منذ القرن التاسع عشر، عالج المنتج الفكري الغربي قضية دور المتاحف في التعليم، وفي القرن العشرين، تبنّت العديد من الحكومات الغربية ودعمت هذا المفهوم انطلاقاً من كون التربية والتعليم أصبحتا ركيزتين للمتاحف. وقد أقرّت المتاحف في سوريا بأهمية مسؤوليتها التعليمية، وإن كان نظرياً. لكن التطبيق العملي لهذا الدور بقي غائباً عن البلاد بدرجة كبيرة لأسباب اجتماعية وسياسية مختلفة.
تناقش هذه الورقة الدور التعليمي للمتاحف في سوريا، وأثرها على انخراط الفئات العمرية الصغيرة في التراث الثقافي للبلاد. تتطرق أولاً إلى تطور المتاحف باعتبارها مراكز تعليمية في الغرب، قبْل دراسة السياسات التي اتبعتها المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا، ثم تحلل المنهاج المدرسي السوري الموحد ودوره في نسج علاقة مع المتاحف. وأخيراً، تسبر الورقة أحدث المبادرات التي تهدف إلى التقريب بين المتاحف والمؤسسات التعليمية، وما لها من تأثير على الشباب السوري، ومستقبل انخراط العامة في التراث الثقافي السوري.
خلفية: المتاحف كفضاءات تعليمية
كانت إتاحة المجموعات الخاصة للعامة في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بمثابة تجسيد بليغ للقيم العليا الجديدة المتمثلة بالمساواة والأخُوة والحرية، وقد شكّل ذلك خطوة باتجاه تعليم العامة وجلب الثقافة – بمعنى الثقافة الرفيعة في هذه الحالة – إلى الجماهير.[1]أتى افتتاح المتاحف العامة الكبيرة في القرن الثامن عشر في أرجاء أوروبا، ولا سيما اللوفر في باريس والمتحف البريطاني في لندن – متزامناً مع عصر التنوير، وكان التعليم مشمولاً ضمن مهمة هذه المتاحف، وبحلول مطلع القرن التاسع عشر، أصبح يُنظر إلى المعروضات باعتبارها منهلاً للمعرفة وتطوراً محتملاً للمجتمع.[2] وفي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، بدأت دول مثل ألمانيا وبريطانيا العظمى وفرنسا وغيرها بتقديم دعم مالي لتطوير برامج تعليمية في المتاحف.[3]
شكّلت الحربان العالميتان الأولى والثانية نقطة تحوّل جديدة بما أن التغييرات السياسية الناتجة عنهما، ولا سيما تقسيم أوروبا إلى شرقية وغربية، تركت أثرها على الممارسات المتحفية. ففي دول أوروبا الشرقية التي أصبحت تحكمها أنظمة شيوعية، كان مطلوباً من المتاحف أن تقوم بأنشطة ثقافية وتعليمية تهدف لدعم الأهداف الموالية للنظام، وهو ما أدى إلى إصابتها بحالة من الجمود.[4] في هذه الأثناء، سلكت المجتمعات الديمقراطية في أوروبا الغربية نهجاً مختلفاً، وسادت نظرة إلى الدور التعليمي للمتاحف باعتباره فرصة مواتية، ولهذا أتى التوسع على هذا المستوى بوتيرة سريعة وفي ظل دعم مالي حكومي. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، ربطت تشريعات متعددة بين مجموعات المتاحف والمنهاج المدرسي الوطني الجديد الذي طُرح في ثمانينات القرن العشرين، والذي شرّع الباب واسعاً أمام المتاحف لتعمل بسهولة أكبر مع المدارس، وهو مجال شهد نمواً مضطرداً بين أواخر القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين.[5] أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن دور المتاحف كمؤسسات تعليمية لا حدود لها تبلور قبل ذلك بفترة طويلة، إذ أن 15 في المئة من كافة المتاحف في الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين كان لها برامج تعليمية. وكانت أنشطة التواصل مع العامة تتم من خلال جولات لتلاميذ المدارس ومواد تعليمية مطبوعة وإعارة مقتنيات للاستخدام في الصفوف المدرسية. وفي عام 1973، أنشأت "رابطة المتاحف الأمريكية" لجنة مختصة دائمة تتمحور حول التعليم، ومن خلال التقرير الهام جدا الصادر عنها عام 1991 تحت عنوان "التميز والمساواة: التعليم والبُعد العام للمتاحف"، دعت الرابطة إلى دعم تشريعي ومالي للمتاحف بالنظر إلى الأولوية الممنوحة للمؤسسات التعليمية.[6]
انعكس الدعم الحكومي للمتاحف على النتاج الفكري الصادر عن المتاحف في الغرب – وخصوصاً في المملكة المتحدة – خلافاً لما عليه الأمر في سوريا،[7] إذ يُحاجج الباحثون بأنه لا بد للمتاحف أن تنظر إلى التعليم باعتباره مهمة جوهرية من أجل كينونتها نفسها.[8] وفي 2007، قدّمت إيليان هوبر-غرينهيل، التي تُعتبر من أبرز الباحثين في هذا المجال، حصيلة البرامج التعليمية في متاحف المملكة المتحدة مستعينة ببيانات جمعتها بأساليب نوعية وكمية من أصحاب تجربة في هذا المجال، واشتمل ذلك على مدرِّسين وتلاميذ وأخصائيي تعليم في المتاحف. وتتمثل أهمية هذه الدراسة بإظهارها إمكانية تقييم التجربة التعليمية بشكل مناسب،[9] وهو ما يمهّد الطريق إلى قياس الأثر الملموس للاستثمار في البرامج التعليمية للمتاحف. ومن بين النتائج التي توصلت إليها، تحديد أدوات لقياس التعليم من خلال المتاحف في إطار فكري يمكن للباحثين استخدامه. كما استقصت مفهوم المدرِّسين لحصيلة تعليم تلاميذهم من خلال المتاحف، بالإضافة إلى دراسة الحصيلة الأهم للتعليم عبر المتاحف بالنسبة للتلاميذ والمدرِّسين.
المتاحف في سوريا ودورها في التعليم
يوجد في سوريا حوالي 30 متحفاً في 14 محافظة، تشرف عليها جميعاً المديرية العامة للمتاحف والآثار، وتضمّ معظمها مجموعات أثرية،[10]بالإضافة إلى متاحف مثل المتحف الحربي (دمشق) ومتحف التقاليد الشعبية (حلب/دمشق) ومتحف قصر العظم (دمشق). يشمل المتحف الوطني في دمشق مقتنيات من كافة مناطق سوريا والحقب الزمنية، بينما تم تخصيص متحف حلب للمقتنيات من شمال البلاد. أما بقية المتاحف في المناطق السورية فتعرض لقى من المواقع الأثرية المحلية.
ومنذ استقلال البلاد عام 1946، تشغل المديرية العامة للمتاحف والآثار دور السلطة الإدارية الوحيدة المشرفة على التراث الثقافي لسوريا (من متاحف ومواقع أثرية وغيرها)، ولذلك فهي المسؤولة عن رسم معالم الدور التعليمي الذي تضطلع به المتاحف في البلاد. ولفهم أفضل لرؤية المديرية العامة للمتاحف والآثار، من المفيد استعراض "مجلة الحوليات الأثرية السورية" وغيرها من المنشورات الصادرة عن المديرية. وبالنظر إلى أن محرري وكتاب هذه المجلة هم مدراء هذه المؤسسة وكوادرها، فيمكن اعتبارها بمثابة مؤشر على السياسات العامة للمديرية العامة للمتاحف والآثار منذ عام 1951، وهو تاريخ صدور عددها الأول.[11]
