تخيّل مساحة يمكن أن يجتمع فيها الفنانون، يتبادلون الأفكار ويضعون جانباً حب الذات والتنافس. تخيّل فسحةً تكون فيها أسئلة مثل "ماذا لو لم أستطع بيع هذا العمل؟" و " هل بإمكاني فعلاً التركيز على ما أريد عمله؟" لا تعبّر عن مشاكل. تخيّل فسحةً يستطيع الفنانون داخلها الاستسلام للإبداع الصافي بلا حدود، واثقين بأنهم سيتشاركون في كل ثمار عملهم بالتساوي بينهم. كانت تلك بالضبط أخلاقيات مشروع النوم مع العدو، الذي أنشأه الفنان السوري سمعان خوام مع الفنان اللبناني فادي الشمعة. عمل الفنانان مع الفنان السوري غيلان صفدي في الورشة الأولى ومع الفنانة اللبنانية سارة شعّار في الورشة الثانية. حتى يومنا هذا، حقّقت المبادرة نجاحاً باهراً. تتحدّث مجلة الأتاسي إلى خوام لمعرفة المزيد
بلهجته اللبنانية، من الصعب معرفة أن سمعان خوام من أصل سوري. في البداية انتقل إلى بيروت عام ١٩٨٨م و لأكثر من ثلاثين عام ، اعتبر أن عاصمة لبنان هي موطنه ولم يغادرها إلّا لوقت قصير في عام ٢٠٠٦م . التقى سمعان بالرسام اللبناني فادي الشمعة عام ٢٠١٠م، وسجّل ذلك اللقاء بداية للعديد من أوجه التعاون بينهما، إذ أنهما كانا يعملان معاً في استديو خوّام. خلال فترة الربيع العربي، فتح خوّام أبواب الاستديو الخاص به لجميع المبدعين السوريين المسافرين عبر بيروت ، عبارة عن مساحة صناعية فسيحة في منطقة الدورة في بيروت. كان الجميع موضع ترحيب، فنانون و شعراء و صنّاع سينما وإعلاميين. يقول خوام «كانوا يبقون هنا إما لبضعة أيام أو حتى لسنة»
بفضل المقدرة على إعادة التواصل مع سوريا، من خلال هذه التجربة والعمل جنباً إلى جنب مع الكثير من المبدعين والمثقفين من كافة مسارات الحياة، تولّدت بذرة. ولكن بعد مرور أربع سنوات، وُلِدت الحاجة إلى الوحدة، خاصة بعد أن اصبح الاستديو مثل خانٍ لعبور المسافرين. أقفل خوّام الاستديو عام ٢٠١٦م مؤقتاً ، وذهب مع فادي الشمعة إلى منطقة جبلية لرغبتهما بإلالتزام بإقامة يتمكنان خلالها من التركيز كلّ على عمله الخاص ، بالإضافة إلى التفكّر في الاضطرابات السياسية والعاطفية والاجتماعية الكثيرة في السنوات الأخيرة. في ذلك المكان، ابتكرا بيانهما الفني وعنوانه «هيمنة الجماليات». يبدأ البيان كالتالي : «يستطيع عالمان مختلفان أن يسعيا ويزدهرا في نفس المساحة المحدودة.» لقد أفضى هذا البيان بدوره إلى ولادة «النوم مع العدو»، وهو مشروع فنّي شارك فيه خوام والشمعة ويتضمن دعوة فنان ثالث للانضمام إليهما من أجل إقامة فنية في فضاء صالة عرض، بحيث يتعاون الفنانون الثلاثة ويتبادلون الأفكار والتقنيات. والأهم من هذا، أن يتم تسعير كل الأعمال بالتساوي وتقاسم الأرباح بالتساوي. وكانت النتيجة ثورية كما شرح خوام
كيف وُلِد مشروع «النوم مع العدو»؟
أثناء استضافتي لأبناء الجالية السورية في الاستديو، تلقيّت أشخاصاً من عوالم شديدة الاختلاف، توجهات مختلفة وخلفيات سياسية مختلفة. لم أكن أوافق دائماً على كل خياراتهم السياسية أو الدينية، لكن القاسم المشترك بيننا كان الفن. عندما أخذت إجازة التفرّغ لمدة سنة وأنشأت مع فادي بيان «هيمنة الجماليات» ، كنّا نفكّر كثيراً بالشيء الذي يجمعنا ولماذا لا نركّز عليه أكثر؟ كيف يمكن أن يساعدنا هذا مادياً وإبداعياً نحن كفنّانين ؟
من هو "العدو" في هذه المعادلة؟
نحن! كل منا هو العدو اللدود لنفسه، ولهذا يفشل المجتمع. أنا ناشط منذ ثلاثين عاماً ولم أكسب معركة واحدة أبدأً. إذا لم تنفتح على غيرك وعلى التغيير، أو لم تكن مستعداً لإجراء التغيير وتوسيع رؤيتك، عندها لا يعاني المجتمع ككل فحسب، بل تعاني أنت أيضاً. لدينا الكثير من المشاكل لأننا نحارب بعضنا البعض كما نحارب أنفسنا. هل أنا أفضل من ذلك الشخص؟ هل أستحق أكثر منه؟ والقائمة تطول.
