تُشاطرنا منى أتاسي حكاية غاليري أتاسي منذ التأسيس والقرار بإعادة إطلاقها من جديد كمؤسسة غير ربحية. بالنسبة لمنى أتاسي، ليست المجموعة عبارة عن عدد من الأعمال الفنية، بل تتكون من طيف من الرؤى والوثائق التي تسجل تاريخ البلاد وتُجسدها حياة وأعمال الفنانين.
متى ولماذا بدأت باقتناء الاعمال الفنية؟
هنالك أحداث في الحياة تغيّر مجرى حياة الإنسان وتستفزّه وتحرضه على التفكير وإعادة التفكير. في عام ١٩٨٧ كنت ما زلت أسكن في حمص، وكان الفنانون الحمصيون يترددون على المكتبة التي كنت قد قمت بافتتاحها مع أختي. عندما زارني الفنان رضا حسحس في منزلي قال لي "البيت جميل جداً، ولكن ليش الحيطان فاضية". والحقيقة أني كنت قد زينت الجدران بلوحات تجارية تباع في محلات المفروشات وليست أعمالاً فنية. اصطحبني الفنان رضا حسحس لزيارة الفنان أحمد دراق سباعي، رجل لطيف وهادئ أفنى حياته في عمله بالفن، جلسنا حينها على كرسي «شيز موريس»، وكانت الغرفة حميمية جداً. خلال هذه الزيارة انتقيت إحدى اللوحات وكانت أول لوحة اقتنيتها. للأسف، لم تعد هذه اللوحة في عهدتي اليوم، ولكن أتذكّر أنها كانت مشابهة تماماً لشخصه، لطفه ورقيّه ومثاليّته وفنه المشبع بالروح وليس فقط بجماليات الفن وتقنياته. في ذلك الوقت لم تكن ذائقتي الفنية واضحة ولم أمتلك المعرفة أو الثقافة الفنية، ولكن بيئة دراق سباعي الخاصة وطقوسه قد أثّرت بي، حيث استكشفت فيها روحاً لست معتادة عليها في محيطي وبيئتي الاجتماعية. في حينها سُعدت جداً باقتناء عمل فني للمرة الأولى.
كانت مرحلة حمص ( من عام ١٩٨٦ إلى عام ١٩٩٣ ) مرحلة تعلّم وفضول ورغبة بالاطلاع. وبفضل قرب مدينة بيروت من مدينة حمص قمت بزيارة العديد من الغاليريات هناك ومن بينها غاليري سامية التوتونجي التي أُعجبت بعملها. في عام ١٩٨٨ اقترحنا على المنتدى الاجتماعي التابع لمحمد بركات فكرة إقامة معرض فن سوري في صالتهم بمنطقة كليمنصو ببيروت. كانت هذه الفكرة مغامرة حقيقية، إذ أن الحرب كانت لا تزال دائرة، وكانت أوضاع السوريين في لبنان في تلك الفترة قلِقَة. بالرغم من ذلك، قمنا بجمع أعمال فنية لمجموعة من الفنانين السوريين مثل غسان سباعي وعبد القادر أرناؤوط وفاتح مدرس ومحمود حماد، ولوحة حمّاد لم تكمل طريقها معنا إلى بيروت إذ أن ضابط الجمارك قد أعجب بها واحتفظ بها لنفسه. وصلنا إلى بيروت وأقمنا المعرض الذي لقيَ صدى واسعاً. رافقنا من سوريا حوالي عشرة فنانين سوريين لحضور الافتتاح. في ذاك اليوم تلقيّنا دعوة من قبل السيد رمزي السعيدي، وهو أحد أهم مقتنيّ الأعمال الفنية في لبنان، للعشاء في منزله. لقد فاجأتنا دعوته هذه، بل شعرنا بوجوب الحذر، إذ أن المعرض كان ضرب من ضروب الجنون والمغامرة. بعد الافتتاح ذهبنا جميعنا إلى منزل رمزي وهناك شدهنا بما رأيناه. كانت الأعمال الفنية في كل مكان ابتداءً من مدخل المنزل إلى كل ركن منه. أعمال للروّاد اللبنانيين، من مصطفى فروخ و حسين ماضي وأمين الباشا ،سلوى روضة شقير وغيرهم. كان البيت مدهشاً لنا، ففي سوريا لم نكن معتادين على نمط مماثل سواء من ناحية التصميم أو المحتويات. كان من بين المدعوين أيضاً العديد من الفنانين والنقاد اللبنانيين البارزين مثل حسين ماضي وسمير صايغ وجو طراب، محمد الرواس. وكان استقبال الجميع لنا ودوداً. كان للفنانين اللبنانيين صداقات مع فنانين سوريين مثل عبد القادر أرناؤوط، الذي كان موضع احترام وتقدير لديهم، هو الذي كان له دور كبير بتطوير الغرافيك العربي وليس فقط السوري، وكان عبد القادر خفيف الظل ذو شخصية دمثة وسريعة البديهة. تأثّرتُ بنهج رمزي السعيدي، وابتدأت في تلك المرحلة باقتناء الأعمال الفنية. لم تكن المهمة سهلة، و قد استغرق تشكيل مجموعة وقتاً وجهداً، إذ أن أحوالي الاقتصادية في حينها لم تسمح لي بشراء إلا القليل وبالتدريج.