وعند تصفّح نماذج من هذه المطبوعات، يتبيّن أن معظمها يضمّ مقالات وصفية مباشرة تتحدث عن المقتنيات الموجودة في هذه المتاحف[12] وقيمتها التاريخية، وقليلة هي المواد التي تتحدث عن الصورة الأكبر المتعلقة بالدور التعليمي الكامن للمتاحف في سوريا. ورغم أن المقالات الوصفية تعليمية كذلك، إلا أنها لا تتطرّق بشكل مباشر إلى أثر التعليم على الجيل الشاب، وهو ما يعززه الشكل الثاني من المواد. لكن هناك نموذج هو عبارة عن تقرير يعود لعام 1965 كتبه المدير العام آنذاك للمديرية العامة للمتاحف والآثار عبدالسليم عبدالحق تحت عنوان "المتاحف والتعليم"، وتم عرضه في اجتماع دولي لخبراء يتمحور حول دور المتاحف والتعليم. أشار عبدالحق في هذا التقرير إلى المشاكل التي تواجه المتاحف السورية، وخطة المديرية لافتتاح مجموعة جديدة من المتاحف، لا تقتصر على تلك المخصصة للآثار، وذلك لتكون بخدمة الشعب السوري وتعليمه بشكل أفضل.[13]
لكن للأسف لم تتحول هذه الخطة إلى واقع بسبب التغييرات اللاحقة التي طرأت على المشهد السياسي في سوريا بدءاً من السبعينيات، وقد انعكس ذلك حتى بتغيير محتوى، بل وحتى اسم مجلة المديرية العامة للمتاحف، من "مجلة الحوليات الأثرية السورية" إلى "مجلة الحوليات الأثرية العربية السورية" مع تحوّل التركيز من المتاحف في سوريا إلى نطاق أوسع يشمل المتاحف في الوطن العربي. حتى أنه ومنذ السبعينيات، كانت كل مقالات مجلة "الحوليات الأثرية العربية السورية" متعلقة بالمتاحف في الوطن العربي، دون أن تشير أي منها إلى المتاحف السورية أو دورها في المجتمع أو التعليم.[14] ونتيجة لعدم تركيز الحكومة على المتاحف المحلية، أصبحت العلاقة بين المتاحف وعامة الجمهور السوري ضعيفة جداً، إن لم تكن منعدمة، وهو ما حرم المتاحف من القدرة على الاضطلاع بدور تعليمي بالنظر لكون العائلة السورية العادية لن تأخذ زمام المبادرة وتزور متحف مع أطفالها. وتتمثل إحدى الفرص القليلة المتاحة أمام المتاحف لأداء هذا الدور بوجود صلة مباشرة مع المدارس، لكن وبحسب الدكتور يوسف كنجو، المدير العام السابق للمتحف الوطني في حلب، فإن هناك هوة واضحة بين المدارس والمتاحف. كانت الزيارات المدرسية قبل صراع 2011 بمثابة نشاط روتيني إلى حدّ كبير، وتجري دون استراتيجية أو تخطيط تعليمي، إذ كانت تصل أعداد كبيرة من التلاميذ دون أي تنسيق مسبق مع المتاحف، أو أي أنشطة إرشادية يقوم بها المعلِّمون. وساعدت حالة مماثلة في المواقع التاريخية والأثرية،[15] وهو أمر لمسته كاتبة هذه الورقة البحثية بنفسها من تجربتها كمتطوعة في المتحف الوطني في حلب بين عامي 2005 و2006.
المنهاج الوطني السوري والمتاحف
يشتمل النظام التعليمي في سوريا على مرحلة الدراسة الابتدائية التي تستمر ست سنوات، تليها الدراسة الإعدادية لثلاث سنوات، ومن ثم الثانوية لثلاث سنوات أخرى، كما أن التعليم إلزامي من الصف الأول وحتى التاسع (المرحلتان الابتدائية والإعدادية)، والمنهاج موحد في أرجاء البلاد، وتقرره وزارة التعليم السورية، بحيث أن التلاميذ في كافة محافظات البلاد يتلقّون نفس المعلومات عن التاريخ والجغرافيا وقضايا السياسة الحديثة، ويخضعون لنفس الامتحان العام في نهاية المرحلتين الإعدادية والثانوية للحصول على شهاداتهم الوطنية. ويعكس هذا المنهاج الموحد بشكل واضح الرؤية السياسية للحكومة السورية.
