الحركة الفنية التشكيلية في سورية منذ عام 2011

ما هي تأثيرات الحدث السياسي والإجتماعي التي تعيشه سورية منذ عام 2011 على الفن التشكيلي السوري ؟ وما هي التغيرات التي طاولت المشهد الفني الإبداعي خلال هذه السنوات؟ وهل يمكن تحديد محاور أساسية ممكن من خلالها دراسة واستكشاف واقع الحال الفني؟ يحاول الكاتب في هذا النص استعراض التغيرات الواقعة على المشهد الفني التشكيلي السوري، ويقترح المعايير التي يمكن اعتمادها في عملية استكشافه وتقييمه، بالإضافة إلى سبر للسياقات المتنوعة، وغالباً، المتناقضة، في مجال الكتابة النقدية عن الفن التشكيلي السوري المعاصر.

 

المقدمة

يستعرض هذا النص واقع الحركة الفنية التشكيلية في سورية منذ عام 2011. ولأن هذا الواقع يمتدّ على مدار تسع سنوات، وأن التغيرات والتحولات والتجارب التي عاشتها الحركة التشكيلية السورية خلال تلك السنوات كثيفة وعديدة، يحدد نصنّا أربعة محاور يعتبرها أساسية في رصد وتقييم الحركة الفنية التشكيلية السورية، سنستعرضها تباعاً، وصولاً إلى استنتاجات حيالها تُلخص نظرتنا.

في المحور الأول الصالات الفنية والمراكز الثقافية، يقدّم النص إحصائية تقريبية عن عدد المعارض التشكيلية والصالات الفنية في سورية في عام 2011 تحديداً، ليرصد من بعدها التحولات الطارئة منذ أحداث ذلك العام. ومن أهم الظواهر المتعلقة بهذا المجال، غياب صالات العرض الفنية التابعة لبعض المراكز الثقافية الأجنبية التي أغلقت أبوابها في سورية. ومن ثم ينتقل إلى توقف بعض من أبرز الصالات الفنية الخاصة عن النشاط والفاعلية. ومن بعد، يلحظ النص ظهور صالات للعرض داخل المقاهي والمطاعم، وأخيراً يتطرق النص إلى الصالات الحكومية الرسمية، وإنشاء المركز الوطني للفنون البصرية، بالاستعانة بورقة بحثية جديدة صادرة عنه.

في المحور الثاني يتابع النص الفعاليات والأنشطة الفنية التشكيلية الرسمية التي تقام حالياً في سورية، فيتطرق إلى إنشاء جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية للفنون، ويستعرض أبرز الفعاليات والمتلقيات الفنية التشكيلية الحكومية-الرسمية القائمة في سورية، ومن ثم، وعبر الاستعانة بمقالة نقدية، يرصد أبرز الإشكاليات التي تعاني منها هذه الفعاليات والأنشطة الفنية التشكيلية الرسمية.

في المحور الثالث أسماء نقدية وفنية راحلة، يمرّ النص عابراً على أبرز الأسماء النقدية والأقلام البحثية في مجال الفن التشكيلي قبل عام ٢٠١١، وكذلك على أبرز التجارب الفنية التي غيبها الموت خلال السنوات الماضية.

المحور الرابع المستوى الإبداعي والإشكاليات النقدية، هو أوسع محاور النص، وهنا لا يلتزم النص بالإنتاج التشكيلي داخل سورية فقط، بل يتوسع لغاية التقييم والبحث النقدي عن مجمل الإنتاج التشكيلي في الحركة الفنية السورية المعاصرة. وللوصول إلى ذلك، يستعرض النص مجموعة من الدراسات والمقالات النقدية التي تتعارض في رؤيتها لتقييم المستوى الإبداعي والفني في الإنتاج التشكيلي السوري، ليكتشف وجود تيارين نقديين الأول يرى جموداً وخواءً في الحركة التشكيلية السورية المعاصرة، والآخر يُبرز الجوانب الابتكارية والإبداعية الجديدة في هذه الحركة التشكيلية نفسها.

الحركة الفنية التشكيلية في سورية منذ عام 2011 - Features - Atassi Foundation

المركز الثقافي الفرنسي في دمشق


 

 

أولاً: الصالات الفنية والمراكز الثقافية

تذكر أعداد مجلة الحياة التشكيلية (١) ما يقارب ال 150 معرضاً أقيمت في سورية في عام 2011، موزعة على كامل المدن السورية، ومقسمة على 45 صالة عرض فنية حكومية، أو خاصة، أو تلك المُقامة في المواقع التراثية والأثرية، وفي المراكز الثقافية العربية والأجنبية. توضح لنا بعض الأرقام الصالات الأكثر فعالية مثل: صالة المركز الثقافي العربي (٢) -أبو رمانة، وصالة المركز الثقافي الروسي-دمشق (10 معارض). وصالة الشعب للفنون الجميلة (9 معارض). وصالة المركز الثقافي الفرنسي-دمشق، صالة المعارض في المركز الثقافي الألماني غوته-دمشق، صالة بيت الفن آرت هاوس بمعدل (8 معارض لكل منها).

الصالات الفنية التابعة للمراكز الثقافية الأجنبية

انطلاقاً من متابعة واقع الصالات المختصة في الفن التشكيلي يمكن تقييم الضرر الناجم عن خسارة الحركة التشكيلية السورية بعضاً من أهم الصالات التي كانت فاعلة ومؤثرة في المشهد الفني السوري، وبالأخص منها تلك الخاصة بالمراكز الثقافية الأجنبية في سورية. فمع توقف هذه المراكز عن العمل داخل سورية توقفت أنشطتها الفنية وأغلقت صالاتها المختصة، ومن أبرزها صالة المركز الثقافي الفرنسي-دمشق الذي عُرف بفاعليته وإسهامه المميز في الحركة الفنية، وكذلك صالة المركز الثقافي الألماني غوته-دمشق. كما توقفت صالات مراكز ثقافية أخرى مثل المركز الثقافي البريطاني-دمشق، والبيت الثقافي الدنماركي، اللذان كانا أقل فاعلية وتأثيراً.

