أنتجت الحرب في سوريا أسئلةً ذاتيّة وعامّة شديدة التعقيد والتشابك. تدافعت الهموم الوجوديّة والثقافيّة والمعرفيّة وقضايا الهويّة، وتمدّدت هذه التساؤلات مشكّلةً محاور مهنيّة ومفاهيم جديدة، خارجةً من الخاصّ إلى العامّ، ومن الخفاء إلى التداول. في ظلّ سنوات الشتات خلال العقد الأخير استكشف العديد من الفنانيّن السورييّن أُطراً جديدة للإبداع والإلهام، وتعدّدت الأشكال والمصادر بتعدّد الجغرافيات التي انتشروا فيها والثقافات التي باتوا يتحرّكون ضمنها. ولمّا برزت ضرورة قصوى لتوثيق هذا الفنّ وإعلاء صوته، بدوافع علميّة أو فكريّة ثقافيّة أو ثوريّة، نشَأَت رغبةَ عميقة بالقيام بمراجعاتٍ جذريّة لعمليّات تأريخ الفنّ السوريّ وأرشفته ونقده، وحاجة إلى استحداث نظريّاتٍ تعرّفه وتدرس أعماقه وتوجّهاته.
في الواقع، تكاد تُجمع الدراسات المعاصرة المتعمّقة في تاريخ الفنّ السوريّ على الإشارة إلى صعوبات مرتبطةٍ بنقص أو عشوائيّة أو عدم إتاحة أو تضرّر المحفوظات من وثائق وصور، و إلى قلّة الكتابات التخصصيّة النقديّة والفلسفيّة، خصوصاً فيما يتعلّق بالفترة ما قبل ٢٠١١. تنحدر هذه الصعوبة بالدرجة الأولى من حداثة الإيمان بدور الفنّ نفسه في سوريا على المستويين الرسميّ والشعبيّ، حيث ظلّت الفنون التشكيليّة تقريباً حتى عام ٢٠٠٠ نخبويّة الجمهور إلى حدّ بعيد[1]، ومثّل الفنانون طبقةَ محدودة للغاية. منذ سنوات الستّينات التي شهدت تأسيس كليّة الفنون الجميلة في دمشق ونشوء صالات العرض المستقلّة، وحتى لاحقاً بعد ازدياد عدد صالات العرض الخاصّة في سنوات التسعينات، جاءَت معظم الكتابات عن الفنّ على الصعيد المحليّ كنصوص تقديميّة ونقديّة في كتيّبات المعارض والتغطيات الصحفيّة، وغلبت على هذه الأخيرة أسئلة حول المكانة التثقيفيّة والاجتماعيّة والوطنيّة للفنّ والفنان وصالات العرض، ونُشر معظمها ضمن الأبواب الثقافيّة في الصحف المحليّة. وعندما تمّ تأسيس مجلّة «الحياة التشكيليّة» عام ١٩٨٠ التي صدرت عن وزارة الثقافة السوريّة وترأّس تحريرها المؤرخ الفنيّ طارق الشريف، لم تكن هذه المجلة، الوحيدة من نوعها، مكرّسة للفنّ السوريّ وحده وقضاياه، فاهتمّت أيضاً بنشر الثقافة الفنيّة والتعريف بالحركات الفنيّة والفنانين العالمييّن بالعموم. بالإضافة إلى ذلك، صدرت «الحياة التشكيليّة» حسب الكاتب والناقد سعد القاسم بشكل غير منتظم زمنياً [2]، وبالأبيض والأسود حتى عام ٢٠٠٠. وحتى عام ٢٠١٤ أُدرجت صور الأعمال الفنيّة من دون المعلومات التوثيقيّة اللازمة (للاطلاع على نماذج).
