شاقٌّة هي مهمة البحث حول عمل الفنانين التشكيليين السوريين في باريس. ترجع الصعوبة بشكل أساسي إلى عدد الفنانين الوافدين منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا، وإلى تنوع وسائطهم التعبيرية بين اللوحة والمنحوتة والمحفورة والتركيب الفراغي والوسائط المتداخلة المتعددة. توافدَ العديد من الفنانين التشكيلين السوريين إلى باريس لدراسة الفن عمليّاً أو نظرياً، فلقد انخرط معظمهم في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة منذ ميشيل كرشه وتوفيق طارق، وعدد أقلّ اتجّه إلى التخصص النظري المعمّق إلى جانب بحثه الفني.
إحدى التحديات أيضاً في هذا البحث تكمن في العلاقة الشائكة مع فرنسا، فهي سابقاً بلد الانتداب، لكنها أصبحت لاحقاً بابا للانفتاح والاستنارة، وراهناً بلد الحماية واللجوء سواء أحببنا أم كرهنا هذا التصنيف. ولذا فمن الصعب الإحاطة بكافة الدوافع المتعددة التي دفعت بالفنانين للبقاء والعمل في باريس، فاستقطاب فرنسا للمبدعين لم يقتصر على تقدّمها في المجالات الفنية والفكرية والفلسفية، إنما يكمن السبب الأساسي في مساحات الحرية المتاحة فيها والتي سمحت بإنشاء هذه التجمعات. ويتعلق ذلك بالحريات الشخصية أو حرية التعبير قولاً وفعلاً. وهكذا فهي لم تستقطب الفنانين كأفراد فارّين من الدكتاتوريات بالمعنى السياسي والأمني فقط، وإنما شكّلت ملجأ فكرياً للفرار من الترهيب الاجتماعي والتقييد الفكري، كما حدث مع أشهر كتاب القرن، مثل الفيلسوف الروماني إميل سيوران والروائي التشيكي الأصل ميلان كونديرا.
سنحاول التوقف عند تجارب رأينا فيها تمثيلاً لتنوع الأسباب التي دفعت بالفنانين السوريين بالتوجه إلى باريس، رغم أننا لن نتمكن من الإحاطة بجميع التجارب في هذا النص. فعلى سبيل المثال هناك فنانون كان لهم حضور فني في باريس دون أن يكونوا قد أقاموا فيها مثل الفنانين فاتح المدرّس أو سبهان آدم، وهناك تجارب الفنانات مثل ليلى مريود ورفيف الرفاعي التي اشتملت على تحديات عديدة. وتجربة الفنان يوسف عبدلكي الذي أقام في باريس دون أن يتمكن من زيارة بلده لمدة طويلة دافعاً ثمن توجهه السياسي دون أن يتوقف عن عمله الإبداعي، وتجربة الفنان زياد دلول كحالة فريدة لمصوّر سوري، لطالما تبنت أعماله واحدة من أهم وأعرق صالات العرض الباريسية، والحالة الاستثنائية للفنان أسعد عرابي الذي يمثّل تقاطع البحث العلمي مع الحالة الإبداعية، وهي حالة بقيت نادرة في استمراريتها وشكلها بين فنان وباحث. ونجد من المناسب الاقتراب من حركة الشباب المعاصرين بنظرة مقتضبة، وسبب الاختصار هو أن هذا المقال المخصص للعدد السابع من «المجلة» هو جزء سيتم استكماله من خلال مقابلات وإضاءات تقوم بها مُعدّة الجورنال من أجل الوصول إلى صورة توضح معالم الفن المشهد التشكيلي السوري المعاصر في باريس. سنحاول في النهاية الاطلاع على دور المؤسسات من جهة، والنقد من جهة أخرى، في تعزيز أو إحباط المشهد الفني.
نقاط تاريخية :
في واحدة محاضراته عام ٢٠٠٦ يذكر الدكتور عبد العزيز علون (١٩٣٤-٢٠١١م ) أنه في عام ١٩٢٩ كان هناك كتاب للتربية الفنية ضمن المناهج المنصوصة من قبل سلطة الانتداب، بعنوان «كتاب الأشياء» ويدرّس في المرحلة الابتدائية، وهو منهج يؤسس لتعلّم مفاهيم متعلقة بالحجم والكتلة والفراغ نظرياً وعملياً. ورغم إدراكنا الكامل بأن اختفاء هذه المادة لاحقاً وعدم تعويضها بمناهج مماثلة يرجع إلى صعوبة الظرف الاجتماعي والسياسي في البلد، إلا أن ذكرها يبدو لنا بمثابة نقطة مبسطة للانطلاق في تحليل سعي الفنانين السوريين للدراسة في فرنسا.
كانت سوريا الكبرى ( سوريا والعراق والأردن وفلسطين ولبنان) حتى عام ١٩١٨م مقسمة إلى ولايات تحت حكم الدولة العثمانية. مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤م تزايد انتهاك السطلة العثمانية للبلاد العربية، فكان أن أنهكتها بالتجنيد ومصادرة الأملاك، وكانت الحياة الاجتماعية والفكرية في ظل هذا الحكم آخذة بالانهيار بسبب الخوف من الاستبداد والانشغال بالقضايا القومية. تحررت هذه الولايات عام ١٩١٨م، كلٌّ حسب ظرفها التاريخي أو تربّص السلطات الاستعمارية بها آنذاك، فلقد أدّى ضعف الدولة العثمانية وتخلخل أجهزتها إلى دخول أعدائها من الفرنسيين والبريطانيين، وحتى حين تحررت دمشق بدخول قوات الشريف حسين تحت راية الثورة العربية الكبرى، وَجدَ ابنه الأمير فيصل لاحقاً أن الوضع من الهشاشة بما يجبره على الاتفاق مع الفرنسيين، ولقد تم ذلك عام ١٩٢٠م في اتفاق فيصل كليمنصو والذي ينص على تسليم السلطة للفرنسيين نتيجة الضعف السياسي والإداري الذي خلفته الدولة العثمانية. إلى حين تمّ انهاء عهد الوصاية الفرنسية وجلاء قواتها عن سوريا عام ١٩٤٦م وكان ذلك في فترة حكم شكري القوتلي أول رئيس للجمهورية السورية بعد الجلاء.
