( آذار/مارس 2022، زار الكاتبُ الفنانَ محمد الرومي في منزله الريفيّ بڤالموندواه شمال باريس، حيث جرى بينهما لقاء استمرّ على مدار يومين، تناول سيرة الفنان وذكرياته وتجربته في الرسم والتصوير والسينما. تبع ذلك اللقاء الطويل لقاء آخر لتدقيق بعض التفاصيل، في شقّته بحي الباستيل في باريس، منتصف ديسمبر 2024.
هذه النصوص مقتطفة من القسم المخصص لمحمّد الرومي في كتاب غير منشور هو "قصر علي ذو الأربعة عشر باباً"، يشير عنوانه إلى قصر سحريّ في ترنيمة كردية للأطفال. وحدها المقاطع التي تخصّ سيرة الفنّان تبدأ بـ "يا محمّد"، معظمها منشور هنا. غير أنّ الكاتب، بعدما رأى جزء صغيراً من أعمال الفنان في التصوير الضوئي، تخيّل في بقية الكتاب سيراً أخرى لأناسٍ لم يلتقِ بهم قطّ في الجزيرة السورية، أو لم يوجدوا قطّ، مازجاً خيالاته وذكرياته الشخصية عن ذلك المكان بالوجوه والمشاهد في صور الرومي، المأخوذة منذ مطلع السبعينيات، وعلى امتداد أربعة عقود، في بادية سوريا وقرى الجزيرة وحوض الفرات).
-أمينة ووسيلة-
يا محمّد، كان بيت طفولتك في تل أبيض البيتَ الوحيد بطابقين وسقف من قرميد أحمر، يطلّ شمالاً على بساتين الرمان المسيّجة بالورد الجوري، وجنوباً إطلالته على ساحة القرية المحاطة بالدكاكين، وأحدها حانوت وانيس الأرمني الذي علّم أمّك أمينة العزف على العود. كنتم تتجمهرون عنده لتستمعوا على مذياعه، الوحيد في القرية، إلى المسرحيات الإذاعية.
لم تكن أمّك تتذكّر على وجه الدقّة اليوم أو الفصل أو السنة التي وُلدتَ فيها. شباط 1945 على الأرجح. كنت الهدية التي قدّمَتْها إلى خالتك فوزية لتتولّى تربيتك، وتعيش سنواتك الأولى في بيت جدّك. كان أبوك يرى المولود عطية من الله قد يستردّها متى يشاء، فإذا مات أطلقوا اسمه على المولود الذي يليه، إذا كان من نفس الجنس. أما أمك، بنت حلب، فغريبة عن مثل هذه التقاليد. كانت تمقت الرقابة التي يمارسها الناس بعضهم على بعض في القرى الصغيرة، وتحلم دوماً بالرجوع إلى مدينتها الأمّ.
كنت طفلاً صغيراً حين رأيت أمّك تتجهّز لاستقبال خالتها وسيلة، القادمة من إسطنبول. رتّبتم الطاولات والكراسي، غطّيتُموها بمناديل بيضاء كبيرة، أخرجتم صحون الضيوف من الخزانة، ولمّعتم الكؤوس. احتفلتم بزائرة الربيع على مرج أخضر عند عين العروس، منبع نهر البليخ.
قبل أن تلتقي وسيلة، كنتَ قد رأيتها في صورة فوتوغرافية على شاطئ مرمرة: امرأة في الستين بالبكيني، في يدها زجاجة، وعلى ما يقول المكتوب بخط اليد وراء الصورة، في الزجاجة رسالة سرّية سيسلمها البحر إلى الله.
-كرسي أمينة-
يا محمّد، طفلاً غادرتَ حلب التي وُلدت فيها، ثم عدتَ إليها مراهقاً، راجعاً من أرض الديار الواسعة في قريتك الأولى إلى عالم الشقق مرة أخرى. أخيراً، عدتُم إلى حلب، كما تمنّتْ أمّك دوماً. سكنتم في بناية الشمّاع بشارع الدولاب، شقة متواضعة من تسعين متراً، صالون ومنتفعات مع ثلاث غرف كلّها للنوم. الصالون هو نفسه غرفة المعيشة، مؤثَّث بكنبات تحاول اللحاق بالذوق البرجوازيّ السوريّ في الخمسينيات، والجدران مزيّنة بنسختين من لوحتين تصوّران الطبيعة السويسرية، وبالطبع التلفزيون الذي احتلّ صدر الأركان، ولم يكن يغمض له جفن. كان بيتاً مرناً تتغير وظائفه وفق شروط الحياة واستقبال الضيوف، باستثناء كرسيّ أمّك لا يُزحزَح من مطرحه. بعد وفاة أبيك أعطت غرفة نومها لزواج أخيك حميد، تلاه زواج أخيك وليد، ليُولَد أحفادها على سرير الحبّ نفسه، بعد خمسة أبناء وثلاث بنات، وأربعة إجهاضات لم ترها يوماً تبكي ذكراهم.