وللوصول إلى جذور إشكاليّة النقص في جوانب التنظير الفنيّ في سوريا، لابدّ من الإشارة إلى أنّه ليس هناك دراسة جامعيّة تخصصيّة في تأريخ أو فلسفة الفنّ بشكل منفرد، وقد اقتصر وجود هذين الحقليين كمواد دراسية في كليّة الفنون الجميلة. ولذا فإن معظم الكتابات قد جاءَ من قبل الصحفيين المشتغلين بالشأن الثقافيّ أو الأدباء والشعراء، أو حتى الفنانين أنفسهم خصوصاً بعد عودتهم من البعثات الدراسيّة، حيث انخرط بعضهم بالدراسات النظريّة في بلدان دراستهم[3]. في الوقت ذاته افتقرت مكتبة كليّة الفنون الجميلة بشكل ملحوظ إلى المراجع الفلسفيّة والنقديّة، خصوصاً باللغة العربيّة. أمّا عن تاريخ الفن، وكمصادر للمعرفة الأوليّة حتى أوائل الألفينات فكان من أبرزها سلسلة «العين تسمع والأذن ترى» للكاتب المصري ثروت عكاشة والتي صدرت تباعاً ابتداءً عام ١٩٧١ في ثمانية وعشرين كتاباً وقدّم فيها نظرة شاملة على تاريخ الفنون المحليّة والغربية، كما تمّ الاعتماد على المواد الدراسيّة خصوصاً كتب المؤرخ عفيف بهنسي أستاذ تاريخ الفن والعمارة في كلية الفنون الجميلة في دمشق منذ تأسيسها. وإذا كانت مكتبة الكليّة قد تضمّنت العديد من المراجع البصريّة (الكتالوجات) لأعمال الفنانين العرب وغير العرب الأكثر شهرة، فلقد جاء معظم نصوصها باللغات الأجنبيّة، في وقت كان فيه تعلّم اللغات في سوريا ضعيف الأركان حتى مراحل التعليم المتقدمّة، مما جعل طلّاب كلية الفنون الجميلة يعانون من نقص في الثقافة الفنيّة في مكان يفترض به أن يكون منبعاً للمعرفة النوعيّة، واعتمدوا بالتالي في تطوير ذاتهم الفنيّة والمعرفيّة على جهودهم الفرديّة المتنوعة كلّ حسب ما أمكنه. وفي هذا الصدد لابدّ من الإشارة إلى أهميّة الترجمات. على سبيل المثال يُحسب للمفكر والمترجم السوري جورج طرابيشي قيامه عام ١٩٧٨ بالترجمة من الفرنسيّة إلى العربيّة لعمل «المدخل إلى علم الجمال، فكرة الجمال[4]» للفيلسوف الألماني هيغل، فهو أحد أهم المراجع التأسيسية لمباحث فلسفة الجمال الفني منذ صدوره عام ١٨٣٥. وتكمن أهمّية إتاحة هذا المرجع في كونه متخصّصاً في مفاهيم الجمال والتذوّق المتعلقة بالفنون، وذلك على غير ما ظهر لدى الفلاسفة العرب بمنهاجهم الروحانيّة والصوفيّة المستغرقة في جمال وكمال الطبيعة بوصفها خلقاً إلهيّاً، أو تلك الباحثة في الفنون المنحدرة من براعة الصناعات اليدويّة.
أما عن النقد، فلقد تزامن ظهوره في سوريا مع نشأة الحركة التشكيليّة المعاصرة فيها. في كتاب «أعلام النقد الفنيّ في التاريخ» يذكر الناقد عبد العزيز علون أنّ : « أول مقدمّة نقديّة وضعت في سوريا كانت في ٦ شباط من عام ١٩٤٨م في دار الحمصيّ في حيّ العزيزية في حلب، عندما قدم الشاعر عمر أبو ريشة والأديب سامي كيالي معرضاً (لعدد من ) الفنّانين، (...) فجاءت قصيدة أبو ريشة تتحدّث عن التمثال والنموذج، وجاءَ حديث سامي الكيالي يتحدّث عن المعرض كظاهرة حضاريّة، وكان ذلك كتابع لما كان يفعله المثقّفان الحلبيان القديمان غالب سالم ومنيب النقشبندي في أحاديثهما عن مسائل الفنّ وتاريخه في منتصف الثلاثينيّات من القرن العشرين .[5] » وإذا كان النقد على اختلاف مدارسه، وبطبيعته كممارسة ذهنيّة أبرز أغراضها الخوض مع الجمهور وتقريب الفنّ إليه، معنيّ بالأحكام والمعايير وبإقامة تصنيفاتٍ وتقييماتٍ وتحليلات، فلقد ميّز عفيف بهنسي في كتاب «النقد الفنيّ وقراءة الصورة» بين ثلاثة أدوار للناقد الفنيّ: «دورٌ تصنيفيّ متعلّق بالتوجّهات الفنيّة، ودورٌ تاريخيّ يراجع مصادر هذه التوجّهات والآثار المتبادلة، ودورٌ إرشاديّ في بعض مراحل تكوّن الفنّان.