في أي مرحلة تقاطع دورك كصاحبة صالة عرض فنية مع دورك كمقتنية، وكيف حدث هذا ؟
لم يكن هناك أي تقاطع، إنما كان ثمّة مراحل وتناوب بين الأدوار. كصاحبة غاليري كنت أعرض الأعمال الفنية ولكن لم أمتلك القدرة على اقتنائها. كانت حركة اقتنائي للأعمال بسيطة، ولم تكن بالضرورة من أعمال المعارض المقامة في صالتي. جل اهتمامي وتركيزي الفكري والمعنوي والمادي في تلك الأيام كان تطوير الغاليري. سافرت إلى مدن أخرى لزيارة فنانين في مراسمهم، لأتعرف عليهم وعلى أعمالهم. ساعدني أصدقائي بشكل كبير لتوسيع دائرتي الاجتماعية الفنية. بدأت الاقتناء بشكل جدي في أوائل التسعينات. كان هناك أخطاء إذ تبينتُ مع الوقت أن القيمة الفنية لهذه الأعمال متفاوتة. يلزم الاقتناء التجربة والخبرة الصحيحة في الفن بالإضافة للاطلاع الواسع، سواء في سوريا أو خارجها. قمت بشراء أعمال لفنانين عرب مثل حسين ماضي، ضياء عزاوي وسامية الحلبي بالإضافة لفنانين سوريين. ولكن مع الوقت رأيت بأن بناء مجموعة عربية كان أمر يفوق قدرتي وبالتالي قررت التركيز على بناء مجموعة فنية سورية. جاءت بعض قرارات الاقتناء مبنية على الصدفة، فخلال عملي في الغاليري كانت تعرض علي بعض الأعمال، وفي مرات أخرى كنت أقتني بعد زيارات لمراسم فنانين وجدت في الحوار معهم غنى لمواضيع فكرية أو ثقافية كانت تشغلني. والحق يقال، أن معرفتي الحقيقية بالفن السوري بدأت منذ سنوات ١٩٩٤ عندما شرعت بالتحضير لنشر كتاب «الفن التشكيلي المعاصر في سورية: ١٨٩٨-١٩٩٨» . للتحضير لهذا الكتاب، قمنا بتعيين لجنة ضمّت الفنانين الياس زيات وسمير صايغ ونذير نبعة بهدف تحديد خطة عمل ومنهجية للكتاب. بدأت حينها بزيارة المتاحف في حلب ودمشق وحصلت على تصريح لتصوير الأعمال في المتاحف. من خلال هذا العمل مع اللجنة تعرّفت على الرواد السوريين وعلى جيل الحداثة. من هنا تبلور طموحي باقتناء الفن السوري وشعرت حينها أنني على الطريق الصحيح.
متى تحول الموضوع لفعل رعاية وتوثيق للفن السوري؟ هل كان هناك نقطة تحول معينة؟
كان كتاب «الفن التشكيلي المعاصر في سورية: ١٨٩٨-١٩٩٨» فعل توثيق للفن السوري وأعتبره رصيد أعتزّ به. رصيد مرتبط بالاستكشاف والتطوير المهني والغنى الثقافي وليس بعدد المقتنيات. في داخلي كانت أفكر بأن إنجاز هذا الكتاب بمثابة خطوة نحو البدء بتوثيق وحفظ الفن السوري، وهي فكرة كانت تدور في خلدي منذ الثمانينات عندما كنت في حمص.
