"الحقائق في الروايات كلها حقائق نسبية " -Tom Robbins
تصوّر التالي : خريطة (مصفرّة قليلاً لكونها قديمة) مستلقية على سطح، مثل مريض يستعد للخضوع لعملية جراحية (أو ربما ينبغي القول، "مخدّر فوق طاولة"). توجد داخل هوامش الخريطة وديان رملية بلون كريميّ شاحب، تفسح المجال لظلال أغمق كثيراً باللون البرتقالي- البني، كلما اقترب المرء من الحواف مع ارتفاع الأرض إلى التلال المحيطة بها. يقطع عبر المناظر الطبيعية من الجنوب الشرقي شرخ أخضر حيوي، وادي دجلة، عبارة عن شعلة مضيئة من الحياة النباتية تنفجر داخل الإطار وبعد ذلك، حركة. زوجان من الأيدي يجتاحان الأرض. تتحرّك الأيدي فوق الخريطة، ترسم خطوطاً بقلم الرصاص والمسطرة معلنةً عن حدود وأوهام ومن ثم تقوم بمحوها وإعادة رسمها. في وسط هذا العرض الشبيه بأسلوب اسكر(M. Escher)، من رسم الحدود الجيوسياسية السوريالية، تلعب الموسيقى التصويرية دقة طبل لطيفة فترفع الإحساس بالترقّب، في الذروة بينما يتم شحذ الأقلام الملونة مثل السيوف المجازية الجاهزة للانقضاض وتقطيع الأرض من جديد. مع كل محوٍ، تخدش قطعة المطاط الورق بشكل محموم وبجنون، وتزيل ليس فقط الرصاص بل الورق أيضًا، تمزّق الصفحة، بحيث يقسم كل شق الأرض أكثر وأكثر. حقًا أن القلم أقوى من السيف. عنوان العمل «مناقشة بين سيديّن» ، وكل شخص ملمّ ولو قليلا بتاريخ الشرق الأوسط لا يحتاج إلى أي تعريف عن هوية هذين السيّدين الحقيقية.
يقول بادي دلّول : "أستكشف عشوائية حصول الأحداث التاريخية، تصبح ممارسة رسم الحدود تمريناً خاصاً على الرسم بحد ذاته. أفعال هذه الأقلام عشوائية ومع ذلك فهي ترسم مصائراً تعمل على ترسيخ أقدار لأجيال". هذا هو الحال منذ آلاف السنين، مع توسّع الامبراطوريات وتقلّصها في جميع أنحاء العالم. تقتطع كل قوة حاكمة الأرض حولها وتغيّر حياة الشعوب إلى الأبد. "من الغريب كيف أنه، مع الوقت، ما كان يبدو أفعال عشوائية كليًا يصبح الوقائع التاريخية الهادفة التي نتعلّمها في المدرسة". يقول الفنان، " نحن نتشبّع بغاياتها بطريقة ما. تدهشني عملية "كتابة التاريخ" هذه – وكيف نحن الناس المتأثرين بها نكون دائمًا شهوداً ولكن غير مشاركين أبداً".
ولد بادي دلّول في باريس عام ١٩٨٦م. انتقل والداه، الفنانان زياد دلول وليلى مريود إليها قبل ولادته بسنتين. وفي باريس ترعرعت أسرتهما الصغيرة. في طفولتهما، كان بادي وشقيقه جاد يمضيان فصل الصيف في منزل جدّيهما في دمشق. وهناك تسرّبت الوقائع الجيوسياسية في المنطقة إلى حواف طفولتهما، حاضرة دائمًا مع أنها لم تكن مفهومة تمامًا لديهما. في الواقع، بدأت أعماله التي تشبه الأفلام الوثائقية بأسلوب بحثي دقيق (مؤلفة من دفاتر ملاحظات، فيديو وأشياء أخرى مُكتشفة) حسب قولِه، على شكل لعبة. وهذا أمر يتوافق مع اهتمامه البالغ بالألعاب التي تلعبها السلطات والحكومات، متخّذين من البلدان والشعوب في أغلب الأحيان بيادق لهم، غير مدركة للحقيقة. "كنا أنا وأخي نشعر بالضجر خلال أيام عطلة الصيف الطويلة في دمشق، " يقول بادي. "ولكي نتسلّى، كنا نتخيل أننا ملوكًا لبلادنا الخيالية. كان جاد ملك "جاد لاند" (أرض جاد)، وكنت أنا أحكم "بادي لاند"، (أرض بادي). كلّما كتبنا ورسمنا أكثر، كلما أصبحت تلك البلدان حقيقية".