[6]». وعليه، بالإمكان القول أن علون كان ناقداً متعدد الأدوار، وجاءَ اضطلاعه بالفنّ السوريّ من خلال تعاونه مع «صالة الفنّ الحديث والمعاصر» منذ افتتاحها عام ١٩٦٠، وبوصفه أحد القيّمين على عدّة نسخ من معارض الربيع والخريف، وعمله لفترة في المتحف الوطنيّ في دمشق. كما أنّه ناقشَ في عام ١٩٦٢مع الفنانين محمود دعدوش وفاتح المدرّس ووديع رحمة إقامة مؤتمرٍ عامّ للفنانين العرب، وهي مناقشة أكدّت من بين النقاط المطروحة على دور النقد الفنيّ، وسعت إلى تشكيل خطاب فنيّ ضدّ استعماريّ وملتزم بقضايا اجتماعيّة وفنيّة وقوميّة. يذكرُ علون معطيات تلك المساعي في كتاب «منعطف الستّينات في تاريخ الفنون الجميلة المعاصرة في سوريا»، وكان قد استند في هذا الكتاب إلى أرشيفه وأرشيف صالة الفنّ الحديث من صور ووثائق ودفاتر مكتوبة من ضمنها مذكّرات المعارض، ولذا تستشهد به العديد من الدراسات المعاصرة حول الفنّ السوريّ. وفي الكتاب ذاته، يستعرض علون تأسيسه مع محمود دعدوش وفاتح المدرّس بياناً فنياًّ للحركة التشكيليّة في سوريا. تطرّق البند العاشر من هذا البيان، الذي نشر في التاسع من نيسان ١٩٦٢، إلى دور النقد والثقافة الفنيّة وربَطها بالبعد الإنسانيّ والإبداعيّ. جاءَ فيه:
«تعتبر الثقافة الفنيّة، من تاريخ فن وعلم جمال ونقد فنيِّ، حلقة من حلقات توثيق علاقة الفنان بالجمهور، عندما توجد الثقافة الفنيّة لدى فرد ما يكون صالحاً لاختبار إنسانيّته. نرفض النقد الفنيّ الذي أساسه انطباع إنشائيّ. برأينا أن مهمّة النقد الفنيّ هي رصد الإشعاع المباشر في العمل الفنيّ. على الناقد الفنيّ أن يكتشف في العمل الفنيّ العناصر الجماليّة غير المباشرة والموضوعيّة. نشفقُ على الناقد الذي لا يؤمن بالسلْم الزمنيّ، ونطلب منه أن يرى في كل عمل فنيّ نافذة مفتوحة على المستقبل. [7]»
بالنتيجة كان النقد أيضاً في تلك الفترة وحتى التسعينات متأثراً بواقع المجتمع وقضايا الانتماء والهويّة. والحال أنّ العديد من الفنّانين السورييّن أنفسهم قد توحّدوا مع هذه الهموم. على سبيل المثال الفنّان لؤي كيالي الذي تأثّر بالتغريبة الفلسطينيّة وظهر ذلك في معرضه عام ١٩٦٧ الذي تضمّن لوحته الشهيرة «ثمّ ماذا؟»، وفاتح المدرّس عندما استخرج من الأرض الأمّ ألوانه ومفرداته التشكيّلية، ونذير نبعة الذي ظهرت في أعماله عناصر من البيوت الدمشقيّة وملابس النساء التقليديّة. وكذلك إلياس الزيّات، الذي يظهر في شريط مسجّل يوثّق نشاط «محترفات سوريّة[8]» الذي أُقيمَ عام١٩٩٩ضمن تظاهرة «بيروت عاصمة ثقافية للعالم العربي»، متحدّثاً عن مرجعيّاته الفكريّة والبصريّة، حيث استعار عبارة «وجهُ أُمّي، وجهُ أُمّتي» للأديب والفنّان اللبنانيّ جبران خليل جبران، معبّراً من خلالها عن تمسّكه بـ«حضارة الوجه» ومحليّة هذه الحضارة. في العديد من كتابته، استغرق الزيّات في القيمة الحضاريّة للفن، وبارتباط الفن بالهويّة التاريخيّة والجغرافيّة، وهو جانبٌ يظهر جليّاً في أعماله الفنيّة. في نصّه «تاريخيّة فنون الشكل في سوريا من الجذور إلى المعاصرة» كتب الزيّات : «التصوير، الرسم، الرقش، الزخرفة.. التسمية لا تهم، فالصورة رافقت الحضارة فيسوريا وكانت دوماً صورةً رامزة ومعبّرةً، لذلك فالكتابة من الصورة أتَت.. [9]». في الواقع، من الجدير التوقّف عند هذه العبارة، فهي تحيلنا إلى ثنائيّة الصورة والكلمة وإشكاليّاتها التي ظهرت مراراً في الكتابات عن الفنّ السوريّ، حيث يُلام على العديد من هذه الكتابات قربها من الأجناس الأدبيّة أو انتمائها إليها، ويُتّهم بعضها بالإسهاب الوصفيّ أو الشعوريّ.