-الكوّاء حسين الشاوي-
يا محمد، سرعان ما استقللتَ عن بيت أهلك. لتأمين دخل صغير تسدّد به إيجار المنزل الذي استأجرته مع خالك، عملتَ لدى الكوّاء حسين الشاوي في الحيّ الحلبيّ "تحت القلعة"، خارج أوقات المدرسة، أنت المراهق ذو الأربعة عشر عاماً، الآتي للتوّ من تل أبيض، حيث كنت ترتدي الجلباب كأولاد البدو، ارتديتَه وحده في الصيف، مرتاحاً من دون أيّ لباس آخر تحته، حرّاً كأيّ طفل في براءة العري، لأن البناطيل تخنق أثمن ما لدى الذكَر، ثمرته وبذرته. في دكّان الكوّاء، مطلع الستينيات، اقتربت من الحزب الشيوعي السوري. زوّدكم، أنت ورفاقك من صبية الحيّ، بكتب عديدة بينها كراسات موريس توريز والبيان الشيوعي، وروايات ألبرتو مورافيا وألبر كامو. ثقّفكم حتى انتهيتُم إلى مصيدة الحزب الشيوعي السوري، المحظور وقتذاك. اعتنقتُم الماركسية أسلوب حياة يُخضِع كل شيء للمحاكمات العقلانية. رفاقك، البعيدون عن أي التزام يساريّ حقيقيّ والأقرب إلى "الفوضوية" في الواقع، سبقوك إلى وظائف الدولة، هم الذين أرسلوك على حسابهم إلى دمشق سنة 1963. خصصوا لك راتباً شهرياً يقتطعونه من رواتبهم عاماً كاملاً لتدرس الفنون الجميلة هناك، ريثما تعتمد على نفسك. ولمّا عثرتَ على شاغرٍ للتدريس بإحدى المدارس الابتدائية في السنة التالية، منعتك سلطة حزب البعث من العمل لأنك كنت طالباً شيوعياً. كان الشيوعيين ممنوعين في وظائف الجيش والتعليم.
عشتَ شبابك تقدّمياً وطبّاخاً ورث عن أمّه عشق الطبخ الحلبيّ وقدود صبري مدلّل. أقنعتَ زملاءك بالصعود إلى سطح كلية الفنون في شارع بغداد، حيث استلقيتُم عراة كالمستحمّين بضوء الشمس. ما دامت الموديلات العاريات يجلسن أمام الطلبة ليرسموهنّ داخل الكلية، فما المانع من التعرّي على سطحها؟ رآكم الجيران واستدعوا الشرطة.
-تحية إلى لينين-
سكنت مع اثنين من ظرفاء حلب في حي القزازين بدمشق أثناء الدراسة الجامعية. أحدهما مدرّس لغة إنكليزية، والآخر مدرّس علوم. حين اعتقلتك المخابرات، ذهبا معاً إلى بيت خالد بكداش في جسر النحاس ليخبرا زعيم الشيوعيين باعتقال رفيق من رفاقهم. اتفقت معهما على إخلاء البيت عند حاجة أي منكم إليه. قضى الاتفاق بشرط: صيامك مقابل أن يقرأ الحلبيان صحيفة الحزب الشيوعي السوري "نضال الشعب". كان البيت واسعاً قرب كلية الفنون، أربع غرف وصالون، تركوه لك لتنظّم فيه معرضاً جماعياً عنونتموه: "تحية إلى لينين". كان أحد المشاركين مازن صابوني الذي كان يفيق قبل الساعة الخامسة كل يوم ليذهب إلى الجامع الأموي ويؤدّي فيه صلاة الفجر. رفاقك الشيوعيون لم يغادروا البيت عند الساعة المتفق عليها، الثامنة مساء، فعاد المعلّمان فيما مجلسكم لا يزال عامراً بالدخان والكحول والثرثرات، وأنت تسأل سكرتير الحزب ضاحكاً:
-كم عدد أبناء الطبقة العاملة في سوريا؟
أسمعكم معلّم العلوم خطاباً صغيراً:
-أنا اشتراكي مثلكم. أنا مع لينين وستالين وتروتسكي وكلّ من تحبّون. يا أهلا وسهلا بالشباب.
تركتم أعمالكم الفنية بعد التخرّج في سقيفة صديق لكم سافر للعمل في ليبيا. وعند رجوعه في عطلة الصيف، رأى أن ضابطاً في الجيش يسكن البيت. زرتُماه لتستردّا اللوحات. قال له الضابط:
-احتفظتُ لك بكلّ أشيائك الأساسية- الكنبات والكراسي والطاولات... رأينا رسومات هنا وهناك وفي السقيفة. رميناها كلَّها إلى الزبالة.
-خزانة أمينة-
يا محمد، لم يستغرب أحد طقوس والدتك، إلا بعض زوارها كأميلي دوهاميل، زوجتك الفرنسية. كانت أمينة قد وهن بصرها، فإذا تلقّتْ هدية من أحد، تلمّستْ حقيبتها ونادت على مَن تراه من الحاضرين فتناوله مفتاح خزانتها، ليُخفي فيها الهدية دون أن تُفْتَح. أما إذا كانت الهدية حلوى فالمصائر شتّى، فإما أنْ تُوضَع العلبة تحت سريرها، أو أنْ تُفْتح على الفور وتبقى مفتوحة على طاولة غرفة الجلوس حتى تفرغ، أو أن تخبَّأ في خزانة الكنوز المقفلة، حتّى تبتّ في مصيرها لاحقاً، بجوار هدايا أخرى مصففة كودائع البنوك، من سكاكر الأطفال إلى زجاجات العطور التي كانت تكرم بها بناتها أو كنائنها، إضافة إلى النقود، المهداة والأخرى المخصصة لتدبير نفقات المنزل.