ولكن في هذه الفترة التاريخية ذاتها، كانت باريس تُصدّر أهم التيارات الفكرية، وتستقبل أبرز أقطابها من كتاب وفنانين وفلاسفة، مع الإشارة إلى مفارقة أنها كانت بدورها تقاوم الاحتلال النازي إلى حين تحررت في عام ١٩٤٤م، أي قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية.
تعريف:
نرى في محاولة تعريف المفاهيم التي ستبنى عليها هذه الدراسة مدخلاً ضرورياً، وذلك من باب توخي الإيضاح ووضع المصطلحات في توافق مع المادة المكتوبة خصوصاً في ظل إشكاليات الترجمة. فلقد تشكلت معظم المصطلحات المتعلقة بالفن على أيدي المفكرين والمنظرين الأوربيين، ذلك أن معظم التحركات الفنية المعاصرة قد نشأت وتطورت في بلادهم.
قد تبدو كلمة الفنون التشكيلية بديهية للوهلة الأولى، لكنها حتى اليوم موضع نقاش في عالم النقد في الغرب، يُضاف إلى ذلك صعوبة إيجاد مطابقات دقيقة لها في اللغة العربية. لن ندخل هنا في تحقيق تفصيلي، إلّا أن فهم الاستخدام العملي للمصطلح يبدأ من البحث عنه في لغة نشأته، وباختصار فإن كلمة تشكيلي قد ترجمت إلى العربية من الفرنسية «Plastique»[1]، وهذه الأخيرة، حسب «قاموس جامعة كان» لأصول الكلمات ومرادفاتها، كلمة ظهرت للمرة الأولى في القرن السادس عشر لتوصيف إجراءات فنية مرافقة لفن العمارة، للدلالة على كل ما يمكن تشكيله وتطويعه ليتخذ هيئة فنية جمالية، لكن انتشار الكلمة كمصطلح تصنيفي لم يتحقق قبل النصف الأول من القرن الثامن عشر، فكان أول من نظّر لتصنيف الفنون على هذا الشكل هو الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (١٩٢٧-١٨٠٤م ) من خلال المصطلح الألماني « bildenden Künste »، والذي ترجم إلى الفرنسية في عدة ترجمات : «الفنون التشكيلية» و«الفنون المرئية» و«الفنون الجميلة». ونعتقد أنه من الممكن التفريق بين هذه التسميات من خلال الممارسات الفنية، حيث تكون الفنون الجميلة كل ما يصدرّه الإبداع الإنساني بالارتباط مع قيم الجمال، والفنون المرئية أو البصرية كل نتاج يُدرك بواسطة حاسة البصر، وتكون الفنون التشكيلية ما يتم إنتاجه يدوياً ليفضي إلى هيئة فنية. وسنتجاوز بذلك اعتبارات بعض النقاد بأنه من الممكن ضم فن التصوير الضوئي أو الحركي ( الفيديو) إلى حقل الفنون التشكيلية، وسنعتمد اختصاصات الحفر والنحت والرسم بأنواعه والتركيب لتكون إطاراً لما سنتطرق إليه في هذا المقال.
وأما عن تعبير: «الفن السوري» فهو ليس تصنيفاً يبتغي التعبير عن اتجاه معين أو تيار أو حركة، إنما نستخدمه للدلالة على نتاج مجموعة الفنانين الذين خرجوا من هذه الجغرافية الواحدة التي هي وطنهم الأم سوريا. إذ لا نستطيع تلمّس هوية فن سوري بمعنى جامع وشامل لنتاج مجموعات معينة، حتى لو أن المشهد قد شهِد سعياً لتشكيل تقاربات فكرية مثل «جماعة العشرة»[2] سنة ١٩٧٢م. ما يمكننا تعريفه من الفن كفن مرتبط ببلد أو قومية أو شعب ما، هوما يتكئ على مفردات بصرية موروثة تعبر عن ثقافة سكان المكان أو تحركات ينهض بها مجموعة من فنانين ينتمون إلى جغرافية محددة، بهدف التغيير فتكون ولادة فكرية جديدة لا تشبه غيرهم فتنسب إليهم. لذا يمكننا على سبيل المثال تمييز ملامح الفن الإسباني أوالفن الأوربي، أو الفرعوني أو حتى فنون الحضارات السورية القديمة، حيث بمقدورنا بسهولة تمييز تماثيل مملكة ماري عن تماثيل الحضارة التدمرية. وإننا قد نستشرف اليوم ملامح تشكيلية تجمع نتاج الفنانين الشباب من خلال تقاطعات معينة، لكن هذه التقاطعات تبقى مرتبطة بواقع الحرب ومفرداتها وليس بصلب التوجهات الفنية. وهذه الحقيقة ليست مؤرقة، فهي تنتمي بشكل وثيق إلى وجه الفن المعاصر اليوم.
[1] https://www.cnrtl.fr/lexicographie/plastique
[2] تجمع فني أقامه الفنانون التشكيليون أنفسهم وشمل الفنانين : نذير نبعة ونعيم إسماعيل وعبد القادر أرناؤوط وغياث الأخرس ونشأت الزعبي والياس زيات وأحمد دراق سباعي وأسعد عرابي وخزيمة علواني وغسان السباعي . وهذه الجماعة لم تقم على وحدة الأساليب أوالتوجهات الفنية وإنما تشكّلت كحركة ثقافية كانت تبتغي تعزيز دور الفنانين والتعاون فيما بينهم.