الحركة الفنية التشكيلية في سورية منذ عام 2011 - Features - Atassi Foundation

مظهر خارجي لغاليري أتاسي في دمشق

الصالات الفنية الخاصة

على مستوى الصالات الفنية الخاصة، شهدت دمشق توقف اثنتين من أبرز الصالات الخاصة، والمشهود لهما المساهمة في تاريخ الحركة الفنية السورية، وصناعة الحدث الفني، وهي: صالة أتاسي وصالة أيام (٣) . ولا ينحصر أثر توقف هاتين الصالتين على انخفاض عدد المعارض وحسب، وإنما أيضاً خسارة أفكار ومشاريع معارض متميزة على مستوى الموضوعات، وعلى مستوى التصميم الفني في ابتكار مفاهيم المعارض.

صالات المقاهي والمطاعم

في المقابل، شهدنا ظهور عدد من الصالات المرفقة بفضاءات المطاعم والمقاهي، فتكاثرت الصالات الفنية الملحقة بالمقاهي مثل: (نينار آرت كافيه، شام محل كافيه، ناي آرت كافيه). ويتطلب تقييم مستوى الفعاليات الفنية في هذه الصالات التعرف على الفضاء المكاني، وصلاحيته لتقديم الأعمال الفنية، وممارسات المتلقي والزائر فيها للمعرض، بالإضافة إلى سوية الأعمال والتجارب الفنية المختارة من قبل القائمين على هذه الصالات. 

الحركة الفنية التشكيلية في سورية منذ عام 2011 - Features - Atassi Foundation

المركز الوطني للفنون البصرية

المركز الوطني للفنون البصرية

خلال السنوات الماضية، سعت الصالات الحكومية لتحقيق استمرارية فاعليتها الفنية، منها: صالة الشعب، صالة تشرين للفنون الجميلة-حلب، خان أسعد باشا-دمشق، صالة دار الأوبرا للثقافة والفنون، وغيرها من الصالات الرسمية التي نلحظ إصرارها ومثابرتها على متابعة فعالياتها وأنشطتها. فتتضح إرادة المسؤولين الثقافيين الحكوميين من خلال الحفاظ على عمل هذه الصالات لتعويض النقص الحاصل من فقدان أو توقف عمل الصالات المذكورة آنفاً. 

ولذا، سعت الحكومة إلى إيجاد أماكن عرض جديدة، من أبرزها المركز الوطني للفنون البصرية-دمشق الذي افتُتح في عام 2015. المشروع الذي نتعرف على أهدافه مثلما يوضّحها مدير المركز غياث الأخرس في الكلمة الافتتاحية: "إحياء حركة الفن التشكيلي الإبداعي وتفعليها بما يتماشى مع إيقاع الألفية الثالثة والتواصل مع الحركات التشكيلية العربية والعالمية" (٤) . حظي الافتتاح باهتمام رسمي لافت، وتغطية إعلامية وحضور فني واسع، ورافق الافتتاح معرض استعادي لأبرز رواد الحركة التشكيلية السورية، وقد كتبت د. ناديا خوست في البيان المرافق للمعرض: "هذا المشروع استراتيجيته الثقافية واسعة وشاملة وسباقة في المنطقة، وذات أفق عربي وعالمي، هذا يعني أننا جزء من وطن عربي، وجزء من عالم نتأثر به ويفترض أن نثبت مكاننا فيه" (٥) .

يتبين من ذلك أن لدى الحكومة السورية رغبة بإنشاء وتعزيز دور مركز للفنون البصرية أملاً بأن يحقق صدى على مستوى المنطقة، وأن يكون جسر وصل بين سورية والعالم العربي والعالمي. لكن الناقد (عمار المأمون) وفي بحثه المعنون "المركز الوطني للفنون البصرية: العالمية، السخرة وقيمة الفن الوطني"، يحلل آليات عمل المركز ويطرح الكثير من الأسئلة حوله بدءاً من التصميم الهندسي للبناء والبنى التحتية، إلى أنواع اللوحات والأعمال الفنية المعروضة والمقتناة، وصولاً إلى الإدارة (٦) وطريقة التعامل مع الفنانين، ليصل في بحثه لخلاصات تشير إلى أن الأعمال الفنية المختارة ونشاطات المركز بالمجمل تخضع إلى رقابة الخطاب الرسمي الحكومي، فيكتب: "فالوسطاء الذين يضبطون مراحل تلقي العمل الفنّي، تابعون للمؤسسة الرسميّة، ذات المعايير السياسيّة، كما أن نظام الموافقات اللاحقة على عملية "إنتاج" العمل الفنيّ، تضبطه السلطة السياسيّة، خصوصاً أن المادة 14 من النظام الداخلي تشير أنه من واجبات العضو في اتحاد الفنانين التشكيليين المساهمة بتقديم الأعمال الفنية التي يقررها المكتب التنفيذي أو مجلس الفرع المختص في المناسبات القومية والوطنية والنقابية مقابل بدل تحدده الجهة التي قررت التكليف (٧) . هذه المادة تجعل من الفنان ومنتجه جزءاً من تكوين الهويّة الوطنيّة السياسية وعلاماتها ورموزها، هذه العلامات والرموز هي شكل من أشكال الهيمنة الاستعراضيّة في سوريا حسب تعبير الباحثة الأمريكيّة ليزا ويدن، إذ يستهلك ويتبنّى المواطنون الرموز والأشكال الجمالية الوطنيّة العلنيّة بالرغم من عدم تصديقهم لها، وذلك في سبيل تحديد انتمائهم إلى الكتلة المطيعة من المواطنين" (٨) .