والسبب الذي يجعل المنهاج التعليمي الموحد مصدراً هاماً هو أنه يُعتبر عملياً من المصادر المتاحة القليلة، وبالأخص عند الأخذ بعين الاعتبار أن الإنترنت يمثل إضافة جديدة نسبياً في سوريا، وأن الموارد المتوافرة في المكتبات العامة حول البلاد ضعيفة، إن كانت موجودة أصلاً، رغم أن العاصمة والمدن الكبيرة قد تشكل استثناءً لتلك القاعدة. وفي ضوء حالة الفوضى المحيطة بالبرامج التعليمية للمتاحف، يصبح المنهاج المدرسي بمثابة المصدر الأكثر أهمية بالنسبة للأطفال السوريين للتعرف على حقب التاريخ التي تشملها مقتنيات المتاحف.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن التاريخ القديم مشمول في المنهاج المدرسي الموحد، إذ يتم التطرق للحضارات والمواقع القديمة في سوريا مرتين – وإن بشكل موجز – في المنهاج المدرسي الرسمي: المرة الأولى عندما يكون عمر التلاميذ ما بين 11 و12 سنة، والثانية عندما يبلغون 15 أو 16 سنة. وفي كلا هاتين المرتين، تغطي الكتب المدرسية حضارات قديمة من مواقع إبلا القديم في شمال البلاد والتي تعود للعصر البرونزي، وموقع ماري القديم في شرق سوريا، دون تقديم معلومات كافية للتلميذ أو القارئ عن قيمة أو أهمية هذين الموقعين والممالك القديمة في سياق التاريخ السوري.[16]
نتيجة لذلك، ليس لدى السوريين سوى معلومات قليلة عن الماضي القديم لبلادهم، حتى أن معظمهم – ورغم تنوعهم على المستويين العرقي والتاريخي – ينظرون إلى الماضي الغابر للبلاد باعتباره "عربياً" في جذوره، رغم أن ذلك لا يتّسق مع ما هو معروض ومع الشروحات الموجودة في المتاحف الوطنية السورية التي تقدم مقتنيات في سياقات تاريخية لا مرجعية فيها للأصل العربي.[17] يخلق هذا بدوره هوة أكبر بين التاريخ كما تقدمه متاحف البلاد وبين التاريخ لدى السوريين أنفسهم.
مبادرات سورية لردم الهوة القائمة بين المتاحف والشعب السوري
على الصعيد الرسمي ظهرت في نهاية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين رغبة في تعزيز العلاقة بين السوريين وإرثهم الثقافي، وتم لهذه الغاية إطلاق العديد من المشاريع والمبادرات في تلك الفترة والتي تهدف إلى تحسين العلاقة التي تربط بين عامة الشعب والتراث الأثري والمتاحف. وفي هذا الإطار، أخذت الصحف السورية تناقش اهتمام الحكومة بربط السكان المحليين بالتراث الأثري السوري، وكان هذا الاهتمام جلياً في العديد من المشاريع، مثل التعاون مع مؤسسات دولية لتحسين المتاحف السورية وترميم الصروح التاريخية واستحداث "إدارة تطوير ودعم المتاحف" لسبر أفضل الطرق المتاحة للتشبيك بين المجتمع المحلي والمتاحف والتراث الأثري.[18]
وبحسب الدكتورة يارا معلولا، المديرة السابقة لـ "إدارة تطوير ودعم المتاحف"، تم تشكيل فريق سوري للتعاون مع نظيره الفرنسي وتحديد الاحتياجات السورية في هذا الإطار. قرر الفريق أن يشمل العمل تطويراً على المستويات الإدارية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، بالإضافة إلى تعزيز العلاقة بين المؤسسات المتحفية السورية والهيئات الدولية لترسيخ مكانة التراث السوري باعتباره جزءاً مهماً من التراث العالمي. وشمل العمل الإداري تقسيماً للمهام وإنشاء فريق لكل مجال:[19]
- المجال التشريعي يشمل فريقاً من المحامين والخبراء القانونيين الذين أوكلت إليهم مهمة وضع قانون الآثار.[20]
- تم توجيه المجال الاقتصادي نحو الاستثمار في التراث الثقافي وتحويله من ثِقل ملقى على عاتق خزانة الدولة إلى مصدر وطني للدخل.
- اشتمل العمل الاجتماعي على تنمية المجتمعات المحلية وتحديد الصلات المفقودة بين المتاحف والتراث الثقافي والسكان المحليين.