ليس من الجديد القول بإنّ تعايش واقتران النصّ بالصورة، المقروء بالمرئيّ، المتخيّل بالمحسوس، قديمان قدم الشعر العربيّ. هناك أمثلة عديدة من تاريخ الفنّ السوريّ يمكن الاستشهاد بها لعرض هذه المقاربات. ففي التقديم لمراسلات الكاتب عبدالرحمن منيف والفنّان مروان قصّاب باشي المعنونة بـ «أدب الصداقة»، كتبَ المؤرّخ اللبنانيّ فواز طرابلسي: «يتقاطع الصديقان عند همّ كبير: فنّان يبحث عن طرق تعبير بالكلمات، وروائيّ، مهووس بالفنّ يجرّب في طاقة الكلمات على تعبير عن الخطّ واللون والكتلة.[10]» في هذا الكتاب أيضاً نقرأ ضمن رسالة من منيف إلى قصّاب باشي مؤرّخة في الثامن والعشرين من أبريل ١٩٩٤: «تحويل اللوحة إلى كلمات مصيبة، تحويل الكلمات إلى لوحة مصيبة أكبر. أشعرُ بعض الأحيان بغضبٍ جامحٍ حين يرُاد من الفنّان أن يفسّر لوحته، أن يعرّفها.[11]» وكأنّ هذا الاعتراف الضمنيّ باكتفاء اللوحة بذاتها ينطلق من رفض ربط المرئي بالمنطوق. وفي كتاب «الياس الزيّات مدن وأساطير» نقرأ مثالاً عن محاولة تعريف الصورة عبر المقروء، الشعريّ خصوصاً، إذ كتب الشاعر السوريّ أدونيس «تبدو الأيقونة كأنها ماء تكوين بين يديّ إلياس الزيّات. في هذا الماء تفيض أمواج أجنحةٍ، بعضها يحوم في فضاء الصورة، وبعضها يطير في أفق المعنى.[12]»، ويذهب أدونيس أبعد من ذلك فيمنح اللوحة صفة التكلّم «قالت لوحةٌ-أيقونةٌ: «البصيرة غطائي الوحيد الشفاف[13]». لكن تفكيك العلاقة بين الصورة وأبعادها التخيّليّة من جهة، والكلمة بقدرتها على توجيه الإدراك من جهة أخرى، لم يبلغ أوجَه فلسفيّاً في موضعٍ أكثر ممّا كان في فكر فاتح المدرّس، مثلاً حين عبّر في «حوار» مع أدونيس قائلاً: «هل تعلم لماذا المعريّ جميل؟ لأنّه أعمى. لو رأى العالم بعينيه لما كان المعريّ.. لأنّه لم يكن يعتمد على العقل في صوره وأحكامه، بل كان يعتمد على الحدس الذي هو أعلى من العقل.[14]»
والمعروف أن فاتح قد تحرّك بالفعل بحرية (حدسيّة) في لوحاته وفي نتاجه الأدبيّ الشعري والقصصي[15] مبتعداً عن الهواجس العقلية من معرفات وقواعد، و إعجابه، إن صحّ القول، بالعمى ليس مجرّد احتجاج على قبح العالم، بل تأكيد على أن مفهوم الصورة لا ينحصر في المرئي.