التشكيليون السوريون في باريس:
الجيل الأول:
بدأ التوجه إلى باريس للدراسة مع فناني الجيل الأول الذين رأوا فيها حاضنة لتعزيز اطلاعهم على الفن وممارسته،
كان منهم الفنانون: توفيق طارق (١٨٧٥-١٩٤٠م) وميشيل كرشه (١٩٠٠-١٩٧٣م) وجاك وردة (١٩١٣، ٢٠٠٦م) وسامي برهان ( ١٩٢٩-) وفيوليت عبه جي . في كتاب «الفن التشكيلي المعاصر في سوريا» الصادر عن غاليري أتاسي عام ١٩٩٨م، نجد الكاتب طارق الشريف يخصص مقطعاً حول الفن السوري في فترة الانتداب الفرنسي وأثر هذا الواقع على الفنانين السوريين، فيذكر : «لقد تعرّف الروّاد على بعض التجارب الفنية الجديدة الهامّة التي حملها الفنانون الذين سافروا للدراسة والاطلاع الفني، أو التي حملها الفنانون الفرنسيون الذين قدموا للرسم، أو الذين استقدمهم الفرنسيون للعمل في مجال التعليم.» ثم يشير الشريف إلى تأثر الفنانين السوريين بالانطباعية على وجه الخصوص فيكتب: « وفي نفس الفترة تراجعت الواقعية التسجيلية الأولى لتصبح قريبة من الواقع، حيث اتجّه الفنانون إلى الموضوعات التاريخية للرد على الاحتلال الفرنسي والتمسك بالتاريخ العربي، وإحياء بطولات العرب في المعارك التاريخية الكبيرة »[3]. وفي هذا التلخيص إشارة واضحة إلى مشقّة الالتزام بالعمل الفني والتفرغ له.
ولكي نوضّح دوافع الفنانين السورين في توجههم إلى باريس، ولنتقبّل بساطة تجارب البعض منهم، لابد من التذكير والمقارنة بالنظر إلى السياق التاريخي. ففي حين سعى الفنانون السوريون لتأسيس جمعية الفنون الجميلة عام ١٩٥٠، كانت فرنسا قد شهدت ولادة مدارس وتيارات فنية عديدة ترافقت مع نظريات ومناهج وبيانات فنية. ومن بين هذه الأحداث المتسارعة ولادة العمل التركيبي في مرسم بيكاسو منذ عام ١٩١٢، والفن المفاهيمي منذ عام ١٩١١ مع أول عمل ريدي ميد لمارسيل دوشامب. وفي عام ١٩٦٠ وهو عام تأسيس كلية الفنون الجميلة في دمشق، كانت باريس تشهد دخول الفيديو آرت بعد اختراعه على يد جون نام بيك. وبالطبع لسنا بصدد تفضيلات، فسوريا كانت خارجة للتو من احتلالات مُنهِكَة متتالية، وكانت القضايا الجوهرية الإنسانية والقومية تشغل بال المجتمع أكثر من غيرها. ويدلّ على ذلك حقبة طويلة من الانقطاع عن مجريات تطور الفن في العالم، وإذا كان هناك من يدافع عن عدم وجود قطيعة بحجة أن الفن كان حاضراً بتجليات أخرى مثل الفنون التزينية التي تبدأ في الكتب وتنتهي في الجدران والأرضيات، فإننا لا نقلل من شأنها، لكننا نؤكد أنها لا تأخذ في أي حال من الأحوال مكان اللوحة والمنحوتة بصيغتهما التعريفية المكرسة منذ عصر النهضة. ولا نغفل عن الإرث النحتي الخالد لحضارات المنطقة، إلّا أننا نرى في وجوده وعظمته تذكيراً بفكرة القطيعة. فمثلما عاش الغرب انقطاعاً مظلماً مع اختصاصات كانت في أوج تطورها لدى العرب، كذلك كانت فترة الفتوحات الإسلامية غير مهتمة بالفنون المذكورة رغم اهتمامها بغيرها من المجالات الإبداعية والفكرية.
وإننا إذ نتشعب في هذا التفصيل فذلك للاعتراف بدور الجيل الأول الذي امتلك جرأة شق طريق الفن في سوريا، خصوصاً تحت وطأة التخبط بين ضرورة الدراسة في باريس التي كانت عاصمة بلد الانتداب وبين رغبة في مقاومة فكرة الاحتلال والتمسك بثقافة البلد الأم. والحقيقة أن الدراسة في باريس في حقل الفنون التشكيلية لم تقتصر على التدريب الفني، فهناك من توجه لدراسة تاريخ الفن ومنهاج البحث أكاديميا، مثل الأساتذين حسن كمال وبشير الزهدي، اللذين عادا للتدريس في كلية الفنون الجميلة منذ بداياتها، يذكرهما الأستاذ عبد العزيز علون في كتابه «منعطف الستينات في تاريخ الفنون الجميلة المعاصرة في سورية» ويؤكد فيه أيضاً على التأثير الفرنسي على الفنانين السوريين مثل « الفيلسوف الفرنسي رينان وتأثيره على المرافقين له من الفنانين السوريين والعاملين في الترميم له أثناء بعثته للتنقيب الأثري في مدينة عمريت، وكذلك المصورون الذين جاؤوا مع الشاعر الفرنسي لامارتين عام ١٨٣٣ للإقامة في خان أسعد باشا في دمشق.»[4]
وهذه الحاجة الملحة للانتقال إلى باريس من أجل الاطلاع على حركة الفن والخوض فيها، كانت مُدركة بشكل واضح من قبل الفنانين، لذا فإننا نرى عدداً أكبر من الجيل اللاحق سيتابع هذا السعي، ونقرأ هذه الرؤية جلية على لسان الفنان فاتح المدرّس في لقاء له مع عبد العزيز علون عام ١٩٦٠ والمنشور في العدد ٢٨٤ في جريدة صوت العرب في السابع عشر من أيار عام ١٩٦٠م. فيجيب المدرّس على سؤال محاوره: «كيف يمكن تدعيم شخصية الفنان العربي، ورفعه إلى مستوى عالمي؟» بقوله: «لدعم شخصية الفنان العربي يجب فتح الأبواب العالمية له من قبل الدولة. (...) بكلمة وجيزة يجب احترام حرية الفنان ودراسة إنتاجه وقابليته ويدنا على ضميرنا»[5].