ربّتكم والدتكم على عدم إظهار مشاعركم، وعدم التسرّع في البوح بعواطفكم، فالثناء هو نجاتك من النقد، وعدم تعرُّضك للتوبيخ هو المديح. كنت ابنها البكر، والأعراف تضع مسؤولية العائلة على عاتقيك بعد وفاة أبيك. أحياناً، بعد قدومك من دمشق لزيارتها، كانت تنقضي ساعات حتى ترتسم على الوجوه معالمُ الترحيب. كنت تصل وكأنك لم تصِلْ بعد. غالباً ما كنتم تؤجّلون مشاعر اللقاء الحارّة إلى السهرة، حيث العشاء الفاخر كشيخ المحشي أو الكبّة السفرجلية، المشفوع بغناء أمك وموسيقاها ورقصها. لم يكن تبادل الأحاديث الطويلة الجدّية وارداً في بيت كبيتكم يموج بالصخب والزوّار في كل حين. كانت تدابير مصاعب الحياة هي الحديث الوحيد الجادّ تقريباً، ولهذا استغنيتُما عن النقاشات، أنت وأمّك، في لقاءاتكما المباشرة، تركتماها لأحاديثكما الهاتفية التي كانت منضبطة عادة، خالية من العواطف كاتّصالات العمل. احترمتك أمّك لأن علامة نجاحك كانت مقدرتك على تقديم النقود إليها بشكل منتظم، دون أن تكترث بما يرسله إخوتك إليها أيضاً، فهذا كله كالخير الذي ترسله السماء ليسقي حديقتها. كانت تتأنّق بين المتزمّتين في الحيّ، وبفضلها صمدت أخواتك السافرات أمام موجة الحجاب التي بدأت تطغى في حلب منذ مطلع السبعينيات، قبل أنْ تسحقها مذابح حافظ الأسد.
طعنت أمك في السنّ، ففقدتْ بصرها، وما عادت تسمع في سنيّها الأخيرة. خلعت الحربُ الملكةَ الضريرة عن عرشها في الصالون، وهجّرتها إلى بيت أخيك زياد. لم يفلح أيٌّ منكم من قبل في إغرائها بترف العيش لتغادر مملكتها. لم تقتنع قطّ بوجوب المغادرة. ظلّت تحاججكم وتحتجّ، لأنها لم ترَ دمار حيّها في حلب المقسومة إلى نصفين. لم تسمعْ دويّ الصواريخ والبراميل المتفجّرة التي أجبرتْ معظم الأهالي على الفرار. كان الحصول على جرعة ماء نظيف ولقمة طعام لسدّ الرمق قد تكلّف الإنسان حياته بطلقة قنّاص. اختنقوا كالمساجين في البرد والظلام والخراب، حتى قرروا الهروب إلى تركيا.
فكّرت بجمال أمّك حين سمعت نبأ وفاتها خريف 2018. كنت مفتوناً بفخذيها، مذ رأيتها وأنت صغير، عارية تمشي على العشب، حافية في باحة البيت، تنشر الغسيل بين أشجار الرمان. رافقتك الغيوم الرمادية الكثيفة في نافذة مقعدك، طوال الطيران من باريس إلى إسطنبول حيث أسلمَتِ الروح، وأنت ذاهب إلى مجلس العزاء، متأخراً عن دفنها في مدينة لا تعرفها. لا يزال جمالها يوجع قلبك.
-الفرات والزمن -
يا محمد، كان مدراء البعثات الأثرية الأجنبية في سوريا يزورون بعضهم بعضاً، ويتابعون حفريات زملائهم. زرت تل مرديخ بصحبة البروفسور أورتمان، مدير البعثة الألمانية التي كنت رسّامها الرئيس. عملت هناك، قرب سراقب، لثلاثة مواسم مع البعثة الإيطالية التي ترأسها باولو ماتييه. من قاع حفرة عمقها خمسة أمتار، ناداك صوت:
Rumi, guarda un po'!
ساندرو، المهندس المعماري، صعد درج الحفرة بضع خطوات وناولك صحناً. بُهت أورتمان، لأن الشابّ الإيطالي لم يلتزم القواعد الحذرة للتنقيب، لم يلتزم الأناة ومسح الغبار بالفرشاة. بضربة حظّ من إزميل صغير ظهر أمامه طرف صحن مطليّ بالذهب، مرصّع بثور إيبلا. كأن نظرة الأستاذ الألماني، المصدومة بتلك الضربة العشوائية، وضعت الطليان والسوريين في الكفّة نفسها من ميزان الفوضى. كان الباحثون في المعهد الألماني يتبعون مدرستين في التنقيب: إحداهما المدرسة النازية التي روّجت "علميّاً" قناعاتها بتخلُّف الساميين وبدائيّتهم، وكان البروفسور أورتمان خرّيجها. أما المدرسة الثانية "الإنسانية" فدافعت عن السامّيين بمطالبتها دوماً تقديم براهين ملموسة على التحضّر. في عدادها مدام شترومينغر التي اكتشفت في تل المفتاحين، على الضفة الغربية للفرات، شارعاً مزفّتاً منذ أربعة آلاف عام، معبّداً بالزفت الطبيعي المتوافر في جبل البشري، نُقِل إلى متحف پرغامون في برلين.
كان معظم العمّال في موقع تل مرديخ نساء، كانت إحداهن تعدّ لك فراشاً نظيفاً معطّراً ينتظرك عند حلول الليل، بعد نهار مرهق تحت الشمس والغبار. اكتشفتم مذبح معبد عشتار، وتماثيل الآلهة ذوات العيون الجاحظة، أحدها مثل بورتريه من العينين وحدهما. اكتشفتم مكتبة إيبلا التي كان بجانبها مدرسة، وفيها 15 ألف رقيم طيني من الكتب والقواميس القديمة، بالأبجدية المسمارية للغتين الأكادية والأوغاريتية. سُحرت بظهور درج القصر من تحت التراب، خشباً مطعّماً بالعاج. نُبِشتْ جرارٌ كثيرة، سليمة ومهشَّمة، عمرها خمسة آلاف عام. طُلب منك رسم الشظايا فقط. رسمتَ في شهر واحد عشر آلاف قطعة فخّار.