الحركة الفنية التشكيلية في سورية منذ عام 2011 - Features - Atassi Foundation

ملتقى النحت في طرطوس

ثانياً: الفعاليات الثقافية والأنشطة الفنية التشكيلية الرسمية

جائزتا الدولة التقديرية والتشجيعية في مجال الأدب والفنون

في عام 2012، صدر المرسوم التشريعي الرئاسي رقم 11: "القاضي بإحداث جائزتين في مجال الأدب والفنون للمبدعين والفنانين تقديراً لهم على عطائهم الإبداعي والفكري والفني" (٩). الأولى حملت اسم "جائزة الدولة التقديرية"، والثانية اسم "جائزة الدولة التشجيعية". ونصت المادة 7 في المرسوم على كيفية تشكيل لجنة الجائزتين برئاسة وزير الثقافة وعضوية ستة أشخاص من اختصاصين يقوم وزير الثقافة بتسميتهم. لا شك أن الوسط الثقافي والفني السوري يحتاج ما أمكن هذا النوع من الجوائز التقديرية والتشجيعية كما جاء في أسماءها. ولكن عند النظر على الأسماء الحاصلة على الجائزة منذ تأسيسها وحتى دورتها الثامنة، تطالعنا في السنوات الأولى أسماء مقدرة في عالم الفن التشكيلي، منها (ناظم الجعفري، 2012)، (إلياس الزيات، 2013)، (ليلى نصير، 2014)، السينمائي (عبد اللطيف عبد الحميد، 2015)، (أسماء الفيومي، 2018)، لكن الأسماء الأخرى تثير التساؤل حول أهلية لجنة التحكيم ومعايير اختيارها للفائزين، وعن غاية الجائزة التقديرية التشجيعية، فقد حصل عليها كلّ من الممثلة (سلمى المصري، 2016)، المطربة (ميادة الحناوي، 2017)، والمطرب (جورج وسوف، 2019).

الفعاليات الفنية التشكيلية، المعارض، الملتقيات

بجهد ملموس، يسعى المسؤولون الثقافيون إلى استمرارية الفعاليات الأساسية السنوية، أبرزها (معرض الخريف السنوي، ومعرض الربيع السنوي)، والعديد من الملتقيات في مجال النحت والتصوير التي تجري في قلعة دمشق بوصفها فضاء ثقافياً. كما تتركز بعض الفعاليات على المشاركات الشبابية مثل: (ملتقى النحت على الخشب للشباب والمحترفين)، (إبداعات شبابية للتصوير والنحت)، (ملتقى طرطوس للنحت على الخشب والحجر)، (ملتقى خاص بالخزف)، (ملتقى الفنانين المهتمين برسوم الأطفال). كما تُنظّم العديد من المعارض الفنية والملتقيات الفنية المرافقة لاحتفالات وطنية أو معارض تجمع عدداً من الفنانين على موضوعات مثل: (الوطن، سورية، الشهداء، النضال الوطني). وكذلك أقيمت معارض خاصة بالحَرْف العربي، ومعرض آخر عن اللغة العربية بعنوان "همس الحروف". تتعدد هذه الفعاليات، مما يدفع إلى الاستنتاج بأن مديرية الفنون الجميلة وبعض المراكز والمعاهد التابعة لوزارة الثقافة تحرص على استمرارية الفعاليات الفنية وابتكار الجديد منها، والتركيز على الملتقيات التي تجمع الفنانين الشباب من مدن المحافظات المختلفة لتعزيز صورة الحوار الثقافي بين الجغرافيات السورية على تنوعها.

إشكاليات المعارض السنوية والأنشطة التشكيلية

للتعرف على السوية التنظيمية والفنية لهذه المعارض، نقرأ في مقالة الناقد غازي عانا بعنوان (معرض الخريف السنوي، 2013) بعضاً من الصعوبات أو الإشكاليات التي ذكرها الكاتب في نصه، منها: أولاً، تكرار الأسماء في لجان التحكيم باستمرار، رغم أن هذه الأسماء لا تملك الوقت الكافي لحضور معظم جلسات اللجنة على حد تعبيره. ثانياً، غياب مشاركة العديد من الأسماء الفنية عن المعرض. ويعلل الكاتب الأمر بالأوضاع الصعبة التي تعيشها البلاد. لكنه تمنى بالمقابل: "ألا يتحول المعرض بسب هذه الأحوال الاستثنائية إلى حالة تسيء لسمعة المعرض وتاريخه، وألّا يسبب غياب العديد من الفنانين الجيدين إلى استضافة فنانين غير موهوبين، ليبقى محافظاً في الحدود الدنيا على مستوى المشهد التشكيلي السوري" (١٠). وأخيراً يضيف الكاتب أن الميزانية المخصصة لإنجاز هذين المعرضين السنويين: "لم تعد منطقية" (١١) بحسب تعبيره.

ثالثاً: أسماء نقدية وفنية فقدتها الحركة التشكيلية السورية

قبل التوسع في إشكاليات النقد الفني بعد ٢٠١١ في الفقرة القادمة، نستعرض بنظرة سريعة ما سبقها من أسماء مؤثرة. فإذا كانت خسارة الصالات الفنية قابلة للتعويض، فإن الحركة التشكيلية السورية في السنوات الماضية خسرت العديد من الأسماء النقدية والفنية البارزة التي فارق أصحابها الحياة. ولابد من التوقف عندها، لمجرد الإشارة إلى دور نظرياتهم النقدية أو تجاربهم الإبداعية التي غابت معهم. 

فعلى مستوى الأسماء النقدية الاعتبارية في تاريخ النقد التشكيلي السوري تذكر من أبرزهم الناقد (طارق الشريف 1935-2013)، وهو مؤسس مجلة (الحياة التشكيلية) ومدير تحريرها على مدار 20 عاماً. وقد قامت المجلة المختصة بالدراسات والأبحاث الفنية في سنواتها الأولى على مقالاته ودراساته. كما ألّف الشريف العديد من الكتب الهامة، منها: (عشرون فناناً من سورية، 1968)، (الفنان نعيم اسماعيل: فن حديث بروح عربية، 1990)، (الفنان فاتح المدرس: فن حديث بقروح تعبيرية، 1991)، (الفن واللافن، 1983)، الفن المعاصر في سورية، 1996)، (خمسة فنانين من سورية، 1995)، (لؤي كيالي: حداثة فنية ومضمون إنساني، 2008).

كذلك رحل عن عالمنا الناقد (صلاح الدين محمد 1949-2016) الذي أسهم في الكتابات النقدية عن الحركة التشكيلية السورية منذ الستينيات. كما أعد أفلاماً عن الفنانين التشكيليين السوريين وصلت إلى 100 فيلم تلفزيوني. اختير عضوا في هيئة تحرير مجلة الفن العربي الصادرة عن اتحاد الفنانين التشكيليين العرب، والهيئة الاستشارية لمجلة فن الصادرة في لندن 1987. تميز كتابه عن الفنان لؤي كيالي، كما قدم العديد من الكتب الأخرى منها: "تجربة الفنان عز الدين شموط"، "طريق الحرير"، و"الشام الجديدة".