[3] طارق الشريف، الفن التشكيلي السوري المعاصر في سورية ١٨٩٨-١٩٩٨، غاليري أتاسي، دمشق، ١٩٩٨م.
[4]، دمشق، ٢٠٠٣م. عبد العزيز علون، منعطف الستينات في تاريخ الفنون الجميلة المعاصرة في سوريا
[5] المرجع السابق
المرحلة الثانية:
كانت الهيئات التعليمية الرسمية في سوريا في هذه المرحلة قد أدركت أهمية دور الفن وضرورة حضوره في التعليم، لذا قامت بدعم توجّه الفنانين لتعزيز تدريبهم في الخارج من خلال برامج منح دراسية. ومن الجدير بالذكر أن ما كان مطلوباً من المتوجّهين إلى باريس بهدف العودة للتدريس في كلية الفنون الجميلية في دمشق هو الحصول على دبلوم المدرسة الوطنية للفنون الجميلة «École des beaux-arts» التي تأسست منذ عام ١٨١٧م في باريس، وكان يتم معادلة هذه الشهادة إلى شهادة دكتوراه في الفن عند العودة إلى سوريا. مع أن الفارق الذي يخلقه التصنيف المؤسساتي بين آلية عمل ‘’المدرسة’’ و‘’الكليّة ’’يفرض مناهج تدريب وتدريس مختلفة. وبحسب شهادة الفنانين خريجي الدفعات الأولى فإن هذا الإجراء كان بقرار من الفنان محمود حماد (١٩٢٣-١٩٨٨م) والذي كان أول عميد لكلية الفنون الجميلة في بنيتها الجديدة والذي كان قد أمضى إقامة فنية قصيرة في باريس عام ١٩٦٣م وشعر بروح الفن النابضة فيها وأهمية الاطلاع على مناهج تدريب الفن فيها. لكن بعض الفنانين قد ذهب للتخصص في المدرسة العليا لفنون الزخرفة والعمارة الداخلية «École nationale supérieure des Arts Décoratifs» التي تأسست في باريس عام ١٨٠٢م.
وفي هذه الفترة التاريخية بين سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كان بعض الفنانين ينجز ما يجب إنجازه في باريس ويعود إلى دمشق مثل فاتح المدرس (١٩٢٢-١٩٩٩م)، سامي برهان (١٩٢٩-) خزيمة علواني (١٩٣٤م- )، منذر كم نقش (١٩٣٥-٢٠١٩م)،عبد القادر أرناؤوط (١٩٣٦-١٩٩٢م)،غياث الأخرس (١٩٣٧م-) نذير نبعة (١٩٣٨-٢٠١٦م)، غسان سباعي (١٩٣٩-٢٠١٥م)،عبدالله السيد (١٩٤١-)، إحسان عينتابي (١٩٤٥م- ) في السبعينات، ومحمود جليلاتي( ١٩٤٩م-)، يقظان أتاسي ( ١٩٥٠م- ) ومصطفى فتحي (١٩٤٢-٢٠٠٩م ) وحمود شنتوت ( ١٩٥٦م-) الذي عاد مؤخراً للاستقرار في باريس وأحمد معلا ( ١٩٥٨م-) في الثمانينات.
لكن البعض الآخر أخذ يدرك رغبته في البقاء في باريس للاستقرار الدائم فيها مثل رفيف الرفاعي ( ١٩٥٢م-) صخر فرزات (١٩٤٣-٢٠٠٧م) إبراهيم جلل ( ١٩٤٧م-) وزياد دللول (١٩٥٣م- ) وليلى مريود (١٩٥٦م- ) وماهر بارودي (١٩٥٥م- )، ويوسف عبدلكي (١٩٥١م) أسعد عرابي (١٩٤١م- ) وأمين الدوخي (١٩٤٩ م-) و بشار عيسى (١٩٥٠م-). وكما ذكرنا في المقدمة، إن الدوافع والظروف التي حددت مآلات هؤلاء الفنانين في باريس عديدة ومتشعبة، ولا يمكن في أي حال من الأحوال النظر إليهم كوحدة ثقافية مهاجرة، فنشاطاتهم الفنية كانت أيضاً متنوعة كل حسب ما ينتج وما يبتغي.
ولذا بإمكاننا الاقتراب من بعض الأمثلة التي تمثل كل منها حالة مختلفة، نراها لافتة ومجموعها يعبر عن هموم المشهد التشكيلي السوري في باريس. وإذا كانت علاقة الفنانين السوريين من الجيل الأول مع باريس قد تجلّت في خطوات افتتاحية للمشهد السوري في سوريا، بالإضافة إلى دورهم التعليمي والتدريبي للأجيال اللاحقة، فإن المرحلة الثانية بدأت تتشبث بإثبات ذاتها في باريس. ونذكر منها في البداية تجارب الفنانات وذلك لندرة النساء السوريات اللواتي تابعن العمل الفني بسبب صعوبات منها ما هو بديهي ومنها ما هو خاص متعلق بالتجربة الفنية، نطلع مثلا على تجربة ليلى مريود، ونسلط الضوء على موقفها الفني والنسوي بالمعنى الإنساني. وكذلك تجربة رفيف رفاعي، وتحولها إلى العمل التربوي أمام صعوبة التفرغ للفن وحده بما ينطوي عليه من رهانات، واستمرارها رغم ذلك وعودتها المتقطعة إلى أن تفرغت مؤخراً بعد تقاعدها.