في الواقع، للظروف المتعددة الواردة، ظلّت فلسفة الجمال حقلاً معرفيّاً محدود القرّاء في سوريا، وكان لتأريخ الفنّ والنقد الفنيّ متسعٌ أكبر على الساحة الثقافيّة السوريّة. فكتابات تاريخ الفنّ سمحت بالاطلاع على الأساليب والظروف التاريخيّة السياقيّة التي أثّرت في تشكيل التوجّهات، وعلى الوثائق والوقائع الشخصيّة للفنانين، وسيرهم الذاتيّة، ومذكّراتهم الفنيّة ومراسلاتهم. ولذا جاءت الدراسات الجماليّة (الاستطيقيّة) قليلة جداً. وأذكر على سبيل المثال أن الفنان والمتخصّص بعلم الجمال أسعد عرابي قد عمل في كتابه «صدمة الحداثة في اللوحة العربيّة[16]» على البحث في الجوانب الجماليّة والمصادر البصريّة للأعمال الفنيّة. ومن بين نصوصه العديدة المنشورة، سواءً النقدية أو تلك التي تنطلق من التحليل الجمالي، كان قد خصّص نصّاً بعنوان«الخصائص الجماليّة في المحترف السوريّ» أشار فيه إلى «خصوصيّة اللون الجغرافيّ والتكوين الشطرنجيّ والغرافيكيّة التعبيريّة[17]» في أعمال الفنّانين السورييّن الروّاد.
مؤخراً بعد التغيّرات الكبيرة التي طرأت على مسار الفنّ السوريّ، بعد أن دفعت به الحرب إلى فضاءات وجماهير جديدة، ودخلَ عبرها مفاهيم ومواضيع وصياغات فنيّة غير مسبوقة، تجلّت اهتمامات فلسفيّة جديدة متعلّقة بالفنّ السوريّ المعاصر. على سبيل المثال، أسّس الباحثان الفلسفيّان نبراس شحيّد وغيوم ديفو في كتابهما المشترك لنظريّة «التدميريّة في الفنّ السوريّ». ورد فيه: «من الناحية الجمالية، يرتبط الفن في سياق التدميريّة المهيمنة أساساً بمسألة الاندثار، وهذا لا يتعلّق بفن الغياب الذي وسم تيّاراً معيناً في القرن العشرين اهتمّ -بشكل صريح بعد أوشفيتز- بإبراز الفراغ الذي خلّفه المفقودون. ولكنه يندرج في أفق الزوال، فنّ يأخذ إذن على عاتقه مهمّتين : الحفاظ على شيء من العالم وإبراز أُفق تلاشيه [18]» إن أهميّة هذا الطرح الفلسفي المتعمق تكمن في أنه ينظر إلى الفن السوري من منظور واسع، و يبحث في مكانته خارج حدود الواقع المحليّ، مقدماً بذلك رؤية جديدة تتماهى مع الراهن.
في النهاية، لقد شكّل إدراك النقص في المكتوب عن الفنّ السوريّ دافعاً لتقديم شروحات نقديّة معاصرة وسرديات تأريخية موثّقة. فلقد وردت في كتاب «الفنّ الحديث في العالم العربيّ: وثائق أساسيّة [19]» من تحقيق وتقدم مؤرخات الفنّ أنيكا لينسن وندى شبوط وسارة روجرز والصادر عام ٢٠١٨، نصوصٌ نقديّة وتأسيسيّة للكتاب والفنانين السوريين خلدون ساطع الحصري وأورخان ميّسر وأدهم إسماعيل وأدونيس وعبدالعزيز علون وفاتح المدرّس ومحود دعدوش و محمد الماغوط ومحمود حمّاد ونعيم إسماعيل وعدنان بن ذريل ومنير سليمان. وفيه رجّحت الكاتبات (لينسن وشبّوط وروجرز) أنّ أوّل وثيقة عربيةّ قدّمت تعريفاً لفنّ التصوير (Painting) كانت من العام ١٨٨٢ للمفكر والمؤرخ اللبناني السوري بطرس البستاني. إضافة إلى هذا العمل، سعت لينسن في كتابها « Beautiful Agitation: Modern Painting and Politics in Syria» إلى سدّ جزء من هذه الثغرة، وذلك بوصف التوثيق بنيةَ أوّليّة للكتابة عن الفنّ، و قد تطرّقت في حوار لها إلى هذه الإشكاليّة وأبعادها وأسبابها [20] وكيف كانت بحد ذاتها دافعاً لها.