وفي عام 2017 رحل المؤرخ والناقد والأكاديمي (د. عفيف بهنسي، 1928-2017) وهو من أبرز النقاد والباحثين في مجال الفن التشكيلي وتاريخ الفن وعلم الجمال، وقد اعتمدت كلية الفنون الجميلة في دمشق على مؤلفاته في مناهجها الأكاديمية. وهو مؤسس وأول نقيب لنقابة الفنون الجميلة، مؤسس كلية الفنون الجميلة ومدرس مادة الفن والعمارة فيها، من أبرز مؤلفاته: (جمالية الفن العربي، 1979)، (الفن العربي الحديث بين الهوية والتبعية، 1979)، (معجم مصطلحات الفنون ثلاثي اللغات، 1981)، (الفن العربي الإسلامي في بداية تكونه، 1983)، (تاريخ الفن والعمارة، 1996)، (الفن التشكيلي العربي، 2003)، (من الريشة إلى اللابتوب: الفن والفكر الجمالي، 2013)، (الأثر الفني بين التطبيق والتشكيل، 2013)، و(التراث الأثري السوري، 2014).

أما عن الفنانين الراحلين فأبرزهم: (عماد صبري 1958 – 2013)، (غسان السباعي 1949-2015)، (محمد الوهيبي 1947-2015)، (مروان قصاب باشي 1934-2016)، و(نذير نبعة 1938-2016).

الحركة الفنية التشكيلية في سورية منذ عام 2011 - Features - Atassi Foundation

خالد ضوا، مجموعة انهض، ٢٠١٧

رابعاً: المستوى الإبداعي وإشكاليات النقد الفني

تزخر الحركة الفنية التشكيلية السورية بالعديد من التجارب الإبداعية الهامة والمتميزة منذ الستينات وحتى اليوم. لكن الناقد "طلال معلا" يميز بين وجود تجارب فنية هامة وبين وجود محترف سوري خاص، فيقول: "نعم هناك محترف، لكن ليس هناك حركة فنية سورية. ثمة تجارب مهمة، لكن هل تنتظم بشكل حركة؟ ثم، ماذا عن الانفتاح بين الأجيال، والأفكار التي تقوم في هذا المحترف؟" (١٢) . وسنذكّر هنا بأبرز الأسماء الفنية التشكيلية السورية، بالتركيز على التجارب الفنية الشابة الجديدة، بحثاً عن خصائصها المميزة، التي يمكن التعرف عليها من خلال الأعمال الفنية المشاركة في الملتقيات، وفي المسابقات، وكذلك البحث عن الأعمال الفنية التي حازت على جوائز المسابقات الفصلية والسنوية. 

تمنح "مسابقة شغف للفنانين الشباب، 2011"، 12 جائزةً في مجال الرسم والنحت موزعة على فئة الهواة والشباب. ومن بين الأسماء الفائزة يصعب العثور على أعمال فنية متميزة أو حاملة لخصوصية التجديد. نذكر من بينها في النحت أعمال ميسان سيمان وسامر الروماني. وعند الانتقال إلى الأعمال المشاركة في (ملتقى النحت للشباب، 2013)، فإننا نكتشف أن الأعمال التسعة التي يستعرضها الناقد غازي عانا في مقالته عن الملتقى، كلها متعلقة بجسد المرأة، تكوينها، أو ما يعبر عنه ويوحي به، باستثناء عمل وحيد للنحاتة ساندرا الريس يجسد تكوين مفتاح الصول الموسيقي، المفتاح الأساسي في الكتابة والنوطة الموسيقية. أما في (معرض الخريف السنوي) فتتكرر لوحات الطبيعة الصامتة، أو لوحات يرسم الفنان فيها نفسه في حالة تأمل أو فعل يومي. فنذكر من أعماله لوحة للفنانة لينا ديب، وعمل نحتي من الحديد والخشب للفنان وضاح سلامة. وفي (معرض الربيع السنوي، 2016) تميّز عمل الغرافيك للفنانة جهان زين الدين. 

رابعاً: المستوى الإبداعي وإشكاليات النقد الفني

تزخر الحركة الفنية التشكيلية السورية بالعديد من التجارب الإبداعية الهامة والمتميزة منذ الستينات وحتى اليوم. لكن الناقد "طلال معلا" يميز بين وجود تجارب فنية هامة وبين وجود محترف سوري خاص، فيقول: "نعم هناك محترف، لكن ليس هناك حركة فنية سورية. ثمة تجارب مهمة، لكن هل تنتظم بشكل حركة؟ ثم، ماذا عن الانفتاح بين الأجيال، والأفكار التي تقوم في هذا المحترف؟" (١٢) . وسنذكّر هنا بأبرز الأسماء الفنية التشكيلية السورية، بالتركيز على التجارب الفنية الشابة الجديدة، بحثاً عن خصائصها المميزة، التي يمكن التعرف عليها من خلال الأعمال الفنية المشاركة في الملتقيات، وفي المسابقات، وكذلك البحث عن الأعمال الفنية التي حازت على جوائز المسابقات الفصلية والسنوية. 

تمنح "مسابقة شغف للفنانين الشباب، 2011"، 12 جائزةً في مجال الرسم والنحت موزعة على فئة الهواة والشباب. ومن بين الأسماء الفائزة يصعب العثور على أعمال فنية متميزة أو حاملة لخصوصية التجديد. نذكر من بينها في النحت أعمال ميسان سيمان وسامر الروماني. وعند الانتقال إلى الأعمال المشاركة في (ملتقى النحت للشباب، 2013)، فإننا نكتشف أن الأعمال التسعة التي يستعرضها الناقد غازي عانا في مقالته عن الملتقى، كلها متعلقة بجسد المرأة، تكوينها، أو ما يعبر عنه ويوحي به، باستثناء عمل وحيد للنحاتة ساندرا الريس يجسد تكوين مفتاح الصول الموسيقي، المفتاح الأساسي في الكتابة والنوطة الموسيقية. أما في (معرض الخريف السنوي) فتتكرر لوحات الطبيعة الصامتة، أو لوحات يرسم الفنان فيها نفسه في حالة تأمل أو فعل يومي. فنذكر من أعماله لوحة للفنانة لينا ديب، وعمل نحتي من الحديد والخشب للفنان وضاح سلامة. وفي (معرض الربيع السنوي، 2016) تميّز عمل الغرافيك للفنانة جهان زين الدين.