- اشتمل الحقل التعليمي على التعاون مع وزارة التعليم العالي لتطوير برامج لنيل درجة الماجستير في المتاحف والتراث الثقافي.[21]
أما بالنسبة إلى المتاحف نفسها، فقد سعت هذه الجهود أولاً إلى تغيير أساليب العرض من التركيز ببساطة على المقتنيات الأكثر أهمية في مجموعاتها إلى اختيار عدة مقتنيات تشكل مجتمعة سرداً متناغماً وتمكّن المتحف من التواصل بشكل أفضل مع زواره. ثانياً، جعل المتاحف بمثابة ركن أساسي في حياة المجتمع المحلي وربطه مع المؤسسات الأخرى كالمدارس. وخلال إعداد هذه الورقة البحثية، تم إنجاز بعض هذه المبادرات، ولا سيما تجديد قسم الآثار الكلاسيكية في المتحف الوطني في دمشق (تم افتتاحه عام 2018)، وتعديل قانون الآثار (ومن غير المعروف ما إذا دخل حيّز التنفيذ). لكن نتيجة الأزمة في سوريا، توقفت العديد من هذه المشاريع، ومن غير الواضح ما إذا كان سيتم استئناف العمل عليها واستكمالها في المستقبل أم لا.
تطوير المنهاج المدرسي
تم تأسيس "المركز الوطني لتطوير المناهج" عام 2013، والمكرّس – بحسب رسالته – لإعداد منهاج وطني جديد مبنيّ على السياسات والأهداف التعليمية للدولة السورية.[22] كانت حصيلة ذلك رؤية متجددة وموضوعية للتاريخ السوري القديم، وفنه الحديث. انعكس ذلك في المرحلة الابتدائية من خلال كتب عن تاريخ الفن غنية بالصور وتغطي المشهد الفني السوري الحديث والمعاصر، بالإضافة إلى استعراض لأبرز الفنانين العالميين. كما يعمل المنهاج على تشجيع التلاميذ للتعرف على فنانين سوريين معاصرين، سواء من خلال تقديم مسيرتهم الفنية، أو العمل على رسومات مستلهمة من أسلوبهم. تركيز الكتب كذلك على التقاليد الشعبية في سوريا، وكيف أن البيئة السورية يمكن أن تشكل مصدر إلهام للأعمال الفنية.[23]
يستمر التلاميذ بدراسة هذه الكتب الدراسية الفنية في المرحلة الإعدادية مع إضافة مقدمة عن التاريخ القديم لسوريا في الصف السابع. تم إطلاق هذا الكتاب في العام الدراسي 2017/2018، والذي يضم مواضيع مرتبة زمنياً وجغرافياً، ويُظهر العلاقة القديمة القائمة بين سوريا والحضارات القريبة، وأثر ذلك على الهوية السورية الحديثة. يغطي هذا المنهاج كذلك مواضيع مثل نشوء الزراعة والكتابة وأولى المدن السورية، ودور النساء في العصر القديم، كما يوضّح كل موضوع بنماذج واقعية من مدن قديمة في سوريا وبلاد الرافدين (العراق) ومصر، بالإضافة إلى لُقى تم العثور عليها في هذه المناطق كالأختام التقليدية والأختام النافرة والفخاريات والألواح الطينية وغيرها. ويُشير الكتاب في بعض أقسامه إلى المتحف الذي تُعرض فيه لُقى معينة. أما السردية التي يتبناها هذا الكتاب المدرسي فتنطوي على إشارة مبهمة إلى أن السوريين القدماء هم "أسلافنا" وإلى وجوب الفخر بهم.[24] أما كتاب التاريخ للصف الثامن، فيُركز على سوريا خلال فترة الإمبراطورية العربية، بينما يغطي كتاب الصف التاسع حقبتي الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي.
التعليم عبر المتحف الوطني في دمشق
في مقابلة خاصة تم إجراؤها مع فتاة جديد المديرة السابقة لقسم التعليم في المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا ، والتي قامت عند استلامها منصبها عام 2007 بتأسيس مشروع الثقافة لمتحف الأطفال بالتعاون مع "جمعية قوس قزح لطفولة أفضل" التي ترأسها هديل الأسمر الحسن، وبدعم من الدكتور مأمون عبدالكريم، المدير العام للمديرية آنذاك.
تمثل هدف المشروع بربط الأطفال السوريين بالتاريخ القديم للبلاد من خلال الانخراط مع مدارس عامة وخاصة في دمشق، وتحسين مستوى التعاون القائم مع وزارة التعليم من خلال تنظيم زيارات مدرسية بناء على جداول عمل المتاحف وقدرتها على استقبال التلاميذ. استهدف المشروع الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و14 سنة، وتكوّنت عناصر المشروع من زيارات ميدانية ومحتوى المواقع ومتطوعين أوفدتهم المديرية ودعم مالي ومواد وفّرتها جمعية قوس قزح.