كيف يعمل " النوم مع العدو" على المستوى العملي؟
يقضي ثلاثة فنانون (أنا وفادي وثالث ندعوه للانضمام إلينا) ثلاثة أسابيع نعمل خلالها ثماني ساعات في اليوم (غير قابلة للتفاوض) لإنتاج عمل جديد. يكون ثمن العمل الفني هو نفسه لكل من المشاركين الثلاثة وتُقسَم عائدات بيع الأعمال بالتساوي بين الثلاثة. نضمن هكذا شبكة أمان ونقضي على المنافسة. من الآن ولعشر سنوات قادمة، إذا باع أي منا عملاً تم إنتاجه خلال وقتنا معاً، يتم أيضاً تقسيم العائدات، إنه ميدان لعب بالتساوي. وكما قال غيلان « هذا يتحدّاك أن تقتل حب الذات»
ما هي أهمية هذا الأمر بالنسبة لكم جميعاً؟
في لبنان، ليس هناك أنظمة ضمان اجتماعي للفنانين ، وبشكل خاص إذا كنت فناناً عصامياً، يقع العبء عليك إذا تعرّضت لمشكلة صحية، فيجب أن تدفع كل التكاليف من جيبك الخاص. لا نملك تأميناً صحياً ولا راتب تقاعد. ولقد تبيّن أن الفنانين اللبنانيين والسوريين المقيمين في لبنان يعانون من المشكلة ذاتها، ليس لديهم شبكة أمان، ونحن نواجه عدم الأمان ذاته. شرح غيلان، الذي قدم إلى لبنان منذ ست سنوات فقط، الأمر بوضوح عندما قال « أن تبدأ في بلدٍ جديد هو أمر صعب دائماً وخصوصاً إذا كنت قادماً من بلد في حالة حرب، وبشكل خاص لأن بيروت مدينة مُكلفة.»
من الصعب أن لا تشعر بأنك دوماً في تنافس مع زميلك الفنان للحصول على قطعة من الكعكة ..
