٣٢ .