أصبحت هذه اللعبة، دون وعي، وسيلة يتعامل من خلالها الفَتيان مع الحياة اليومية حولهما؛ مثل إحساس بإعادة النظام إلى عالم من الفوضى. " لم نكن بالضرورة مدركَين تمامًا للأحداث السياسية التي تجري في ذلك الوقت. لكننا بالتأكيد مدركين لتأثيرها علينا". يضيف، " في بعض عطلات نهاية الأسبوع، لم يكن يُسمح لنا بالذهاب إلى أماكن معينة في أوقات معينة. أو كان علينا تأجيل أنشطتنا من جرّاء الحرب الأهلية اللبنانية. بما أننا كنا نمضي معظم أيام السنة في باريس، كانت تجري مختلف الأحداث في دمشق دون أن نكون بالعادة مطّلعين عليها. فجأة تأثرت الكثير من الأشياء العملية التي لم نكن نفكّر بها. كنا أيضًا على معرفة تامة بالفرق في مستوى المعيشة بين المدينتين وكان يُدهشنا، لكوننا ملكين على هذين البلدين النموذجيين، أنه كان لدينا الحلول الجاهزة لكل المشاكل التي نراها حولنا".
أصبحت (بادي لاند) في نهاية المطاف مشروعًا يتألف من سبعة دفاتر ملاحظات (١٩٩٩-٢٠٠٤م)، ويطرح السؤال : هل البلد الخيالي أقل واقعية من الحدود المصطنعة والأوهام المفروضة على الشرق الأوسط من قبل القوى الامبريالية؟ نقطة: هل القوانين التي ابتكرها الفتى بادي وشقيقه جاد أقل تعسّفًا من تلك التي ابتكرها مارك سايكس وفرانسوا-جورج بيكو؟ أو كليمنصو ولويد جورج؟ أوسلو، بالفور، الجزائر، كامب ديفيد؟ " العِلم بأن الوضع نفسه حدث في مكان آخر يشعرني بالراحة. يجعلني أشعر بأننا أقل وحدة، وبأن الأحداث التي جرت في الشرق الأوسط مردّها النمط البشري. عندما أسمّي عملاً ما «مناقشة بين سيّديّن» ، وليس "اتفاقية السيد سايكس والسيد بيكو"، تكون هذه طريقتي في القول أنني لا اشير بإصبع اتهام إلى شخص محدد أو شعب محدد. أنا فقط أرسّخ نمطًا يمكن أن يفهمه الجميع دون الخلفية الثقافية التي تُعقّده أحيانًا".
هذا الانبهار بالبلدان الخيالية والأقدار البديلة أصبح الفكرة المهيمنة على عمل دلّول، كما يظهر بوضوح، مثلاً، في العمل الذي أنتجه عام ٢٠١٤ «سكراب بوك» (سجل القصاصات)؛ الحافل بالملاحظات، الصور وفن قص وتشكيل الورق (أوريجامي). استوحاه الفنان من حياة فتاة حقيقية اسمها ساداكو. كانت الفتاة ضحية لتأثيرات إشعاع القنبلة التي ألقيت على هيروشيما. وكانت تعتقد بأنها إذا ما قامت بِطوي ألف شكل من أشكال الأوريجامي فستتحقق أمنيتها بمتابعة حياتها. لسوء الحظ، توفيت الفتاة قبل أن تنجز هذا العمل - ولكن خلال رحلة قام بها دلّول إلى اليابان- وجد دفتر ملاحظات وتخيّل أنه قد يخص تلك الفتاة فاستخدمه كأساس لعمله، مازجًا قصة حياة ساداكو مع قصص حياة من سوريا والشرق الأوسط الأوسع. يقول الفنان،" بما أنني نشأت بين باريس ودمشق، لم أشعر أبدًا بأنني غريب عن أي من هاتين المدينتين. لكن عندما سافرت إلى اليابان، اكتشفت أنني أرى العالم للمرة الأولى. شعرتُ كأن دوانييه روسو يرسم النباتات الاستوائية في دفيئة باريس. شعرت كأنني طفل يعيد اكتشاف أحرف الأبجدية. رأيت مدينة وبلدًا كشخص غريب بالفعل ورأيت كل شيء بوضوح تام. كيف تمكّنت بلد مثل اليابان، -و فيها مدن مثل هيروشيما - التي انمحت عن الوجود تقريبًا، من بلوغ المركز الذي جعل منها قوة اقتصادية عالمية. وبعكس ذلك، كيف أن سوريا التي عرفها أهلي انحدرت إلى الموقع الذي نشهده الآن". يمزج «سكراب بوك» بين الحقيقة والخيال، الحقيقة المثبتة مع نتائج خيالية بديلة باستخدام اللغة الانجليزية لتمثيل السرد التاريخي كما هو مقبول على نطاق واسع واللغة الفرنسية كما اختبره الفنان. تتشابك اللغتان، وتلتف حول تمتمات من العربية واليابانية، مثل لحنين يلعبان معاً: لغتين، واقعين.