واليوم في وقت تهتمّ فيه الصحافة الثقافيّة والكتب الفنيّة باللقاءات مع الفنّانين وتغطية المعارض، وتتعدّد الدراسات الأنثروبولوجيّة والاجتماعيّة التي تحللّ معاني الفنّ السوريّ بوصفه وسيلة تغيير أساسيّة، وتندر الكتابات المتعمّقة في جوهر الفنّ وفلسفته ونقده جماليّاً، ربما نحن في حاجة إلى كتابات يوجّهها تساؤل (لماذا ولمن نكتب؟) وتستمّد معناها من التمدّد الثنائيّ الوجهة مع الفنّ ذاته، فتكون على هذا النحو دراسة القضايا الجمالية أو المتعلقة بالفنّ السوريّ ومصادره البصريّة وتوجّهاته ضرورة أولى.
الهوامش
[1] قبل هذا التاريخ لم يكن استخدام الانترنت متاحاً للأفراد، ودخوله قد أثّر بشكل ملحوظ على حركة الفن والثقافة الفنية
[2] نقرأ عن تاريخ مجلة الحياة التشكيلية في مقال الكاتب سعد القاسم المنشور على موقع التاريخ السوري المعاصر، ١٤ شباط ٢٠١٧ https://syrmh.com/2019/12/30/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9/
[3] تركزّت معظم البعثات العلمية للفنانين السوريين في باريس وروما وبرلين، ولاحقاً في مصر والاتحاد السوفيتي.
[4] بهنسي، عفيف، النقد الفني وقراءة الصورة، دار الكتاب العربي: دمشق – القاهرة، ١٩٩٧.
[5] «... ، ثم ظهرت بعض التعليقات القصيرة على المعرض السنوي بعد ١٩٥٠م، وكان قد نشر كتاب غالب سالم «الموجز في تاريخ الفنون» في حلب في عام ١٩٤٥م، وفتح الدكتور سليم عادل عبد الحق أبواب المتحف الوطني في دمشق في أواخر الخمسينات لاستقبال المناقشات المفتوحة حول معروضات المعرض السنوي أسوة بالجلسات الطويلة التي كانت تدور في المكتبة الوطنية والمركز الثقافي البريطاني ودار المطالعة الأمريكية في حلب، كما سمح لعدد من موظفي المتحف في التعليق على أعمال المعرض السنوي، فشارك في ذلك منير سليمان وحسن كمال وبشير زهدي وأبو الفرج العش وسعد صائب وأدهم اسماعيل وعبد العزيز علون، ثم انتقلت بعض السجالات إلى الصحافة المحلية فراحت بعد عام ١٩٥٨م جريدة الأيام وجريدة الجمهور وجريدة الصدى العام وجريدة دمشق المساء وجريدة الطليعة تخصص صفحات كاملة بين الحين والآخر للفنون.»
[6] علون، عبد العزيز، أعلام النقد الفني في التاريخ، الهيئة العامة السورية للكتاب: دمشق، ٢٠١٢.ص ٢٤٦
[7] علون، عبد العزيز، منعطف الستينات في تاريخ الفنون الجميلة المعاصرة فيسوريا، دار دعدوش: دمشق، ٢٠٠٣. ص ٨٠
[8] أرشيف غاليري أتاسي ١٩٩٣-٢٠٠٩
[9] الزيّات، إلياس، الشريف، طارق، أدونيس، الفن التشكيل السوري المعاصر في سوريا ١٨٩٨-١٩٩٨، أتاسي: دمشق، ١٩٩٨.ص ٢٢
[10] منيف، عبد الرحمن، قصاب باشي، مروان، في أدب الصداقة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر و دار التنوير: بيروت، ٢٠١٢.ص ٧
[11] منيف، عبد الرحمن، قصاب باشي، مروان، في أدب الصداقة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر و دار التنوير: بيروت، ٢٠١٢.ص ٢١
[12] Mikdadi, Salwa Kunze, Donald Kunze, Elias Zayat Cities and Legends, Paris : Skira, 2017.
[13] Mikdadi, Salwa Kunze, Donald Kunze, Elias Zayat Cities and Legends, Paris : Skira, 2017.
[14] ص٢٢ المدرّس، فاتح، أدونيس، حوار، أتاسي: دمشق، ٢٠٠٩.
[15] صدر له مجموعة قصصية بعنوان «عود النعنع» ١٩٨١ وديواني «القمر الشـرقي على شاطئ الغرب» ١٩٦٢و «الزمن السيء» ١٩٨٥.