اشتملت المبادرة كذلك على جولات برفقة مرشدين إلى المتحف الوطني في دمشق، تليها المشاركة في ورشات عمل مختلفة ينظمها المتحف. وبالنسبة إلى الجولات، فقد كانت مدتها ساعة من الزمن، ويُشارك فيها ما لا يزيد عن 40 تلميذاً، وتُظهر لهم الجوانب الأكثر أهمية من كل قسم في المتحف. يلي ذلك توجيه الدعوة إلى التلاميذ، كل بحسب اهتمامه، للمشاركة في أحد الأنشطة التي ينطوي عليها المشروع: عملية تنقيب عن الآثار افتراضية وترميم إحدى اللُّقى، أو ورشة عمل عن صناعة الفسيفساء، أو ترصيع الخشب، أو الطباعة بالقوالب الخشبية على القماش، أو صناعة الفخار، أو الكتابة المسمارية، أو التزيين بالخزف. كما يُطلب من التلاميذ رسم أكثر عمل أحبوه من معروضات المتحف. وأخيراً، تم تحضير كتيّب بعنوان "الزوار الصغار" والذي يقدّم عرضاً للأقسام الخمسة التي يتكوّن منها المتحف الوطني في دمشق، ويشمل الكتيب على قسم تلوين لمجموعة مختارة من مقتنيات المتحف وبعض الألغاز.
وبحسب الدكتورة جديد، أرسى هذا المشروع لعلاقة تربط بين المتحف والأطفال السوريين، والأمر المهم أنها تمتد كذلك إلى عائلاتهم. ونتيجة لذلك، أخذ الكثير من الأطفال يطلبون من عائلاتهم اصطحابهم إلى المتحف يوم السبت، حيث يلتقون بأصدقائهم ويزورون المتحف مجدداً. كما عمل المشروع على خلق نوع من التنسيق – لم يكن قائماً قبل ذلك – مع وزارة التعليم. وبناء على هذا التنسيق، أصبحت المدارس تجدول زياراتها بحسب برنامج أيام العمل التي خصصها المتحف للوزارة لكي ترتّب لزيارات المدارس ويتم الإعداد لجولات رفقة مرشدين دون تشكيل عبء على موظفي المتحف ناتج عن الازدحام في القاعات.
وبسبب نجاح المشروع، تم توسيع المبادرة لتشمل كافة المتاحف في سوريا. لكن من غير الواضح ما إذا تم تطبيق المشروع ومدى نجاحه، بالنظر إلى أنه تم بفضل تعاون خارجي وفّر التمويل. يُذكر أنه جرت آخر دورات المشروع في عام 2011، ومن غير الواضح ما إذا كان سيتم استئناف العمل عليه.
خلاصة
من خلال استعراض تاريخ وتطور الدور التعليمي للمتاحف في الغرب، بوسعنا الإشارة إلى عاملين مهمين، الأول هو أن الاستثمار الحكومي هو ما يعزز تبلور مثل هذا الدور، أما الثاني، والذي يُشكل نتيجة للعامل الأول، فيتمثل بأن مفهوم التعلم من خلال المتاحف يكتسب زخماً باعتباره جزءاً مهماً من المنهاج المدرسي الوطني. ولا يمكن لأي من هذين العاملين أن يتواجد بمعزل عن الآخر، وهي نظرية مفادها أنه لا يمكن أن ينضج التعليم المبني عن المتاحف إلا بعد سنوات من الدعم والخبرة في هذا المجال. وحقيقة أن هذين العاملين متلازمين وجوهريين لاستمرار اضطلاع المتاحف بدورها كجهة تعليمية فاعلة معترف بها رسمياً في سوريا تطرح السؤال التالي: كيف يمكن تقديم الصلة بين التعليم والمتاحف لعامة السوريين والترويج لها، وكيف يمكن لنا تطوير الدور الذي يضطلع به الباحثون و/أو أخصائيو المتاحف في هذا الشأن في سوريا؟
للأسف، لم يكن هناك فعلياً أي اهتمام حكومي بالدور التعليمي الذي يمكن للمتاحف أن تلعبه في سوريا قبل القرن الحادي والعشرين، وهو ما ينطبق على العلاقة بين المدارس والمتاحف. وبينما كان هناك منهاج وطني موحد، طفت على السطح مسائل متعلقة بفهم الماضي القديم للبلاد، والافتقار إلى التنسيق بين وزارة التعليم والمديرية العامة للآثار والمتاحف بخصوص الزيارات المدرسية.