في إحدى زياراتي للأستاذ محمود حماد في دمشق، وكونه على قدر كبير من المعرفة، أطلعته على رغبتي بنشر كتاب عن الفن السوري وقال لي «يا ابنتي هذا مشروع جميل جداً ولكن هل تعرفين كم يتطلب من عمل وجهد؟». لا، في الحقيقة لم أكن أعرف ولكن مرة أخرى، كانت مغامرة. كنت قد استشرت حماد لإيماني وثقتي به. وبكل أسف عندما توفي الأستاذ حماد توقف المشروع. في التسعينات وبعد انتقالي إلى دمشق رجعت إلى الملاحظات التي كنت قد كتبتها خلال زياراتي له وبدأت العمل مجدداً لإنجاز هذا الكتاب. زرت منزل ميشيل كرشة وصورنا العديد من الأعمال في منزله. في تلك الفترة لم يكن هؤلاء الفنانين الكبار بحاجة لرعايتي، بل كنت أنا بحاجة لرعايتهم، هم الذين أسسوا لحركة فنية في سوريا. لقد كانت مرحلة غنية جداً لي على مستوى شخصي ومهني، و للفنانين جميعاً الذين أبدوا حماساً ودعماً بشكل كبير. تالياً أصبح هاجسي تعزيز مهمّة الاقتناء وصُقلَت معرفتي بانتقاء الأعمال وأهمية الحفاظ عليها. في بعض الأحيان كان أشخاص من خارج عالم الفن يحضرون عارضين علي شراء بعض الأعمال المتوارثة لديهم، بعضها كان فرصة لا تفوت فأقوم بشرائها. كما قمت بشراء أعمال من معروضات غاليريات أخرى متل غاليري عصام درويش وجورج كامل وغاليري شورى وما زلت أقتني حتى اليوم. أعتقد بأنه من المستحيل أن يتوقف المقتني عن الاقتناء.
شَهٍد مسارك صلات قوية مع فنانين سوريين. هل يمكن القول بأن أحدهم كان له أثر عليك أكثر من غيره؟
لا أعتقد. ولكن كنت أنسجم كثيراً مع فاتح المدرس من ناحية شخصيته الإشكالية والحالة الوجودية التي كان يعيشها والتي كانت تشبهني بشكل كبير. كنت دائماً ألتقي عنده بأشخاص جدد. بعض الجلسات قد تكون سخيفة ولكن في لحظات التجلي مع فاتح كنا ندخل في حالات وجدانية وفكرية عميقة. وفي بعض الأحيان كنت أشعر بهالة هذه الحالة دون أن أتمكّن من تعريفها بشكل دقيق.
أما الياس زيات، فهو أيضاً شخص مؤثر، لكن له حضور مغاير لحضور فاتح المدرّس العبثي. فزيات كان أستاذاً في كليّة الفنون الجميلة وهو باحث ومتعمّق في البحث والتاريخ الفني. وكذلك أتذكر نذير نبعة، بل أجيال من طلابه تذكر روعة حضوره كفنان وكمعلّم. هؤلاء الفنانين كانوا أصدقائي وأحبوني بصدقي وكانوا يسعدون بمساندتي ودعم مشروعي. في التسعينات ذكر غياث الأخرس اسم الفنان مروان قصاب باشي، والذي لم أكن أعرفه حينها، وددت على الفور إقامة معرض للفنان وأدخلته في أجندتي، ثم حصل خلاف كبير بيني وبين غياث وانقطع التواصل. لكن اسم مروان ظلّ يتردد على مسمعي من قبل نذير نبعة والياس زيات وآخرون. تشكل لدي دافع للتعرف على مروان، فسافرت إلى برلين خصيصاً وزرته في مرسمه وهناك كانت الرهبة وليس فقط الدهشة أمام أعماله الهائلة. طلبت منه وقتها أن أقيم له معرض بسوريا، فاستجاب. لم يكن مروان قصاب باشي معروفاً في المنطقة في تلك الفترة لأنه كان يعيش في ألمانيا ولم يكن هناك أي تواصل إلا مع أصدقائه، وقلّة من الغاليريات نظراً للعبء المادي الثقيل الذي يجب على الغاليري تحمّله لشحن أعماله . لاحقاً أقمنا عدة معارض لمروان تم نقل بعضها إلى دارة الفنون في عمّان ، التي تديرها سها شومان، هي التي زارتني في دمشق خصيصاً لتتعرف على أعمال مروان. كما نقلنا معارض مروان إلى لبنان. كان آخر هذه المعارض واحداً ضمّ أعمالاً زيتيّة جبارة من مختلف المراحل، انتقل حينها إلي مصر. أثناء وجود الفنان في سوريا كان هناك اتفاق بيني وبينه أن أقوم بتمويل جزء من كتاب كان يخطط لإصداره. قمت أيضاً باقتناء اثنين من أعماله في ذاك الوقت.