درست ليلى مريود في المدرسة العليا للفنون الزخرفية والعمارة الداخلية . تعيش في باريس منذ عام ١٩٨١ وهي متفرغة للعمل الفني. لدى قدومها للدراسة في باريس لم تكن الفنانة تتقن لغة البلد، وكان هذا حافزٌ لديها لتستكشف القدرة على التواصل خارج حدود اللغة وكانت أعمالها أحد مفاتيح هذا التواصل. في كتاب معرض «الجسد مكشوفاً» الذي أُقيم في معهد العالم العربي سنة ٢٠١٣، نجد لها هذا الشرح: «هوية النساء تسكن أجسادهنّ. ثنائية الوجود والمظهر. نساء حقيقيات، مزينات بضمادات، بحليّ، سجينات قناع اجتماعي، مرئيات أو غير مرئيات، سجينات في دور أيقونة الأم والصمت. (...) في نظرتهنّ، نقرأ كيانهنّ العميق، آلامهنّ، أفراحهنّ، مقاومتهنّ، قوتهنّ وهشاشتهنّ». لذا فإننا نرى جسد المرأة حاضراً دوماً في أعمالها. ابتداءً من عام ٢٠١٥ م، اقتربت ليلى من عالم الشعر، فعملت مع الشعراء : أدونيس وإيتيل عدنان وفينوس خوري على بناء كتب فنية تدور حول الحياة والموت والعزلة. ولطالما خاضت مريود في التجريب دون حدود باستخدام الصورة الفوتوغرافية أو الرسم أو النحت، فهي «تتعامل مع العالم من خلال رغبة عميقة في تجديد مفهوم النحت وأدواته» وبالإمكان رؤية كيف أن الجسد البشري ذاته هو خامة العمل لديها وأن الحليّ والدمى هي طريقة للصياغة النحتية. ومن هذه الجرأة تتوالد أعمالها دوماً.
وأما رفيف رفاعي، التي أنهت دراستها في مدرسة الفنون الجميلة في باريس عام ١٩٨٠م، قد عادت مجدداً إلى باريس لتستقر بشكل نهائي فيها ابتداء من عام ١٩٨٣م. وحينها اشتركت في مسابقة وزارة التربية الفرنسية للحصول على المؤهل لتدريس الفنون التشكيلية في الإعداديات والثانويات. وكانت مُدركة تماماً لمشقّة «التوفيق بين مهام التدريس والعائلة والبحث الفني»، وكانت الفنانة «تستغل الإجازات العديدة للتفرغ للعمل الفني بعيداً عن هاجس التعليم». وفي نظرة إلى أعمالها سنجدها في أطوار من البحث قد عبّرت بالتجريد والتشخيص وصولاً إلى إدخال عناصر جاهزة إلى اللوحة. استخدمت في أعمالها الكولاج والعجائن الورقية والألوان الزيتية والملصقات المتعددة. ابتداء من عام ٢٠٠٣م رسمت المرأة مع التنور وهوكما تراه رفاعي «على شكل الرحم، منشأ الحياة واللهب، المطاف الأخير باللهب». وهذه المفردة أحالتها على أدخال الرمال والمواد المختلطة على لوحتها. ثم عمدت إلى استحضار قميص العسكر، والذي يحاكي «هيمنة العسكر في البلد الأم» ثم ما لبث أن تحول إلى قميص السجين في إشارة إلى ثنائيات الحضور والغياب. تقول رفيف رفاعي: «إن معاناتي في المنفى وفقدان الارض الأم جعلاني أسترسل في تصوير مشاهد تجريدية تمتزج فيها ذكريات المشاهد في سورية وتلك التي أعيش فيها في بلدتي الفرنسية ولذا فإن الهضبة الأم تعود بإصرار.»
وننظر إلى عمل فنانين آخرين، مثل الفنان صخر فرزات. انتقل للعيش الدائم والعمل في باريس منذ عام ١٩٧٧م مكرّساً نفسه بالكامل للعمل الإبداعي إلى أن توفي في عام ٢٠٠٧م. كان فرزات قد عمل كمدرّس في كليتيّ الفنون الجميلية والعمارة في دمشق قبل انتقاله إلى فرنسا. ولقد تدرج عمله من الواقعية في البدايات حتى التجريد الهندسي. يتخلل هذه التجربة الطويلة التي انتشرت في معارض عديدة في أنحاء فرنسا نزوعه إلى إدخال الكلمة مكتوبة بالعربية إلى اللوحة. وهذا التوصيف رغم جفافه ينطبق على لوحته، فهو قد استخدم الكتابة كوحدة تجريدية بصرية بالدرجة الأولى، بعيداً عن الحروفية التزينية أو التخطيط بمدراسه المتعددة. وعند مطالعة مجموع أعماله نلحظ أنه قد أولى أهمية كبيرة لعنوان لوحته، كأنه يريد بها متمماً لغوياً للجانب البصري.
انتقل الفنان يوسف عبدلكي إلى باريس عام ١٩٨١م وحصل على درجة دكتوراه اختصاصية في الفنون التشكيلية من جامعة باريس الثامنة عام ١٩٨٩م . وهومن قلائل الفنانين السوريين الذين تابعوا الدراسة النظرية لتحصيل درجة أكاديمية عليا والحفاظ بشكل مستمر على مسار فني واضح في الوقت ذاته. وبدا نشاط عبدلكي الفني منذ استقراره في باريس مرتبطاً بشكل وثيق بنشاطه السياسي، وبقي في تفاعل مع العالم العربي رغم إقامته في المنفى ثمناً لمواقفه المعارضة لنظام الحكم في سوريا، فاشتغل في فن الكاريكاتير مبكراً وكانت رسومه تنشر في الصحف العربية، وكانت أعماله في الحفر والرسم، خصوصاً الطبيعة الصامتة بتدرجاتها الرمادية ودقتها الواقعية، تحاكي الموت البطيء للفكر والحريات في العالم العربي، واستمر بالعرض في البلدان العربية والبيناليات إلى جانب العروض في فرنسا، حتى عاد إلى سوريا عام ٢٠٠٥م، بمعرض استعادي في خان أسعد باشا، حاضر في ذاكرة الوسط الفني السوري لما كان له من وقع في حينها. وأعماله اليوم مازالت تعرض في الصالات الباريسية.