حين عيّنك أوليفييه رُووه مديراً تقنياً في معرض L'Eufrate e il tempo [الفرات والزمن] (ميلانو، 1993)، لمعاينة القطع التي استخرجتها البعثة الإيطالية في إيبلا، رأيتَ أنّ معظمها لم تصل إلى خزائن العصر البرونزي المبكّر في متحف حلب. خرجتْ من سوريا ولم تعُدْ، بحجة غرق المستودعات. بعضها بِيع قدّام عينيك. قد يُستعاد شيء منها ذات يوم، مثلما أعاد البنك الفرنسي تمثال "فارس الرقّة" إلى متحف دمشق الوطني بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ولكن أشياء لا تُحصى أخِذتْ ولم تُرَدّ. إحداها كسرة من إناء في متحف اللوفر، استخرجت في دورا أوروبوس على ضفاف الفرات قرب البوكمال. إنها قطعة خزف مرصّعة بزجاج أصفر، عمرها ثلاثة آلاف عام. لعلها الدليل الأول على تصنيع الزجاج الذي كان نادراً ثميناً وثقيلاً، ولهذا استخدم في التزيين والحليّ. الأرجح أنّ تقنية النفخ في الزجاج المصهور قد شهدت أولى بداياتها في فلسطين وسوريا قبل الميلاد ببضع سنين. شفّ الرمل بالنار وخفّ وزنه. في العهد العثماني، كان التجّار البنادقة يشترون كسارة الزجاج من دمشق لرخصها. هذا جزء صغير مما بحثت عنه في فيلمك عن "القزّازين" في الشام. ثمة قدح نبيذ من قصر عبّاسي بالرقة منذ ألف عام، نقشه: "اشرَبْ واطرَبْ. عُمِل بدمشق".
-زيارة إلى قرية الطفولة-
يا محمّد، أفرحتك الثورة السورية. خريف 2012، سافرت إلى أورفا في تركيا، لحضور تشييع ابن أخيك الذي استشهد في صفوف الجيش السوريّ الحرّ. بكيتَه وأحزنك موت أمله، ولم يمُتْ أملك برحيل بشّار الأسد. أدخلتك وحدات حماية الشعب الكردية، وقطعتَ الحدود. عدت إلى قريتك لمرة يتيمة، ففوجئت فيها بمؤتمر لـ "مكوّنات" الشعب السوري من أهاليها: عرباً وأكراداً وتركماناً وشراكس وسرياناً وأرمناً... فعلاً متنوّعون، كالمطبخ السوريّ.
رأيت أنّ تل أبيض قد أمست بلدة صغيرة. اجتزتَ ببضع خطوات الجسرَ الهائل لطفولتك على نهر البليخ. صغرتِ الأشياء حين كبرتَ، ولكنها لم تفقد سحرها. كان دريد آزي، جارك السرياني وصديق طفولتك، بارعاً في اصطياد دجاج الماء بالأحجار، قبل أن تنتقل عائلته إلى حي السريان بحلب. كنتم تسبحون نحو طريدتكم مشجوجة الرأس في الماء الضحل. كانت أمّه تزوركم مع إبريق عرق يقطّرونه في البيت، وأمّك تعدّ المازات.
مرة، صادفت كاهناً كاثوليكياً في أحد شوارع حلب. تعرّفتَ إلى وجهه، فاستوقفْتَه بالسؤال:
-أنت غابرييل بصمجي؟
-آه، محمد! هذا أنت!
لم يكن قد تغيّر كثيراً. كان والده مصلّح البوابير في القرية. قال مازحاً:
-انتخبوني رئيساً للسريان في حلب!
- ماذا أخذك إلى هذه المصلحة؟ وأين ذهبت أيام الزعرنة؟ أين اختفى صديقنا خليف الذي افتتح كرخانة للحمير؟
كان خليف يربط أتاناً في بستان كنيسة السريان، يفضّ المراهقون عذريتهم معها. تناقلتم عنه هذه الطرفة: يوم الحساب، يقف كل رجل على السراط المستقيم، ووراءه مصطفّاتٌ كلُّ النساء اللواتي نمن معه. ملاك المحاسبة يسجّل الأسماء واحداً واحداً ويستجوب الجميع. كل الطوابير تتقدّم إلا طابور البدوي، لأن وراءه رتلاً طويلاً من الجحاش.
أجابك غابرييل:
-تركتُ التجارة، وسافرت إلى إيطاليا سنتين لدراسة اللاهوت. كل قوّتي أستمدّها من اللاهوت. سأريك معجزة وأهديك إلى المسيحية! جئني بابنك وسأجعله يكلّمك وهو نائم.
صحبت ابنك ميّار إلى جلسة تنويم مغناطيسي في مكتب الكاهن، فكان سؤاله الأوّل:
-هل بلغت أو لا؟
-نعم.
-خسارة. راحت عليك. البلوغ يبطل السحر.
تتساءل: "نعيش ثمانين عاماً، كما قال حكماء الشعر الجاهلي، نكتوي بالنيران ونحترق، ثم ننطفئ. ما وزننا في عمر الزمان؟" فكّرت دوماً بأنّ الوقت سيُتاح لتنفّذ، على الأقل، بعضاً مما يلازمك من كلّ تلك المؤجَّلات، المزيد من الصور بالأبيض والأسود، الرجوع إلى الرسم... والآن، تأكّد لك بالتجربة الشخصية أنّ طريق الإنسان أهمّ من الوصول إلى أيّ هدف. في النهاية، لن توصل الطريق إلى شيء. المكان داخل رأسك، وكلما مشيت نحوه ابتعد أكثر.