يقال أن المجموعات الفنية تدل بشكل كبير على أصحابها وشخصياتهم. ماذا تقول مجموعتك عنك؟
هناك عوامل تؤثر على عملية الاقتناء أبرزها شخصية الفنان وشخصية المقتني. بحكم تجربتي يمكنني القول بأن شخصية الفنان قد لا تكون متطابقة مع عمله. هناك أعمال عظيمة أنجزها فنانون بشخصيات بسيطة أو إشكالية لا تتوافق مع السوية الفنية لعملهم. في المقابل هنالك آخرون ممن ينبع فنّهم من قلب فكرهم وبحثهم في الحياة والقيم الإنسانية التي يتمسكون بها.
أما بالنسبة لسؤال هل تتطابق المجموعة مع شخصية مقتنيها؟ فجوابي هو نعم في معظم الأحيان. فالمجموعات تمثّل انعكاساً ليس فقط لذائقة أصحابها، بل أيضاِ لثقافتهم وتاريخهم واهتماماتهم وأصدقائهم. تصبح المجموعة محركة لمشاعر مالكها، حتى عندما يكون بعض أجزائها تم اقتنائه بهدف إكمال مشهد تاريخي معيّن وبغض النظر عن القيمة الفنية. ففي بعض الأحيان يتم الاقتناء لسد ثغرة ما في المجموعة. في النهاية ستصبح كل الأعمال عزيزة جداً. إلّا أن هناك أعمال خاصة ذات قيمة فنية عالية تفرض حضوراً متميّزاً في الذاكرة. هنالك أعمال كنت أشتريها لإعجابي بشخصية الفنان كما كانت الحال مع فاتح المدرس. في وقت ما كان لديّ أكثر من خمسين عمل لفاتح ولكن للأسف بعت الكثير منها. كان من النادر أن أزور فاتح دون انتقاء عمل للاقتناء. كان يقول لي : "أنت الشيطان وزوجك هو الملاك الرحيم !".
إن اتبّاع الحدس وروح المغامرة والتحدي هي صفات شخصية قد أثّرت إلى حدّ كبير على قراراتي ومشاريعي المهنية. لكنّ قرار إنشاء مجموعة تمثّل الخارطة الفنية السورية وتسعى لأن تكون متكاملة بمرور الوقت، كان نتيجة تفكير وجهد وإجراءات مخطط لها. خلال عاميّ ٢٠٠٩ و٢٠١٠ كانت المجموعة قد أصبحت أكثر غنى. ثم حصل ما حصل في سوريا وتوقف عمل الغاليري فتكلل المشوار بفكرة تأسيس المؤسسة. إن أهمية هذه المجوعة ليست مرتبطة بعدد الأعمال، وإنما باعتقادي أن لها أهمية تاريخية مرتبطة بتاريخ سوريا السياسي والجغرافي و بتاريخ الأشخاص والحيوات، وهذا ما يميزها. لا أعرف إن كان هذا هو منظور الآخر للمجموعة ولكن هذه هي نظرتي لها. حب امتلاك ما يمتعنا هو شعور إنساني هائل، وقد كان هذا ما دفعني للاقتناء يوماً بعد يوم وقطعة فنية بعد أُخرى. لقد أوصلني هذا الشغف بالفن لما أنا عليه اليوم، وكان نواة تأسيس هذه المجموعة. أتمنى أن يتم الحفاظ عليها، فقد كانت متعة وكفاية روحية وفكرية بالنسبة إليّ. هي تاريخي وآمل أن تمثّل جزءاً من تاريخ سوريا المعاصر، كما آمل أن تكون نواة للباحثين في الفنون التشكيلية المعاصرة في سوريا، وهي غاية بدأت بالتحقق بالفعل من خلال اهتمام عدد من الباحثين والمتاحف بالتعاون معنا .