وعن تجربة الفنان زياد دلول، الذي استقر في باريس منذ عام ١٩٨٤م، واختار أن يكرّس وقته لمرسمه، بعد أن قضى أربع سنوات في الجزائر للمساهمة في بناء مناهج تعليم الفن للمدارس فيها، ولم تكن الأبواب في باريس مفتوحة منذ اللحظة الأولى، فلقد عمل الفنان بتأن واستغراق حتى اطلعت صالة «كلود برنار» الشهيرة على أعماله لتصبح الممثل لأعماله وعروضه. وصالة كلود برنار عريقة مجموعتها تشمل أسماء من أبرز فناني المشهد الفرنسي المعاصر مثل سيزار بلدتشيني وجان دوبوفي وجورج جانكلو. لا شك أن القوة التعبيرية لدى دلول وثقافته العالية كانتا المدخل إلى هذه المكانة المستحقة، بلوحته التي تتنفس روح الانطباعية وتتجاوزها لتلامس تخوم الذاكرة الشخصية. استمرت علاقة زياد دلول مع العالم العربي عبر عدة روابط، لم تقتصر على العرض والحفاظ على التواصل الفكري والثقافي، إنما شملت دورات تدريبية في ورش عمل كان أبرزها ما أقيم في دارة الفنون الجميلية في عمان، والتي كان لها تأثير هام على الفنانين الشباب المتدربين.
وسنتطلع على تجربة الفنان ماهر بارودي، رغم أنه لم يتابع إقامته في باريس، إنما قد درس فيها في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة، وهو أحد أبرز النحاتين السوريين، يقيم في فرنسا منذ عام ١٩٨٠م. استقرّ في مدينة ليون ويعمل فيها كمدرّس في مدرسة إميل كول العليا فيها منذ عام ١٩٩٦م وهي مدرسة خصوصية لتعليم الفن، دون أن ينقطع نشاطه الفني المتنوع بين الحفر والرسم وكذلك النحت رغم صعوبة شروط تنفيذه. ظل ماهر بارودي على صلة مع العالم العربي من خلال الملتقيات والمعارض. يطرح ماهر بارودي في أعماله رؤية ناقدة للنفاق الاجتماعي والعسكرة السياسية، تتميز باستعارة وجه الخروف للتعبير حتى عن الكيان البشري، وتتوضح أفكاره بظهور الأقنعة مراراً في لوحاته، برسوم ومنحوتات مشغولة ببراعة دون أن ينشغل بالتلوين في معظم الأحيان، مكتفياً بقوّة التعبير.
ويعيش الفنان إبراهيم جلل في باريس منذ عام ١٩٧٤ حيث درس في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة، وهو متفرّغ أيضاً منذ ذلك للعمل الفني والعرض في فرنسا. وعلى امتداد تجربته وسعتها فإن جلل يتابع مساره في الفن التجريدي مختبراً عناصر عديدة. وهوإن كان قد تدرّب في فرنسا ضمن تيار التجريد الفرنسي على طريقة بول كلي، إلا أنه يتجه إلى تخصيص مفرداته متأثراً بذاكرته البصرية المتعلقة بمهنة والده كنسّاج، فكان في طفولته محاطاً بالأقمشة والنقوش التراثية وعينه متدربة على تجاور الألوان بصورة مجرّدة. وكما العديد من الفنانين، لم تكن طريقه إلى التفرغ للعمل الإبداعي هيّنة، فلقد واجه لسنوات عديدة صعوبة توفير مكان مناسب للعمل إلى أن استقر في الضواحي الباريسية حيث مرسمه اليوم.
إن التأمل في هذه التجارب يفضي إلى حقيقة أنه على الرغم من تعدد الأسباب التي دفعت بالفنانين للاستقرار في باريس في هذه المرحلة التاريخية لم يكن الهدف هو السعي وراء الشهرة أو الكسب المادي، إنما الرغبة بالتحرر سواء كان فكرياً أم اجتماعياً أم سياسياً. ونقرأ في معظم هذه التجارب روابطاً عاطفية وذاكراتية بصرية وثيقة مع سوريا وهموماً مرتبطة بواقع المجتمع السوري، وسيختلف شكل هذه الروابط لدى الجيل اللاحق.
جيل الشباب:
هنالك مجموعة من الشباب الذين قدموا لدراسة الفن أو الانخراط في الواقع الفني ومواكبة الحداثة. منهم من قدموا قبل عام ٢٠١١م مثل خالد تكريتي وبثينة علي ومحمد عمران ونغم حذيفة وعلا عبدالله و فراس جباخنجي و ولاء دكاك،. أوبعد عام ٢٠١١م مثل خالد الخاني، خالد ضوا، علاء أبو شاهين، رندة مداح، وليد المصري، بيسان الشريف ، دينو أحمد علي، عمر إبراهيم، وريم يسوف وهم معظمهم من مواليد الثمانينات وبعضهم من مواليد السبعينات، بالإضافة إلى مجموعة من الشباب الذين قدموا لدراسة الفن مثل قيم طلّة ولينا صمودي وعمر نصيرات. ورغم أن هذا التاريخ ٢٠١١ هو تاريخ جوهري وفارق في حياة السوريين ومصير بلدهم، فهو يسجل انطلاقة الثورة السورية وما تبعها من أحداث وتحولات وتشوهات في البنية الاجتماعية والمعمارية على حد سواء، إلا أننا في ذكرنا لا نود تصنيف الفنانين حسب هذا التاريخ بل هو توصيف توثيقي.