-جنازة في الصحراء-
ترأست، يا محمّد، قسم التصوير الضوئي في الإدارة السياسية أثناء خدمتك العسكرية منتصف الثمانينيات. زاركم قائد القوى الجوية. كان "آدمياً" كما يُقال. كنيته حدّاد، شقيق الشاعرة دعد حدّاد على ما تظنّ. رآك وسألك عن أفكارك لتطوير التصوير في الثكنات، وشراء معدّات للتحميض والطباعة. زرته في مكتبه بالأركان العامة. وضع بين يديك أرشيفاً سرياً مهولاً تغطّي صوره كافّة مشتريات وزارة الدفاع السورية. كان يثق بوطنيّتك. اقترحت عليه التقاط صور سوريا من الجوّ، لمصلحة وزارة السياحة، مستلهماً الفكرة من روزنامة اسكندنافية عن الطبيعة رأيتها بالصدفة.
. تسرّحت بعد شهرين، وعدت إلى عملك في المعهد الفرنسي للدراسات العربية في أبو رمّانة، فأرسل إليك ثلاثة ضباط أدُّوا لك التحية العسكرية، لأنهم حسبوك ضابطاً فرنسياً متنكّراً بلباس مدني. سلّموك جوابه المكتوب "مع الموافقة"، برغم استنفار الجيش السوري في تلك الأيام. ترك لك حرية اختيار عدد الساعات ومواعيد الطيران، وكل ساعة منها باهظة التكاليف. داخل حوّامة عسكرية، حلقّت خمساً وثلاثين ساعة فوق سوريا- صوّرت الفرات من السماء، وجزيرة أرواد والجروف الكلسية للمدن الميتة والحقول الواسعة في سهل الغاب... حين حمّضتها وطبعتها بيديك، بدت لك الأراضي الخصبة مثل مرقعيات البدو، كأن الحقول خِرقٌ ملوّنة خيطتْ معاً. حننتَ إلى اللوحات اللا-تشخيصية التي كنت ترسمها في أوّل شبابك، وتمنيت لو كان لك مرسم تمضي فيه أوقاتاً أهدأ مع نفسك.
ذات يوم، استلمت من المعهد الفرنسي للآثار كليشيهات الصور الجوية التي التقطها مصوّرو الجيش الفرنسي لأراضي سوريا. تفحّصتها من أجل الطباعة، في الغرفة المظلمة، بمنزلك في حي العفيف. انتبهتَ إلى نقاط بيضاء نغشى إحدى الكليشيهات. حسبتها متآكلة بالعثّ أو الفطور. فكّرتَ بترميمها. وضعتها تحت مكبّرتك وتمعّنت، فرأيت جنازة بعيدة. كانت تلك النقاط أناساً يدفنون ميتاً في الصحراء.
-قلعة جبل سيس-
يا محمّد، حين التقطت صورك الجوية لبادية الشام، رأيتَ حول جبل سيس بحيراتٍ وسباخاً، منقّطة بالأسود والبنفسجي، فإذا أمطرتْ استخدمها البدو كخزّانات لمياه المواشي. تعتلي قمة الجبل الصغير قلعة شيّدها الأمويون في عهد الوليد بن عبد الملك، داخل فوّهة بركان خامد، سوّروها بالبازلت، وبنوا من حولها جوامع وبيوتاً. استغربت انتقاءهم مثل هذا المكان. منتصف الثمانينيات، في أواخر الربيع، خصص لك نورس الدقر، وزير السياحة، سيارة نيسان دفع رباعي للذهاب إلى هناك. أوشك الطريق الوعر يفجّر الدواليب، وأنت تقودها على مبعدة سنتمترات من الأحجار البركانية على الجانبين. للوصول إلى القلعة، كان عليك أولاً اجتيازُ تلك البحيرات الجافّة، قطر إحداها خمسة كيلومترات. انسابت السيارة فوقها كأنها مدارج المطارات. صعدت إلى القمة من أجل صور بانورامية للمراعي والوديان. عندما شارفت الشمس على المغيب، أحسست ببضع قطرات ماء على وجهك. بدأت تمطر. غيوم عملاقة، بنفسجية غامقة، التحمت وغطّت السماء. فجأة، انتبهت إلى أنك قد جئت وحدك إلى هذه البرية، وليس معك أيّ زوادة للطريق. لو لم تهرع، مسارعاً إلى الفرار، فلربما كنت قد بقيت هناك طوال حياتك. حياً أو ميتاً، لا تدري. غياض تلك البحيرات شرهة إلى المياه، لو انسكب فوقها برميل شربته فوراً، تاركاً وراءه جورة صغيرة. مرعوباً، تذكرتَ أنّ الجمال تغطس في تلك الرمال، فلا تستطيع فكاكاً حتى تبتلعها. من بعيد، تفرجت على المطر المدرار يمحو آثار العجلات وخطواتك.
-البريد المضمون-
يا محمّد، رأيتَ في خزائن متحف پرغامون جراراً كنتَ قد رسمتَ أختامها في تل حبّوبة. تذكرتَ بدوياً من هناك اسمه محمد مفتاح. كان منقّباً حيّرك بدقّة حدسه في الاستهداء إلى اللقى. تعلّمَ كتابة تقاريره الأثرية بالألمانية دون أن يدخل إلى أيّ جامعة.
كم جرّة صغيرة رسمت في تلك السنين، أفواهها مغلقة بالطين، ممهورةَ السدّادات، فخّارها ممزوج بشعر الماعز (قرويات في جبال الأنصارية استخدمن التقنية نفسها في صناعة الأواني حتى أواخر القرن العشرين، وربما حتى الآن).