[16] عرابي، أسعد، صدمة الحداثة في اللوحة العربيّة، دمشق: نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، ٢٠٠٩
[17] عرابي، أسعد، الخصائص الجمالية في المحترف السوري، محترفاتسوريا، بيروت عاصمة ثقافية للعالم العربي، ١٩٩٩
[18] Chehayed Nibras et Guillaume De Vaulx d'Arcy, La destructivité en œuvres, essai sur l’art syrien contemporain, Beyrouth : Presse de l’Ifpo, 2021.p.13.
« Au niveau esthétique, un art de la destructivité porte fondamentalement sur la disparition. Non pas au sens de cet art de l'absence qui caractérisa un certain courant du XX e siècle préoccupé, explicitement après Auschwitz, par la manifestation du vide laissé par les disparus. Mais il est un art inscrit dans l'horizon de la disparition, un art qui a alors la double tâche de maintenir un monde et de manifester l'horizon de son absence. »
[19] Lenssen, Anneka, Rogers,Sarah, Shabout, Nada, Modern Art in the Arab World: Primary Documents, Duke University Press :Caroline, 2018.
[20] «كان حافزي الثاني، العمليّ إلى حدّ ما، في كتابة «التحريض الجميل» يتعلق بإتاحة المواد المرئية للباحثين الآخرين. خلال عملي الميدانيّ في سوريا في الفترة ما بين 2007 و2011، حظيت بإمكانيّة الوصول إلى العديد من الرسومات واللوحات التي لم يكن قد تمّ نشرها مطلقًا في النسخ. لأسباب متعدّدة، بدءًا من الفروق الاقتصاديّة الجسيمة إلى الاختلافات الفكرية في التركيز النقديّ، تميل دراسات الحداثة السوريّة إلى عرض مجموعة صغيرة فقط من نسخ الصور منخفضة الجودة نسبيًا. هذا يعني أن أي شخص مهتم بمنح المصداقية للممارسات الفنية السوريّة الحاملة للمعنى ينطلق دائمًا من الحرمان لأن الصور المتاحة تبدو رديئة وغير جوهرية»
Lenssen, Anneka, Beautiful Agitation: Modern Painting and Politics in Syria, Jadaliyya, https://www.jadaliyya.com/Details/43430 . 19 octobre 2021. My second, quite practical motivation in writing Beautiful Agitation had to do with making visual materials available to other researchers. During my fieldwork in Syria during the period 2007 to 2011, I enjoyed access to many drawings and paintings that had never been published in reproduction. For a variety of reasons, ranging from gross economic inequity to intellectual differences in critical focus, studies of Syrian modernism tend to feature only a small set of relatively low-quality image reproductions. This means that anyone interested in giving credit to Syrian artistic practices as bearers of meaning always starts from a disadvantage because the available images look poor and insubstantial.
المراجع
- بهنسي، عفيف، النقد الفنيّ وقراءة الصورة، دار الكتاب العربي: دمشق – القاهرة، ١٩٩٧.
- علون، عبد العزيز، منعطف الستينات في تاريخ الفنون الجميلة المعاصرة في سوريا، دار دعدوش: دمشق، ٢٠٠٣.
-علون، عبد العزيز، أعلام النقد الفني في التاريخ، الهيئة العامّة السوريّة للكتاب: دمشق، ٢٠١٢.
-المدرّس، فاتح، أدونيس، حوار، أتاسي: دمشق، ٢٠٠٩.
-منيف، عبد الرحمن، قصاب باشي، مروان، في أدب الصداقة، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر ودار التنوير: بيروت، ٢٠١٢.
-عرابي، أسعد، الخصائص الجماليّة في المحترف السوري، بيروت عاصمة الثقافة العرّبية وغاليري أتاسي: بيروت، ١٩٩٩.
-الزيّات، إلياس، الشريف، طارق، أدونيس، الفنّ التشكيل السوريّ المعاصر في سوريا ١٨٩٨-١٩٩٨، أتاسي: دمشق، ١٩٩٨.
-أرشيف أتاسي ١٩٩٣-١٩٩٩، فيديو المحترف السوريّ، ١٩٩٩.
- Mikdadi, Salwa Kunze, Donald Kunze, Elias Zayat Cities and Legends, Paris : Skira, 2017.
-Lenssen, Anneka, Beautiful Agitation: Modern Painting and Politics in Syria, Jadaliyya, https://www.jadaliyya.com/Details/43430 19 octobre 2021.
-Chehayed Nibras et Guillaume De Vaulx d'Arcy, La destructivité en œuvres, essai sur l’art syrien contemporain, Beyrouth: Presse de l’Ifpo, 2021.