نعم، النوم مع العدو موضوعه العمل معاً وخرق النظام الذي يحرّضنا ضد بعضنا البعض، مثل المتنافسين الذي يتحاربون من أجل العرض في صالة أو أمام مقتنيّ الأعمال الفنية. نفسح المجال لكي ينجح الإبداع ونبعد عبء القلق المادي
أخبرنا عن النسخة الأولى «النوم مع العدو: واحد» والتي أسميتها «التضامن بين الفنانين اللبنانيين والسوريين»
في أول إصدار لـ «النوم مع العدو»، تم التركيز على التعاون مع فنان يسعى جاهداً لكي يستمر (مثلنا). ممارسته للرسم غنية بما فيه الكفاية ويملك الشجاعة ليغامر خارج نطاق راحته. ولكَوني سورياً وأسكن في بيروت، وضعي كمقيم/أجنبي يضاعف أهمية الموضوع. لكن غيلان، وهو جديد هنا، يشعر بهذا الوضع بشدة أكثر ، ربما، «تتميّز سوريا بتاريخ رائع، من تدمر وصولاً إلى المتاحف التاريخية والفن المعاصر و الشعر وما هو أبعد. من الصعب جداً مشاهدة هذا الدمار الذي خلّفته الحرب. البدء من جديد كفنان كان صعباً جداً. والشعور بأن الآخرين لا يفهمونك ولا يفهمون تجربتك، هو شعور بالغربة.» أنا أوافق معه كلياً. لقد تجاوب بعمله وشخصيته معنا، ونحن كنا نعرفه بالفعل من قبلً. كانت النتيجة واحداً وعشرين يوماً من العمل المكثّف و المدهش داخل صالة «كاف» للفن المعاصر ، مصحوباً بليالٍ موسيقية و قراءة للشعر. أعتقد أنني وفادي متفقان تماماً على الطريقة التي وصف بها غيلان المشروع: «عقول مختلفة وأساليب مختلفة ، لكن شيئاً مميزاً يجمعنا، ألا وهو الصداقة والاحترام.»
كيف كانت ردة فعل الجمهور؟
كان شيئاً لا يُصدّق. في الحقيقة لم ننتظر حضوراً بهذا الحجم. يبدو أن الناس تماهوا مع الفكرة. وبما أننا نفذّنا العمل على ورق، كان السعر معقولاً. قال لنا الناس أنهم ينظرون إلى الأعمال الفنية على أنها غالية الثمن وصعبة المنال. لم يكن المعرض على مثال معرض مكعّب أبيض مصمم خصيصاً للترهيب. فقد أعددناه على شكل الاستوديو (هو فعلا الاستوديو الخاص بنا مع أنه داخل مساحة المعرض). وضعنا أعمالنا على الطاولات و الأرض ، بحيث يختار الناس ما يريدون وكان الأمر بهذه السهولة، مساواة حقيقية.
هل كان هناك تحديات أو تعديلات بالنسبة لعملكم معاً بتلك الطريقة؟
بالتأكيد ، في البداية، عملنا ببساطة بنفس الطريقة التي نعمل بها عادة. .بعد مرور الأسبوع الأول، توقفنا، ووضعنا كل أعمالنا على الأرض، أخذنا خطوة إلى الوراء وأدركنا عندها أننا لم نُنتج أي جديد. إذا كان كل ما نستطيع إنتاجه هو ما ننتجه في العادة، يُعتبر ذلك فشلاً من الناحية الفنية، أين التطور؟ غيلان قال: « يحتاج الفن إلى أن يتحداه شيء جديد، ومشروع كهذا ليس معرضا فنياً وحسب بل حركة اجتماعية. عندما يتعاون الفنانون مع بعضهم البعض، يجعلون فنّهم أفضل وقد يؤدي إلى شيء سحري.» قمنا بتغيير الألوان والأساليب التي نعمل بها وكان من المدهش أن نرى أشياءً جديدة في عملنا ، لغة جديدة، مواضيع جديدة. نفّذنا أكثر من خمسمئة عمل على الورق، بِيع منها حوالي مئتي عمل. أعلم أن النتائج بعيدة المدى ، غيلان مثلاً، يدمج في عمله بعض الأفكار والتقنيات التي استخدمناها
ما الذي أعجبك في عملكم معاً؟