اختفت الأختام الأسطوانية وبقيت دمغاتها: خروف، امرأة تمخض اللبن، رجلان يشربان خمراً من منقوع الشعير غالباً (رسمتَ هذا الختم الأخير مع البعثة الهولندية في حمام التركمان)... مرة، زاد لديك وقت عن المهلة المحدّدة لإنجاز الرسوم، فجعلتَ تحلّل الصور وترسم كروكيات للأختام مع أبعادها وأشكالها المحتملة، نشرت باسمك لاحقاً. في الألف الثالثة قبل الميلاد، كانت تلك الجرار الصغيرة تغلّف رسائل القدامى، بعد تسجيل معلوماتها على رقيم كبير. كانت الجرة تُكسَر عند وصول الرسالة، المكتوبة عادة على رقيم طيني، مثلما تهشَّم الجرّة عند قدمي عروس في أول الزفاف.
-الأرمنيّ-
يا محمّد، سكنت حارة الطنابر في حي الأكراد بدمشق، حيث عشت بين الشراكس والأكراد والفلسطينيين. كان جارك مساعداً في سرايا الدفاع مهمته تصليح السيارات، كلما رآك قال لك: "أدعو لكم بالنصر".
تنقّلت بين ستة عشر بيتاً في العاصمة، منذ وصولك إليها للمرة الأولى، ريثما اشتريت البيت الأخير الذي استأجرته أولاً، في حي العفيف، قرب جامع السليمي، حيث يرقد ابن عربي. كنت تصعد من بيتك جبل قاسيون إلى حي الأكراد، حيث ناعورة القيمري على نهر يزيد، وناعورة الجزري الذي سُحرت بأفكار ورسوم كتابه "علم الحيل" (المحفوظ في مكتبة برلين)، حتى أعددت عنه فيلماً صغيراً. فكرت هناك بفيلم لم تنجزه عن الرسوم الفلكية لابن الشاطر الدمشقي حول مركزية الشمس قبل كوبرنيكوس. تلك الحارات، "الشيخ محي الدين" وما حولها، عُمّرت بحجارة ومواد بناء من أربيل، وفيها قبر خاتون، ست الشام، أخت صلاح الدين الأيوبي. تعزّزت محبّتك للمعمار الأيّوبي بمعرفتك أن أجداد صلاح الدين من أكراد أرمينيا. العمارة في حيّك بنتُ كلّ العصور التي مرّت عليه. الماضي كلّه نائم في الحجر والطين إياهما. كنت ترى المقرنصات كمحارة سان جاك دو كومبوستيل، ثم لا تلبث أن تعود إلى المحارة الأولى. الرموز الأولى للأشياء جميلة أينما كانت.
غادرتَ دمشق في شباط/فبراير 2011 إلى غير رجعة حتى الآن، تاركاً المفاتيح عند جارك بيّاع النابلسية، وخزانة صورك في عهدته. لا يزال قلمك على طاولة مكتبك بجوار رسالةٍ لم تردّ عليها.
كم ساعة أنفقت في الغرفة المظلمة في بيتك الأخير، تحمّض أفلامك وتطبع صورك. أنت في الصنعة ابنُ حلب، ووارث تقاليد عن "أهل الكار" في أسواقها. لعشقك العمل اليدويّ وتقديرك لمحترفيه، لقّبك أصحابك "الأرمنيّ". أنت الملحد، أحببت أيقونة مريم العذراء التي رسمها مصوّر بارع مجهول، يُقال إنّه تلميذ رافائيلو، في كنيسة الأربعين شهيداً للأرمن الغريغوريين بحلب.
الأرمن حاضرون في حلب ودمشق منذ العهد المملوكي، والناجون من الإبادة تزوّجوا أعراقاً شتّى في المدن السورية وتغيرت أسماؤهم. وعندما استقلّت بلادهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، اختار رئيس دولتهم سوريا كأول بلد يزوره. ربما لشدّ ما أحببتَهم، وقعت على بدويّ ملثّم يحرس وحده قصر الحير الشرقيّ في الصحراء، فاجأك بالقول: "أنا الحارس الأرمني". رأيت معه القصر الأموي وحدائقه الواسعة- خمسة عشر كيلومتراً مربّعاً مسوّراً بالطوب. رأيتما معصرة زيت الزيتون والطاحونة، ونظاماً معقَّداً لجلب المياه من الكوم والقدير وتدمر، حيث شُقّت قنوات صخرية مسقوفة بالأحجار لأن الشمس تجفّف كل شيء هناك، ولن ترحم الماء.
في معرضك Contrast Syria(2016) عرضت صوراً كبيرة بالأبيض والأسود لحرفيين وأناس في سوق الحرامية وسوق المناخلية وحارة الطنابر بدمشق، لحدّادين وصنّاع أقفال في باب الحديد بحلب، عُلِّقتْ إلى جدران الدرج الصاعد من قاعات الپرغامون إلى متحف الفنون الإسلامية. أزعجك القول إنّ هؤلاء المجهولين هم المهمَّشون. أحياناً، التبسيط وجهٌ آخر للاستخفاف والتحقير. قلت هؤلاء هم الناس، في جمالهم وقبحهم وفقرهم وهوانهم وكرامتهم.
في متحف الفنون الإسلامية، قاعتان صغيرتان، قبل دخول قاعة المشتّى، تضمّ صناديقها الزجاجية أعمالاً ورقية، معروضة تحت إضاءة خافتة لكيلا تتأذّى هشاشة موادّها، كالمخطوطات الإسلامية الملوّنة والأيقونات التي لا يناسب حجمها الصغير جدران القاعات الواسعة. أفرغتَ تلك الصناديق الزجاجية، ووضعتَ داخلها قرابة عشرين صورة ملوّنة لنساءٍ ورجالٍ وأطفال من البدو في حوض الفرات والجزيرة السورية، التقطتها أثناء الثمانينيات والتسعينيات، وجميعها أكبر بقليل من قياس A4 . الناظر مرغم على الاقتراب ليراها. ظننتَ أن هذا القرب، في الضوء الخافت، قد يخلق نوعاً من الحميمية وتحفيز الخيال، ثم خشيتَ أنْ يراها الناظر، مرة أخرى، كبطاقات سياحية.