وسيكون للمقالات الأخرى في هذا العدد أن تلقي الضوء على بعض من تجاربهم، لكن لا بد من التنويه باختصار إلى هذه المفارقة: بأن الصعوبات التي تواجههم اليوم مختلفة وعديدة، وآلامهم شديدة ودروبهم عسيرة، لكن من جهة أخرى وبسبب بروز اسم سوريا كبلد تدور فيه أعنف حرب معاصرة، قد تشكّل فضول للتعرف على فنّهم، ورغبة في كشف الغطاء عن نتاجهم، ولا شك أن هذا التوجه قد تم استغلاله بشكل مفرط في بعض الأحيان، سواء من قبل المؤسسات أومن قبل الفنانين السوريين أنفسهم.
دور المؤسسات وصالات العرض :
كما في كل التحركات الفنية ابتداءً من أوائل القرن العشرين في العالم، تلعب المؤسسات الثقافية دوراً كبيراً في تنشيط وتعزيز أو حتى إحباط النشاط الفني الإبداعي. ينطبق هذا إذا بطبيعة الحال على نتاج الفنانين السوريين في باريس.
لقد حضر الفنانون السوريون في معارض فردية عديدة وصالات عرض باريسية، أو باريسية أصحابها من أصول عربية. وقبل النظر إلى المؤسسات الخاصة، لا بد من الإشارة إلى دور المؤسسات الرسمية. وفي الحقيقة، من يتتبع المشهد الفني في سوريا، سيسترجع على الفور بيئة ثقافية كانت فاعلة جداً في دمشق وهي «المركز الثقافي الفرنسي». نذكر هذا المركز لأنه كان على نحو ما بوابة الفنانين السوريين إلى باريس. ومثال ذلك الفنان سبهان آدم الذي انطلقت أعماله إلى باريس عبر العروض التي أُتيحت له في المركز في معارض فردية كان أولها عام ١٩٩٥م. كما شكّل المركز عتبة أولى للشباب الذين درسوا اللغة الفرنسية في أقسام المركز كخطوة ضرورية للانتقال إلى باريس. في المقابل وبشكل مؤسف لم يكن «المركز الثقافي السوري في باريس» فاعلاً بشكل مفيد للحركة الفنية السورية، رغم أنه قد استقبل العديد من المعارض، بقي دوره وتأثيره محدوداً. فآلية عمله كانت مشابهة للإجراءات الإدارية ولم يكن ضمن توجهاته ما يفتح الآفاق للفنانين.
ومن أبرز المؤسسات التي أتاحت عرض أعمال الفنانين السوريين في باريس «معهد العالم العربي» و«معهد ثقافات الإسلام» القليل جداً منها كُرّس للفن السوري بشكل خاص ومعظمها قدّم نتاج فنانين عرب بشكل عام في عروض جماعية. وأبرز الأمثلة بالنسبة لحضور الفن السوري معرض الفنان فاتح المدرّس عام ١٩٩٧م، الذي أقيم في معهد العالم العربي بتنظيم «صالة أتاسي»، لتسليط الضوء على تجربته الهامّة، وكان لهذا الحدث أثراً هاماً في التعريف عن المدرّس في فرنسا رغم حقيقة عدم إقامته فيها.
كما نذكر صالات كلود لومان ومارك هاشم وأوربيا، بالإضافة إلى الصالات التي مثلت الفنانين لفترات متواصلة مثل صالة كلود برنار التي تمثل الفنان زياد دلول وصالة إيمان فارس التي عرضت لليلى مريود. وكان لهذه الصالات دوراً هاماً ليس محصوراً بالعرض الدوري والتسويق للأعمال، إنما قامت أيضاً بتمثيل الفنانين في الأحداث السنوية الباريسية الكبرى مثل «معرض الفنون في باريسArt Paris Art Fair» و«الفياك، المعرض الدولي للفن المعاصر Foire internationale d'art contemporain» رأينا فيها أعمال يوسف عبدلكي وخالد تكريتي وزياد دلول وليلى نصير وسبهان آدم وأسماء أخرى. وعلى مدار عقود عرضت هذه الصالات لفنانين ليسوا بالضرورة من المقيمين في باريس محاولة بذلك إقامة روابط للفنانين السوريين في الداخل مع باريس، العاصمة التي يسعى إليها الفنانون من كل العالم.
وخلال السنوات القليلة الماضية، بعد عام ٢٠١١، شهد الفن السوري في باريس حضوراً أقوى وتمثيلاً أكثر أهمية، يترافق مع قوة النشاط الشاب من قبل الفنانين الشباب وتعدد وسائطهم التعبيرية وانخراطهم بشكل فعلي كجزء من حركة الفن العالمية، حيث أثبتت أعمالهم قدرتها على الحضور والمنافسة. ونذكر من المبادرات التي أرادت تسليط الضوء على تجارب الشباب وتقديم صورة فنية بعيدة عن الحرب مشروع «القافلة الثقافية السورية» التي تأسست عام ٢٠١٤م انطلقت من باريس لتتجول في المدن الفرنسية بغية التعريف بالفن التشكيلي السوري، ومشروع «الأبواب المفتوحة» الذي تأسس عام ٢٠١٧م بشراكة وتعاون بين سيدات فرنسيات وسوريات، بدأ المشروع بفتح أبواب مراسم الفنانين، رغم صعوبة شروطها، للجمهور الفرنسي، واستمرت على شكل معارض مخصصة للفنانين السوريين، انتهت بمعارض مفتوحة متحررة من تصنيف الهويات في معارض تجمع السوريين بغيرهم من الفنانين المقيمين في باريس.