يثير اهتمامي هذا الأسلوب من جو العمل الجماعي. يمكنك أن تتعلّم أو تستوحي من طاقة فنانين آخرين وفكرهم. كما باستطاعتنا طرح الأسئلة على بعضنا البعض والبقاء على اتصال مباشر مع الناس الذين يحبون أو لا يحبون عملنا. يمكنك خرق القوانين ووضع قوانين جديدة. يصفها فادي «بالغزارة والوفرة، وكأن أبواباً سرّية قد فُتحت.» وأنا أوافق
ما نوع القضايا التي تأمل أن يكون هذا المشروع قد ألقى الضوء عليها حتى الآن، على مستوى أوسع؟
أعتقد أن فادي قد عبّر عنها بالفعل أثناء مناقشاتنا حول هذا الشأن. لذلك، سأدعه يعلّق على هذا الموضوع : «إن عدو الفنان، بالدرجة الأولى هو نفسه ولكنه أيضاً الثقافة العربية/الشرق أوسطية الأوسع، فنان مقابل فنان، سوري مقابل لبناني، رجل مقابل امرأة، مثلي الجنس مقابل غير المثلي، تصويري مقابل مفاهيمي، حكومة مقابل شعب، غني مقابل فقير، الأمل مقابل اليأس، والقائمة تطول. عندما نحدّد اختلافاتنا ومن ثم نتقبّلها ونتقبل حقيقتها، وندرك أنه مهما كانت هذه الاختلافات فنحن لا نزال نسافر في نفس المركب (أو السرير) والطريقة الوحيدة للوصول إلى بر الأمان هي أن نستخدم هذه الاختلافات للعمل معاً نحو هدف مشترك»
إذا أردت أن تقرأ المزيد عن النوم مع العدو، ومشاريعهم حتى الآن وتظل على اطّلاع بإنتاجاتهم القادمة ودعمهم، يرجى زيارة
نبذة عن الفنانين
فادي الشمعة
وُلد في بيروت عام ١٩٦٠م. فادي الشمعة فنان علّم نفسه بنفسِه، هو فنان معاصر يرسم لوحات تجريدية ومكان إقامته بعبدات. يرى الشمعة عمله مستلهماً من الطبيعة بعيدة المنال لمفهوم ما بعد الهوية. يجمع فادي بين الطبيعة المرحة والمطاردة النهمة لكل ما هو جديد، ويخلق إجراءات جديدة لكل سلسلة من أعماله حيث يتقارب المجرّد مع الواقع، المعلوم مع المجهول والعاقل مع المجنون. عمله المتميّز يجذب المُشاهد إلى حقيقة بديهية
سمعان خوّام
ولد في دمشق عام ١٩٧٤م، سمعان خوام يعيش ويعمل في بيروت. هو فنان متعدد التخصصات، علّم نفسه بنفسه، فهو رسّام، نحّات، فنان في الرسم على الجدران والتركيب . يستمد أفكاره من الواقع اليومي للمدينة التي يقيم فيها. يستخدم عمله للفت الانتباه إلى التناقضات السياسية و الظلم الاجتماعي و عدم تقدير الثقافة وحقائق أخرى مؤلمة. في مطلع عام ٢٠١٢م، رسم بواسطة البخاخ جندياً مسلحاً على حائط في منطقة الجمّيزة لتذكير الناس بالحرب الأهلية اللبنانية إذ كان يشعر أنها أصبحت طيّ النسيان. أثار اعتقاله إثر قيامه بهذا الفعل اهتماماً على الصعيد الدولي بشأن وضع القيود على حرية الكلام والتعبير الفني اللذين يمارسهما خوام وفنانون آخرون لبنانيون. عن غير قصد، قد أدى ذلك إلى تعزيز رسائله السابقة. منذ ذلك الحين، نُزعت صفة التجريم عن الرسم والكتابة على الجدران. و بالإضافة إلى كونِه فناناً بصرياً، فهو ممثل و مخرج و مصمّم أكسسوار للمسرح والسينما ، و شاعر وكاتب له إصدارات عالمية. عرضت أعماله الفنية في لبنان وأوروبا
غيلان صفدي
ولد في السويداء في سوريا عام ١٩٧٧م. تخرّج من قسم الرسم والتصوير في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام ٢٠٠٢م . أقام معارض فردية وشارك في معارض جماعية في بيروت و السويداء ودمشق. تتنوع مهارات الصفدي بين الحفر إلى المطبوعات وتصميم شخصيات مسرح الظل. صمّم شخصيات استخدمت في العمل الأدائي «خزرير» في دمشق عام ٢٠٠٥م. في عام ٢٠٠٨ أسس صفدي «القمّة» وهو معهد متخصص في تعليم المسرح والفن للأولاد في مسقط رأسه، السويداء