لكن هذه التوصيفات ليست سوى تمهيد للتفكير في المشهد الفني التشكيلي السوري، لذا يأتي هنا دور النقد والأبحاث المتخصصة التي تقدم آراء ذوي الخبرة والاختصاص في تقييم الإبداع الفني السوري. دون إغفال أن الكتابات النقدية التي تشمل المرحلة الفنية السورية المعاصرة، تضع الباحث أمام قراءات ونظريات وأحكام غير متجانسة، بل متعارضة وشديدة التباين بين الناقد الفني والآخر. 

يمكن تقسيم المحاور الأساسية في الكتابات النقدية عن الفن التشكيلي السوري المعاصر بالجدليات الثلاث التالية: 1. بين الخواء والتجديد. 2. بين التبعية والإبتكار الأصيل. 3. بين الموضوعات الفنية المُلهمة التقليدية والموضوعات الفنية الملإلهمة المستجدة. سنتعرف على كتابات نقدية متعارضة الآراء حيال هذه الجدليات الأربعة التي تمكننا من التعرف على المستوى الإبداعي في الفن التشكيلي السوري المعاصر، والآراء النقدية المتعارضة حوله.

الإنتاج التشكيلي السوري: بين الخواء والتجديد

يقدم لنا الناقد أديب مخزوم في مقاله (مقاربة نقدية بين الرسم والنحت في المحترفات السورية) قراءة نقدية هامة عن واقع الإنتاج الفني السوري المعاصر في مجالي الرسم والنحت، فيكتب: "التجارب النحتية السورية الحديثة، لا تزال تراوح مكانها في إعادة ترداد الصياغات المألوفة والجاهزة. حيث لا نستطيع أن نميز بين تجربة وأخرى. فبعض التجارب من أجيال مختلفة تقدم عناصر نحتية متشابهة ومكرورة تعزف على أوتار الرؤية المكبلة بسدود الحواجز التي تُكلِّس الرؤية الفنية والمعطيات التقنية... أغلبية التجارب النحتية السورية المعاصرة لا تزال تراوح مكانها ضمن إطار الحلول السهلة، في صياغة المنحوتة الخشبية والحجرية والبرونزية والجصية، وهذه الأزمة تفاقمت في معظم الأعمال المنجزة في الملتقيات النحتية بطابعها الهندسي أو العبثي. فالصياغات نفسها تتكرر في كل معرض تقريباً" (١٣).

بالمقابل، نجد في مقالة للناقدة نور عسلية بعنوان (مادة النحت السوري المعاصر)، رؤية مغايرة تماماً عن تقييم التجارب النحتية السورية المعاصرة، تكتب: "شهد مجموع حراك الفن السوري بكافة اختصاصاته نقلة توسعية غير مسبوقة مع بداية الثورة السورية ابتداء من عام ٢٠١١، ويُشكل الاستخدام المُجدِّد للمواد في النحت أحد الملامح البارزة في هذا السياق. يتجلّى هذا النضوج خصوصاً لدى جيل الفنانين الشباب الذين اضطرتهم الحرب للانتقال والتوزع في بلدان مختلفة. لابد من الإشارة أولاً إلى أنّ نظرتهم إلى المادة خامة العمل قد تأثرت بشكل واضح بالأحداث العنيفة وصور الدمار والأنقاض، فنراها مرات بصورة واضحة فجة تماما كفجاجة مطحنة الحرب" (١٤) . 

يرد في نص الباحثة العديد من الأسماء الفنية الجديدة التي لا يتم التطرق إليها في الكتابات النقدية والصحافة الثقافية السورية، والتي تعتبرها الكاتبة تجارب مجددة في تاريخ الإبداع النحتي السوري، نذكر منها: (مشروع انهض!، خالد ضوا)، (مشروع انتظار، محمد عمران)، (مشروع الديمقراطية المؤجلة، عبد الكريم مجدل بك)، (مشروع ترميم، رندة مداح). تُبيِّن الباحثة التجديد في المواد النحتية، في الأساليب الفنية، وفي الموضوعات التي تقوم عليها هذه التجارب الفنية الجديدة، وبعكس المقالة السابقة فإن الباحثة تحتفي بالتجريب كحالة إبداعية تميز الإنتاج النحتي السوري المعاصر، تكتب قائلة: "قيمة التجريب تكمن فيما ينشأ من احتمالات غير مألوفة.. والرغبة في التحرر الأوسع.. إن رغبة التشكيليين السوريين الشباب في تجديد أدوات التعبير ومواد العمل تصل إلى توجّه بعضهم لوسائط أخرى" (١٥). ولفتح الأفق أمام رغبة التجديد والتجريب، تورد الباحثة اقتباساً معبراً من نصوص المؤرخ الفني (بول لويس رينوي): "يمتلك النحت المعاصر على وجه الخصوص روابطاً مع الفنون الأخرى من شأنها أن تنتج أجناس هجينة ومتعددة، مثل السينما- النحت، النحت الصوتي، التصوير الفوتوغرافي كنحت، التركيب، الرقص، الأداء، والمنحوتات الأثاثية".(١٦)

الحركة الفنية التشكيلية في سورية منذ عام 2011 - Features - Atassi Foundation

أكرم الحلبي، مجموعة خد، ٢٠١٣

 الإنتاج التشكيلي السوري: بين التبعية والابتكار الأصيل

تحت عنوان (الفن التشكيلي العربي المعاصر والتكنولوجيا: مقاربة خجولة وتبعية عمياء)، يبين الناقد د. محمود شاهين رأيه بتبعية الحركات الفنية العربية إلى التجارب الفنية الأوروبية دون أن أية خصوصية أو قدرة على الابتكار، فيكتب: "تشكلت في البلدان العربية نواة حركات فنية تشكيلية تلونت، ولا تزال تتلون، بأطياف الاتجاهات الغربية، وتبنت أجناسها وتقاناتها، الأمر الذي جعلها تابعاً مخلصاً لها، وجعل لكل فنان غربي قريناً عربياً. ما جعل الحركات التشكيلية العربية المعاصرة تتحول إلى صدى للحركات التشكيلية الأوروبية" (١٧). 