لاحقتَ لحظاتٍ سبق أن عشتها، لأنّك كنتَ تصوّر ذاكرتك، رسّاماً وراء الكاميرا تخجله رهافته، وتربكه لطافة كبريائه. المكان مادتك وذاكرتك. رأيتَ بالعين نفسها الصورةَ الفوتوغرافية واللوحة. كلتاهما تقولان شيئاً قديماً عبر الصمت، لأن الصور ترانا والكلمات تسمعنا. فنك، المنبثق من أصابعك وعينيك وجسدك كلّه، فعلٌ دائم ضدّ الألم الذي اجتاحنا، لكنّه لا يعوّض أي خسارة، بل يلملم بعضاً مما تبعثر من ذاكرتنا في الشتات الكبير عبر السنين. فنّك يتحدى المسافات الفظيعة التي فصلنا بها المجرمون عن مكاننا وعمّن نحب، فصلتنا عن العالم وعن أنفسنا، وفصلتنا، نحن السوريين، بعضنا عن بعض. فنّك ضد العنف الرهيب الذي اقتلعنا ولا يزال يمزّقنا. إنه، بتأملاته الهادئة، يتحدّى "نفاق الحضارات" التي تخفي أسوأ ما لديها، وتبرز أسوأ ما لدينا.
انتقلتَ بالصدفة من الرسم إلى التصوير الضوئي، بعدما التقطت صورة لأخويك وليد وزياد، جالسين إلى طاولة مقهى في تل أبيض، مطلع السبعينيات. استخدامك الفلاش لم يؤثّر على قوة تعبيرها. أذهلتك براءتها، فانعطفت بك إلى مهنتك الجديدة. سرعان ما بدأت العمل في التصوير، للمرة الأولى، بديلاً عن المصوّر الفرنسي جان دوفور الذي غيّبه المرض عن بعثة الآثار الفرنسية في تل مسكنة بحوض الفرات. بدّلت كاميرتك الأولى "هاسبلاد" بأخرى "لايكا" التي آثرتها طويلاً لحدّة عدساتها. في إحدى المرات، اتّصلت هاتفياً بمحل "ميزون دو لايكا" في بولفار بومارشيه بباريس، وأوصيتَهم على عدسة لم تعثر عليها في دمشق. حين ذهب ابنك ميار ليستلمها ويرسلها إليك، خصم له البائع 40 بالمائة من السعر، ولما استغرب، أجابه: "أنا أرمنيّ مولود في حلب، وأعرف أباك".
لا يجهل الناس ريادة الأرمن في التصوير الضوئي شرق المتوسط. الإخوة عبد الله أوّل من افتتحوا ستوديو تصوير في القسطنطينية منتصف القرن التاسع عشر، وأسّس البطرك أساي غرابديان أول مدرسة للتصوير في بلاد الشام، في القدس سنة 1857.
الكثير من البطاقات البريدية التي طبعها صديقك المصوّر الأرمنيّ ڤاهي شاهينيان لمناظر في سوريا كانت بعدستك. كان قد ورث المهنة عن أبيه، وانتقى للطباعة العديد من لقطاتك التي تداولها الناس:
جسر الكيلانية في حماة حيث نهر العاصي ساكنٌ كالمرآة (قبل تدمير جيش حافظ الأسد للمدينة، والتنكيل بأهلها في "أحداث حماة" 1982)، الملّاحات في الباردة والدوّارة قرب تدمر (قبل أن يدفن نظام الأسد تحت رمالها نفايات نووية قادمة من أوروبا، لأن الحضارة تدوير للنفايات أيضاً)، مغنّية أورنينا وقصر زمري ليم في ماري، حلبية وزلبية (الحصنان المتقابلان على ضفتي الفرات قرب دير الزور)، تماثيل الأسود في عين دارة، القناع الفضي من أوغاريت، قلعة شميميس، قلعة الرحبة، بيت غزالة وباب قنسرين في حلب، قصر ابن وردان...
من حقوقك كمصوّر لتلك الصور دفعت مصاريف دراسة ميّار للسينما في فرنسا، إلى جانب صور معاصر الزيتون القديمة في جبل سمعان التي بعتها لمتحف زيت الزيتون في جنوة الإيطالية، كما بعت صور دير مار موسى الحبشي في النبك إلى روزنامة الآثار الألمانية، واستخدمها الأب باولو دالوليو في شبابه ليقنع المموّلين الأوروبيين بترميم الدير. كان كفاحك صعباً دون عمل براتب ثابت.