دور النقد والتوثيق:
نصل هنا في آخر هذه البحث إلى محاولة التأمل في دور النقد والتوثيق. في الحقيقة أن توثيق النتاج الفني السوري وتأريخه ونقده والتنظير له، جميعها مجالات لا تزال قيد التأسيس والتطوير. وهذا ينطبق إلى درجة كبيرة على حركة الفنانين السوريين في باريس. يجب القول بداية أنه منذ بدايات دخول الفنون التشكيلية إلى سوريا متمثلة باللوحة والمنحوتة والمحفورة لعب الفنانون أنفسهم بطريقة ما دور الناقد، وذلك من خلال نقاشاتهم على هوامش المعارض أوفي دفاتر المعارض المخصصة لاستقبال كلمات الزوار أو تقديم رؤاهم في كلمات افتتاحية للكتيبات المعارض. وهكذا فإن معظم العمل التوثيقي أو النقدي مرتبط بحدث العرض سواء في دمشق أم في باريس. لكن تجب الإشارة إلى إصدارات توثيقية سورية نادرة تناولت بطبيعة الحال الفنانين السوريين المقيمين في باريس منها «الفن التشكيلي المعاصر في سوريا» من إصدار غاليري أتاسي لعام ١٩٩٨م و«منعطف الستينات في تاريخ الفنون الجميلة المعاصرة في سوريا» لعبد العزيز علون الصادر عام ٢٠٠٣م بتمويل السيد محمد دعدوش مؤسس صالة «الفن الحديث العالمي» أول صالة عرض فني في سوريا في عام ١٩٦٠م، وبعض الأفلام والصور التوثيقية.
ويمثل الفنان أسعد عرابي بالنسبة للمشهد السوري حالة نادرة للفنان الباحث الذي استمرّ بممارسة الكتابة التخصصية مهتمّاً بشكل كبير بالفن السوري. ونعتبره اسماً من الحركة التشكيلية السورية رغم أنه لبناني الأصل وفرنسي الجنسية نظراً لعمله الطويل ضمن مشهدها وتدريسه في كلية الفنون الجميلة في دمشق ومعارضه العديدة فيها. درس عرابي الفنون الجميلة في باريس ثم تخصص نظرياً حتى حصوله على درجة الدكتوراه بتخصص علم الجمال وعلوم الفن عام ١٩٨٧م من جامعة السوربون. وبحكم إقامته في باريس فهو مطلّع بشكل وثيق على النشاطات التي تقام فيها ويقوم بالكتابة عنها بشكل دوري في صحف مثل الحياة وضفة ثالثة. وفي كتابه «المصوّر في مرآة الناقد» الصادر عن بينالي الشارقة عام، بإسلوب فريد يقوم فيه عرابي بطرح أسئلة على ذاته، منها ما كان قد وصل إليه بالفعل ومنها ما يفترضه، ونجد فيه أسئلة جوهرية تمس صلب موضوعنا، مثل تساؤله: «لماذا تتباعد عروض فناني المهجر في بلادهم؟ تفد إلينا كشرائح معزولة عما سبقها وعمّا يتلوها؟ ألا يرسخ هذا التقطع طابع الغربة، خاصة عندما تكون حداثة التطور متسارعة، تحمل في كل عرض جرعات تثير الدهشة، إن لم يكن الصدمة؟ حتى بالنسبة إلى المتلقي المدرب ؟»[7] ثم يتطرق عرابي إلى بيروقراطية المؤسسات وصعوبة الحركة بين الداخل والخارج، وأسئلة أخرى تتعلق بالحالات الفكرية التي نراها بعض ما يحرك الفنانين للتوجه خارجاً مثل أسئلة التحريم والقطيعة (الانقطاع عن الإنتاج الفني ومواكبة الوسائط ليس ما بعد الحداثة فقط وإنما حتى اللوحة والمنحوتة)، كما يتناول سلطة النقد، التي تشير إلى أهمية هذا التخصص في دعم الفنان وتعزيز مكانة موهبته. ومن الجيل الشاب نذكر أسماء الفنانين الباحثين: نغم حذيفة وعلا عبدالله ومحمد عمران كاختصاصيين في نظريات الفن وتاريخه، بالإضافة إلى نور عسلية كاتبة هذا المقال.
[7]، بينالي الشارقة الدولي الثالث للفنون ١٩٩٧م. أسعد عرابي، الفنان في مرآة الناقد
نذكر أيضاً من الأحداث الهامة التي سعت إلى تعزيز صورة الفن السوري بالمجمل مؤتمر «الفن السوري المعاصر: تاريخ ثورة بصرية» الذي أقيم بتنظيم من مجموعة «الأبواب المفتوحة» في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في باريس، قدّم صورة عن نتاج الفن السوري بمشاركة باحثين وأصحاب صالات ومنظمي معارض. كما يسعى موقع «الذاكرة الإبداعية السورية» إلى توثيق أكبر عدد ممكن من أعمال الفنانين السوريين بمختلف اختصاصاتهم ومن ضمنهم المقيمين في باريس، دون أن يتطرق إلى تصنيفات نقدية.
نختتم مقالنا هذا بجواب السيدة فيرونيك ريفيل المديرة السابقة لـ «معهد ثقافات الإسلام» في باريس والمتخصصة بالفن في الشرق الأوسط وأفريقيا في كتابتها ونشاطها كمنظمة معارض. فعند سؤالنا لها «كيف تنظر إلى المشهد الفني السوري في باريس ؟» أجابت:
«لطالما كنت مهتمًة بالمشهد الفني السوري المعاصر، ولكنني أعرف أكثر المشهد الذي اكتشفته في سوريا في أربع زيارات قمت بها قبل الثورة، من خلال: متحف الفن الحديث، الحي اليهودي القديم الذي اختاره العديد من الفنانين للإقامة، «دمشق عاصمة الثقافة العربية» وغيرها. ولطالما أثار هذا البلد اهتمامي بشكل كبير، لأن فن المعاش موجود فيه في كل مكان: ليس فقط في الحقل الفني ولكن أيضًا في الحياة في طريقة الوجود وفي اليوميات. بالطبع، بطريقة ما، أجبرت الثورة العديد من الفنانين على القدوم إلى باريس وبرلين وغيرها للبقاء على قيد الحياة ومواصلة أعمالهم الفنية، مما أتاح مزيدًا من القرب والشغف من قبل جمهور أوسع (رغم أنه لا يزال محدوداً) من أجل التعرّف على ثراء الفن السوري المعاصر.»