لكن سنصل إلى نتيجة معاكسة كلياً عند قراءة مقالة تتعرض لنفس الموضوعة عن العلاقة بين الفن والتقنيات الحديثة بقلم الناقد والفنان التشكيلي محمد عمران، بعنوان ( التأثيرات ما بعد الحداثية ووسائطها الجديدة في المحترف التشكيلي السوري المعاصر) يستعرض فيها الكاتب مسار التجارب الفنية التي عمدت إلى إدخال التقنيات الحداثية والوسائط الجديدة في إنتاج العمل الفني منذ تسعينيات القرن الماضي، مروراً بعام 2011 وحتى اليوم، في قراءة تتبع تطور هذه الممارسات واكتسابها بين الفترة والأخرى مزيداً من الأصالة والخصوصية، فيكتب: "حرصت معظم التجارب الفنية، المنتَجة خلال فترة الثورة والحرب، على تحقيق صدمة تماثل تلك التي يخلّفها العنف اليومي المعاش في سورية. كما أدّت المتغيرات الطارئة والمتسارعة على المشهد التراجيدي السوري خلال الأعوام الثمانية الماضية إلى تحولات في علاقة الفنان مع القضية السورية وانعكس هذا الأمر على مستوى علاقته بأدواته وإنتاجه الإبداعي. فالعديد من الفنانين، وأغلبهم ممن هاجروا فترة الحرب، اتجهوا إلى استخدام الوسائط الجديدة مستفيدين من تراكم خبراتهم في البلاد التي لجأوا إليها، ومستحضرين في أعمالهم موضوعة الحرب بوسائط جديدة" (١٨).

ويذكر الكاتب العديد من المشاريع الفنية المعاصرة، والتي لا نعثر عليها أيضاً في النقد الرسمي، التي تبرهن على عملية التجديد المستمر والابتكار في توظيف التقنيات الجديدة، منها: (مشروع الخد، أكرم حلبي)، (وعود، شذى الصفدي)، (اقتفاء الأثر، خديجة بكر)، (رحلة سعيدة، تمام عزام)، (على قدم وساق، سلافة حجازي). لا يسعنا المجال هنا لذكر التجديد والابتكار في كل مشروع من هذه المشاريع، لكن النص بقلم الناقد (محمد عمران) يمكنّنا من اكتشاف خصوصية الابتكار لكل مشروع في استعمال الوسائط الجديدة، وخيارات الفنانين الدقيقة في توظيف التقنيات المعاصرة لتحقيق أعمالهم الفنية. وسيصل المُطّلع على هذه المشاريع المذكورة أن التجديد في هذه المشاريع الفنية ليس محدوداً بالمستوى التقني فحسب، بل أيضاً على مستوى الجماليات، وعلى مستوى المقولات التي تستحثها هذه الأعمال الفنية في ذهن المتلقي. وبالتالي، تتعلق بالعلاقة في الإبداع الفني بين: الفكرة-الموضوعة، الأسلوب التعبيري، الرؤية الجمالية، والتقنيات الفنية.

الحركة الفنية التشكيلية في سورية منذ عام 2011 - Features - Atassi Foundation

بيسان الشريف، شام، ٢٠١٦-٢٠١٧

 الإنتاج الفني السوري: مفاهيم جديدة في قاموس الإلهام

لا تقتصر الاختلافات الكبيرة في الكتابات النقدية التي تُعالج الفن السوري المعاصِر على طريقة تغطية نتاج وممارسات الفنانين، بل تختلف كذلك المواضيع والأفكار الرئيسية من كاتب لآخر. فعلى سبيل المثال، يأخذنا نص الناقد أديب مخزوم بعنوان (المناخ اللوني في اللوحة السورية المعاصرة) في رحلة على كامل الجغرافية السورية، ليبين لنا خصوصيات الضوء والنور وإيحاءات العناصر البيئية المميزة لكل منطقة من المناطق السورية، وبالتالي تأثيرها على اللوحات الفنية، نذكر بعضاً من عناوين فقرات هذه الرحلة: "ألوان المدن الساحلية المعانقة لمدى وافق البحر، المناخ اللوني في مدن وسهول الشمال السوري، خصوصيات اللون المنتسب لحقول الجزيرة السورية، تأثيرات ألوان الحجر البازلتي في اللوحة الجنوبية" (١٩).

يحاول النص أن يبين أثر الخصوصية البيئية لكل منطقة من الجغرافيا السورية على الإنتاج الفني في مجال اللوحة. لا يكتفي النص بإعادة الإلهام الفني، بل والقراءة النقدية إلى الطبيعة، وهو ما لم يعد ممكناً لأي متابع لتاريخ الفن التشكيلي، لكنّه أيضاً يتعامل بغنائية مفرطة ومثالية مع الخصائص البيئية التي يحاول تحليلها. إن الفقرة المخصصة لـ "المناخ اللوني والضوئي الخاص بدمشق ومحيطها"، يُعدّ نموذجاً مثالياً للغنائية التي يغرق بها النص وأطروحته الجمالية، فيرد فيها: "الفنان الدمشقي أو المقيم في دمشق يتنفس الهواء الطلق من أنفاس الياسمين.. يتمسك الفنان الدمشقي بالفرح المنطبع في ألوان الورود والزهور الشامية...المناخ اللوني الدمشقي مرتبط قبل أي شيء آخر بألوان الزهور والورود والنباتات الشامية" (٢٠). فالمدى الذي يصل إليه في استعراض هذه المشاهد الطبيعية مغرِق في التفاصيل. إلا أن الجانب الذي يغفل عنه – دون أي إشارة له – هو الأثر الذي خلّفته تلك الحرب على ممارسات الفنانين، وعلى تلك المشاهد الطبيعية بطبيعة الحال.  