قسوتَ على نفسك وأنت تحاول طوال السنين، عبر كل تجاربك في الفنّ، أنْ تصون البراءة المتواضعة للمخلوقات، لم تنطلق منها بل أردت العثور عليها، مشرقة بالفطنة والانتباه ورحابة الأحاسيس الرقيقة، تلك البراءة الغريبة عن صراعات معظم الفنانين للسيطرة على موضوعاتهم وإبراز فرادتهم ونزاعاتهم على الظفر بالأضواء. أنت من أهل الظلّ. تعلم أنّ التصوير هو فنّ انتظار الضوء، والمصوّر صيّاد الزمن، فإذا أتت اللحظة قبض شعاعها بعينه ويده وقلبه، مُسْرعاً لا مستعجلاً، لكيلا تضيع طزاجتها. الفن لحظة يتيمة لا بُدّ من دقة اختيارها. الدقّة، وليس ادّعاءات العفوية، أو حذلقات الشطارة. لم ترَ ضرورة لإثقال صدفة حصول الفنّ بالأفكار العظيمة، أو إفساد المتعة بالتنقيح والدراسات التي تشوّه جمالَ السطح المرئي بدعوى التوغّل نحو زيف الأعماق. تركتَ المعنى خفيفاً كالضوء في غرفة فارغة. تغيير طفيف يكفي لتنتعش الروح. كنت تعلم أين تقع صورك، فتعود إلى مواقعها في ساعات محدّدة، من الفجر إلى الغروب، بكلِّ شوقك إلى سحر الألوان، منتظراً وصول الضوء أو رحيله، مثلما كان اليزيديّ ينتظر أن يُنير الفجر أوّلَ صخرة على التلّ ليصعد نحوها بجلبابه الأبيض ويقبّلها، لأن القبلة صلاةُ شكره للشمس. ما أحنّ ضجر ذلك الانتظار، وما ألذّ تعب الصعود إلى ما تحبّ، حين ترى الضوء ينتشر، شيئاً فشيئاً، فوق السهول على جانبي الفرات، راسماً أمامك ملامحَ العالم.
-الساعاتيّ-
يا محمّد، لولا المرح انقلب ضجرُ الصابرين يأساً. تقول إنّ الحياة صفقت في وجهك أبواباً، وفتحت لك أبواباً أخرى.
قبل سنوات من تدشين المعهد التقاني للآثار والمتاحف في دمشق سنة 1986، درّستَ لمدة سنة واحدة تقنيات التنقيب الأثريّ في قسم التاريخ بكلية الآداب، ثم استلمت برقية بمنعك من التدريس مرة أخرى، للسبب نفسه: انتسابك إلى الحزب الشيوعي. حرمك المنع مما كنت تنفق به على عائلتيك، الصغيرة والكبيرة. كنت سعيداً بتدريس اثني عشر طالباً سلمتهم مفاتيح العمل. لا يزالون إلى اليوم أصدقاءك. حدّثتهم عن الرسّام حزقيال طوروس، أحد أساتذتك. مسقط رأسه بلدة خربوط، في تركيا الحالية، غير أنّ أهله نزحوا إلى حلب بعد مذابح سيفو بحقّ السريان. أثره باقٍ في روحك. حبّه الكبير للحيوانات والأسماك، لطبيعة سوريا وآثارها وحلب القديمة، دقته في العمل وعصاميته، هو من علّم نفسه بنفسه، وأقام أول معرض له سنة 1936 في دكّانه حيث كان يعمل مصلّحاً للساعات.
-التتار يحاصرون القلعة-
يا محمد، في الحفل التنكّري للحياة، المسلّي أو المخيف، صوّرتَ الكثير من الفساتين والجلابيب عبر أرجاء سوريا، وأعددت فيلماً عن صنّاع النسيج لاحتفالية "دمشق عاصمة الثقافة العربية". مرة، في قريتي زيدل وفيروزة بريف حمص، حيث رأيتَ مقبرة المسيحيين في قرية مسلمين، لأن الجزية التي فرضها العثمانيون على قرى النصارى أجبرت أهالي فيروزة على الانتقال إلى جارتها زيدل، ولكنهم لم ينقلوا موتاهم معهم. مرة أخرى، كنت في الرصافة لتصوير معابدها، جامع هشام وكنيسة الشهداء (مرقد سرجيوس شفيع النصارى العرب) والكنيس، حين وصلتْ حافلات من الآشوريين واليزيديين، بألبستهم التقليدية وخناجرهم. وقفوا عند السور المجصّص، وصوّرتهم في الهواء الطلق.
أنت من صمّمت أزياء الممثلين في مسرحية سعد الله ونوس "منمنمات تاريخية". عُرِضت في قلعة دمشق، سنة رحيل كاتبها 1997. طابقَتِ المخرجة نائلة الأطرش بين الواقع والفن والتاريخ، فاختارت أن تُقام خشبة المسرحية داخل المكان نفسه الذي تدور فيه معظم أحداثها، حين يحاصر تيمورلنك المدينة، محرقاً الكتب وزاجّاً بأصحاب العقول في سجن القلعة، فتقول الجارية ريحانة: "كلهم تتار، وأنا وأنت غريبان".
عدتَ إلى أرشيف صورك القديمة والمنمنمات المغولية. انطلقتَ منها إلى تخيل التصاميم التي استغرق رسمها عملاً مضنياً. لا تزال محتفظاً بالرسوم في باريس. استفدت من "القطشية" في حماة، و "المملوك" لدى الدروز، و "العرجة" في حوران...
اشتريت الأقمشة من أسواق دمشق القديمة: حريراً وكتاناً وجوخاً وقطناً وصوفاً. كلُّها من سوريا، كالحرير مثلاً. كانت ديدان القز تربّى في مزارع التوت الأبيض بمشتى الحلو، وتُفصل شرانقها في المخانق وتُغزَل الخيطان في حمص، ثم تُباع أخيراً إلى ورشات حلب للنسيج والطباعة على الحرير. نفّذتَ نماذج التترونات بيديك، وتابعت بقية العمل بنفسك حتى تذمّر الخيّاط، إذْ كلّما انحرفت الدرزة ملمتراً أو اثنين أعدتَ الخياطة. أكثر من مرة، أعدتَ تصميم قفطان ابن خلدون. حاولت أنْ تخفّف بجمال الألبسة وألوانها من أثقال الفصاحة والأفكار الكبرى والثورات والهزائم والإسقاطات التاريخية التي يعجُّ بها نصُّ المسرحية. الحصة السورية من قلاقل التاريخ كبيرة حقاً.
انتهى العرض الطويل في ليلة من ليالي تموز. غادر الممثلون بملابس المسرحية، ولم يرجعوها إليك.