تتكشف التواريخ الموازية والبديلة بشكل أكبر في إنتاج دلّول عام ٢٠١٦م وهو عبارة عن سلسلة من اثنين وعشرين كتابًا مخصصة لتونكيرو؛ دولة خيالية في المحيط الهادئ تحمل أوجه تشابه غريبة مع الشرق الأوسط. بتاريخها الاستعماري الموازي، حقيقي وغير حقيقي في الوقت عينه، تقدّم تونكيرو لمحة عن واقعٍ بديل، وتتوق إلى ما يمكن أن تكون عليه الأمور. بشكل حاسم، عبر خلقِ دولة خيالية، دون مفهوم ثقافي محدّد، يمكن لدلّول أن يتفحص الأفعال السياسية والاجتماعية بطريقة تُظهر عالميتها. لا يعني هذا أنه يعمل في الفراغ – إذ أن انتباه الجمهور هو جزء أساسي من عمله والسبب في احتواء الكثير من أعماله على الفيديو. يقول الفنان، " يجب أن أقول أنني أحب الكتب. لكن بواسطة الفيديو، يوافق الشخص على تحديد مدة معينة من وقته. مثلما يتصفّح الشخص صفحات كتاب، بوسع الفيديو أن يكون بمثابة نقطة دخول إلى عمل ما؛ إيقاع لطيف يسمح لك باستيعاب المعلومات المقدّمة بالكامل. في عملي، تكمّل الكتب والفيديوهات بعضها إلى أبعد حدّ – لكن الأخير يفرض الزمانيّة".
في أعمال أخرى، مثل «بلد بدون باب أو نوافذ» (٢٠١٦م)، تُرغم رسومًا صغيرة جدّا مؤطّرة في علب الثقاب، الناظر إليها على الاقتراب منها، ليواجه رسومات بالحبر الجاف تمثل العنف والاضطراب الاجتماعي. يقول دلّول، "أذهلتنا الصور التي أتت من سوريا. في البداية، استلهمت تلك الرسومات الصغيرة من اهتمامي وأنا صبي بجمع الطوابع، فرسمت مشاهد عادية ويومية. ولكن مع تزايد العنف في سوريا، كبر العنف أيضاً في هذه الصور. بدا وكأنه لا يوجد أي حدود للأهوال التي كنا نشهدها. كانت في كل مكان ولا مكان للفرار منها. كان رسمها بهذا الشكل بمثابة وسيلة للسيطرة عليها، استيعابها وترتيبها بشكل يرغم الآخرين على رؤيتها، استيعابها وفهمها أيضاً".
هناك الكثير للاستيعاب، الكثير للفهم والكثير للتعلّم من التاريخ. لكن التاريخ، عامة، ينتمي إلى الفائزين، أو ربما ينبغي أن ينتمي للكتّاب؟ .في النهاية، هيرودوتس، أبو التاريخ، يُعرف أيضاً بأبي الأكاذيب – تصبح المعلومات الخاطئة والأحداث العشوائية حقيقة صعبة وتتّخذ حكايات ذات مغزى على التوالي. "لهذا السبب أحب العمل مع الأشكال الموجودة: أنا لا أغيّرها، بل أعمل عليها"، يقول دلّول. "أنا لا أعمل على إعادة تشكيل التاريخ الحالي أو تحويله إلى واقع مختلف. أنا أجعله أكثر وضوحاً فقط ".