شهد العالم بأجمعه حجم الدمار والخراب وآثار الصراع المسلح العنيف الذي أفنى أحياء بأكملها، وحضور الموت الممتد على كامل الجغرافيا السورية. وتجاوز كاتب النص لحال الخراب والدمار والحرب التي تعيشها البلاد، يمنعه من رؤية هذه التجارب كمفاهيم جديدة ملهمة للفنون السورية المعاصرة كالأدب والمسرح والسينما، وبما فيها الفن التشكيلي. كما في أعمال الفنان تمام عزام حيث يحضر الخراب كعنصر تشكيلي، وكذلك اشتغلت الفنانة هبة الأنصاري على مشروع عمل تجهيزي في الفراغ، يستحضر حالة القصف وأدخلت للدلالة على الخراب، كتاباً للرياضيات وجدته في منزل مقصوف في كفرنبل. أما عن الحرب، فقدم الفنان سامي العجوري على مجموعة من اللوحات التي تزاوج بين مفهومي الحرب والسلم. وأما عن النزوح والهجرة القسرية، فقد أقدمت الفنانة بيسان الشريف على توثيق ذاكرة النساء في معاناة الهجرة والنزوح القسري. 

يوضّح كل ما سبق لنا أن الفن السوري استلهم هذه التجارب الإنسانية القاسية ليجعل منها موضوعاته الفنية. إن ما كتبته الفنانة رندا مداح للتعريف بمشروعها (ترميم) هو نموذج مثالي عن ذلك: "تجهيز بصري يحاول الإجابة على السؤال التالي: كيف لي أن أستوعب التدمير؟ هذا العمل هو محاولة للنظر فيما يطرأ على الذاكرة وعلاقتها بالمكان وظروفه من تغيرات. وكيف يصبح الخراب والحدود والجدران والحواجز التي غيرت خارطة وشكل مكانٍ ما وحولت حياة أفراده ولغتهم، إلى جدران شبه عادية، مرممة بعبثية ما هو غير قابل للترميم. وكيف تفشل الذاكرة في استرجاع ذاكرة ما قبل الخراب، فلا يبقى إلا قشور هشة قابلة للكسر في محاولة لإيجاد الذات" (٢١). حقيقة أن بوسع بعض النقاد الفنيين التغاضي بشكل كامل عن مجريات الحرب وما لها من آثار مباشرة وغير مباشرة على الفنانين يكشف حالة من الانفصال عن مجريات الواقع وتبنّي نظرة ماضوية لتجارب الفن السوري.  

خلاصات واستنتاجات

الإشكاليات النقدية الثلاثة المعروضة آنفاً تضعنا أمام مجموعة من النتائج، وتشير إلى إشكالية متعلقة بتباين قراءة التجربة التشكيلية السورية المعاصرة من قبل النقاد والباحثين المختصين. بإمكاننا حصر الاستنتاجات في النقاط التالية: 

- الالتزام السياسي: يتجاوز القائمون على الفن التشكيلي السوري وعلى الحركة النقدية السورية التجارب الفنية التي حملت موضوعات سياسية واجتماعية. فمن الواضح، أن للبعد السياسي تأثيراً كبيراً في الأعمال الفنية منذ عام 2011، ويمكن القول إن أحد مظاهر التجديد هي رغبة الفنانين بإنتاج أعمال فنية قادرة على التعبير عن تجربة المجتمع. لكن المؤسسات الثقافية الرسمية والنقد الرسمي لا يعيرون اهتماماً إلى هذا التغير العميق. الالتزام بالقضايا السياسية والاجتماعية هي الخاصية المميزة للمحترف السوري المعاصر عن تجارب الماضي. وكما رأينا، فإن التغاضي عن التجارب الفنية الملتزمة بقضايا سياسية واجتماعية، يجعل المسؤولين الثقافيين والنقد الفني في حالة من التراجع في التأثير، الانكفاء، وفقدان الفاعلية مع مرور الوقت.

 

- القضايا الاجتماعية: إذاً، منذ عام 2011، لم تتوقف المشاريع الفنية السورية المبتكرة في محاولات التعبير عن التجربة المعاشة. وبالإضافة، إلى البعد السياسي المذكور في الفقرة السابقة، فإن هناك مجموعة من الموضوعات المستمدة من ظروف التجربة السورية، منها: الحرب، الخراب، الدمار، الموت، الهجرة، النزوح القسري. هذه الموضوعات التي ليست بطابعها سياسية، بمقدار ما هي ثقافية واجتماعية. ورغم أن هذه الموضوعات تشكل خصوصية للتجارب الفنية السورية المعاصرة، وتبين علاقة جديدة بين الفن والمجتمع لم تكن حاضرة على هذا المستوى من الارتباط والراهنية عند الأجيال السابقة، فإنه يتم تجاهلها من قبل المسؤولين والفاعلين الثقافيين الرسميين. وكما رأينا، ليس هناك أي عمل فني مشارك في المتلقيات والفعاليات الفنية الرسمية يتناول هذه الموضوعات، كما يسود تجاهل كامل لهذه الموضوعات في النقد الفني والكتابة الصحفية الرسمية، رغم أن الإعلام الرسمي ونشرات الأخبار والبرامج السياسية الحوارية، وحتى أنواع فنون أخرى كالمسلسلات الدرامية وكذلك بعض إنتاجات المؤسسة العامة للسينما، تتطرق إلى هذه الموضوعات بشكل يومي ومتكرر. إن القائمين على الحركة الثقافية والنقاد الفنيين مازالوا في حالة إنكار لوجود هذه الموضوعات، أو في حالة ارتباك حيال كيفية التعامل معها. التأخر في الكتابة والتعريف بهذه الموضوعات في الفن السوري المعاصر سيؤدي إلى فقدان المسؤولين الثقافيين والنقد الفني الرسمي لقدرتهم على التأثير، وحتى على فهم الحركة الفنية التشكيلية السورية من حولهم. وكما رأينا، ستتراجع قدرتهم على الوصول إلى أحكام دقيقة أو استنتاجات هامة. هذا التراجع يلفت الانتباه نحو فاعلين ثقافيين ونقاد فنيين جدد أكثر مرونة في مقاربة هذه الموضوعات التي نكرر أنها تظهر بشكل يومي على البرامج الرسمية والمسلسلات المحسوبة على الإعلام الحكومي أو التي تتبنى وجهة نظره.

 

- على صعيد التمثيل الفني، استلهم الفن السوري المعاصر من مفردات جديدة مثل: النزوح، الخوف، القمع، الموت، والعدم من أجل ابتكار أساليب فنية وطرق تعبير مُجدّدة. عدم إدراج هذه المفردات في قاموس القائمين على الفن والنقد التشكيلي في سورية، سيصل بهم إلى أحكام غير دقيقة عن حالة الفن السوري منذ عام 2011. فكيف يمكن لفاعل ثقافي أو ناقد تشكيلي أن يقيّم فنياً وجمالياً الحركة التشكيلية وهو عاجز عن إدراك مفرداتها الجديدة وموضوعاتها الراهنة وتجاربها المتمردة؟

 

- لا يمكن تقسيم الحركة التشكيلية بين الداخل السوري والخارج السوري، فهناك العديد من التجارب الفنية التي يعيش أصحابها خارج سورية لم تقدم شيئاً جديداً، حتى على مستوى الأبعاد السياسية والاجتماعية في أعمالها الإبداعية. فهناك العديد من الفنانين والفنانات السوريات في الخارج الذين مازالوا يقدمون أساليبهم وإنتاجاتهم الفنية كما كانت عليه حالها قبل عام 2011، ولم تعرف فنونهم الموضوعات السياسية والاجتماعية التي برزت خلال السنوات السابقة في الفن السوري المستقل. كذلك، وعلى مستوى الكتابة النقدية، نجد أيضاً العديد من الأقلام النقدية التي تنتقد واقع وحال الحركة الفنية التشكيلية بينما أصحابها موجودون في داخل سورية. باختصار، إن التقييم القائم على التمييز بين الفن أو النقد داخل سورية من جهة، والفن والنقد خارج سورية من جهة أخرى، لا يقود إلى تشكيل رؤية نقدية موضوعية عن واقع الحركة الفنية التشكيلية السورية. 

 

- إن أية حركة فنية صاعدة بحاجة إلى الدعم من قبل القيمين ومن أصحاب الآراء المختصة وأصحاب الخبرة. وأي فنان أو فنانة هو بحاجة إلى القراءة المختصة والنصوص التحليلية والنقدية عن أعمالهم. وهذا ما يتوجب على المسؤولين الثقافيين وأصحاب الخبرة والكفاءة التركيز عليه. وهنا نشير إلى دور المؤسسات الثقافية البديلة الداعمة للفنون مثل: الصندوق العربي للثقافة والفنون آفاق، ومؤسسة اتجاهات ثقافة مستقلة، ومؤسسة المورد الثقافي، ومؤسسة أتاسي. هذه المؤسسات تساهم في دعم ظهور إنتاجات فنية تشكيلية سورية ذات خطابٍ مستقلّ ومجدِّد في العلاقة بين الفن والمجتمع. 

الحواشي

١                الأعداد المتعلقة بالمعارض والأنشطة الفنية التشكيلية للعام 2011، هي العدد 93-94/2011، 95-96/2012.

٢                يُشير مصطلح "العربي" في هذا السياق للمؤسسات الحكومية/التي تديرها الدولة وليس لمفهوم الدول "العربية".  

٣                مع التنويه إلى أن صالة أيام حافظت على فضاءات عرض في دبي وبيروت، بينما تحوّلت صالة أتاسي إلى مؤسسة أتاسي، دون تنظيم أنشطة عرض فني تجارية.

٤                الأخرس، غياث، من الكلمة الافتتاحية للمركز الوطني للفنون البصرية، دمشق، 2015.

٥                خوست، ناديا، من البيان الخاص بالمعرض الاستعدادي المرافق لافتتاح المركز الوطني للفنون البصرية، دمشق، 2015.

٦                [1] مدير المركز الوطني للفنون البصرية هو (د. غياث الأخرس)، وهو عم (أسماء الأخرس)، زوجة الرئيس السوري (بشار الأسد).

٧                الكاتب غير معروف، "القرار رقم (1217) النظام الداخلي لاتحاد الفنانين التشكيليين في الجمهورية العربيّة السوريّة"، اتحاد الفنانين التشكيليين، (تاريخ النشر غير معروف)، 1/06/2020، http://artsyria.com/?page_id=1725

٨                المأمون، عمار، المركز الوطني للفنون البصرية: العالمية، السخرة، وقيمة الفن الوطني، مجلة قلمون، عدد خاص بالفن التشكيلي، ص4-5

٩                حسب صياغة الخبر في وكالة سانا.

١٠             عانا، غازي، معرض الخريف السنوي، مجلة الحياة التشكيلية، العدد 99، سبتمبر 2013، ص140.

١١             المرجع نفسه.

١٢             من حوار مع الناقد والفنان طلال معلا، أجراه د. علي الراعي، بعنوان طلال معلا:وجوه تصرخ بصمت، مجلة الحياة التشكيلية العدد 101، عام 2014، ص85.

١٣             مخزوم، أديب، مقاربة نقدية بين الرسم والنحت في المحترفات السورية، مجلة الحياة التشكيلية، العدد 98/2013، ص56-57.

١٤             عسلية، نور، مادة النحت السوري المعاصر، مجلة أتاسي الفنية، الإصدار الثالث، العدد الخاص بالنحت، خريف 2018.

١٥             عسلية، نور، مادة النحت السوري المعاصر، مجلة أتاسي الفنية، الإصدار الثالث، العدد الخاص بالنحت.

١٦              Paul louis Rinuy, la sculpture contemporaine, Presses Universitaires Vincennes, 2018. p.7.

١٧             شاهين، محمود، الفن التشكيلي العربي المعاصر والتكنولوجيا: مقاربة خجولة وتبعية عمياء، مجلة الحياة التشكيلية، العدد 101/2014، ص22

١٨              عمران، محمد، التأثيرات ما بعد الحداثية ووسائطها الجديدة في المحترف التشكيلي السوري المعاصر، مجلة أتاسي، الإصدار الرابع، عدد الوسائط الجديدة

١٩              مخزوم، أديب، المناخ اللوني في اللوحة السورية المعاصرة، مجلة الحياة التشكيلية، العدد 97/2013، ص44.

٢٠              المرجع نفسه.

٢١              مداح، رندا، من البيان التعريفي الخاص بالمشروع الفني "ترميم".