تم إطلاق مبادرات متعددة لتغيير العلاقة التي تربط بين عامة السوريين والمتاحف عموماً، وبين المدارس والمتاحف على وجه الخصوص، ويمكن النظر إلى تعديلات المنهاج المدرسي السوري الموحد باعتبارها واحدة من هذه المبادرات الهامة والشاملة، نظراً لكونها تعرّف كافة التلاميذ السوريين بالتاريخ القديم للبلاد. إلا أن هذا المنهاج، وبالشكل القائم حالياً، يواجه معضلة إرساء صلة مباشرة مع المتاحف الوطنية في سوريا. فأولاً فيما يتعلق باللقى الأثرية السورية القديمة، تم الإشارة إلى مواقع عدد قليل منها فقط. وثانياً، حصل ذلك خلال الصراع في البلاد، أي عندما كانت معظم المتاحف في سوريا مغلقة، وبعضها لا يزال مغلقاً إلى الآن، وهو ما يعني أن التلاميذ غير قادرين على زيارتها. وأخيراً، وبالنظر إلى توزيع المتاحف على المناطق السورية، يبدو جلياً أن معظمها موجود في المحافظات أو المدن الكبيرة، بينما تفتقر البلدات الأصغر والقرى والمناطق النائية في الريف إلى مثل هذه المؤسسات، وهو ما يطرح سؤالاً عن الآلية التي يمكن من خلالها للمتاحف أن تضطلع بدور تعليمي في حال كانت غير موجودة أصلاً. يمكن الإجابة على هذا التساؤل بالإشارة إلى أن بوسع الأطفال زيارة المواقع الأثرية أو التاريخية القريبة، بما أنه يمكن اعتبار سوريا بحد ذاتها متحفاً مفتوحاً، إلا أن العائق أمام هذه النظرية هو العلاقة السائدة بين المواقع واللقى الأثرية من جهة والشعب السوري من جهة أخرى (يمكن الإطلاع على المزيد من المعلومات في مقالة الكاتبة من عام 2021) والافتقار إلى الموارد المالية لدى أولئك المقيمين في الريف.[25]
من المهم كذلك التأكيد على الافتقار إلى التوثيق والدراسات والأبحاث الأكاديمية بخصوص دور المتاحف في العملية التعليمية، فرغم المبادرات العديدة التي تم إطلاقها في سوريا بهذا الشأن، إلا أنه لم تصدر عن أولئك المسؤولين عن هذه المشاريع أي منشورات أو كتابات، ولم يتم توجيه مثل هذا التغيير الهام نحو إرساء علاقة بين التراث السوري والسكان المحليين. ولذلك، فإن جلّ الأبحاث المذكورة هنا هي ثمرة اجتماعات ومقابلات مباشرة، وهو ما يفرض محدودية لناحية فهم التحديات التي تواجه مثل هذه المبادرات وتقييم مدى نجاعتها، كما يعوّق إمكانية القيام بدراسة نقدية لنظرية التعليم في المتاحف بالنسبة للعامة في سوريا. ومع ذلك، فإن حصيلة مبادرات التواصل المجتمعي الأخيرة في دمشق ومدن أخرى تمثل مؤشراً قوياً على أن الشباب السوري مستعد لإرساء أواصر علاقة طيبة مع المتاحف، وتبنّي مقاربة جديدة تقوم على التواصل مع الماضي القديم وتكوين شعور بالانتماء للمجموعات واللقى الوطنية التي تزخر بها المتاحف السورية.
الحواشي
[1] ماكدونالد، جي. إس.، "المتاحف والهويات الوطنية وما بعد الوطنية والعابرة للثقافات"، "المتاحف والمجتمع"، 1، 2005:1، ص 1-5.
[2] تيسليار، بافول، "تطور التعليم غير الرسمي والتربية المتحفية في المتاحف"، "المجلة الأوروبية للتعليم المعاصر"، سبتمبر/أيلول 2017، ص 286-592.
[3] هوبر-غرينهيل، إلينا، "المتاحف وتشكّل المعرفة"، روتليدج، لندن 1992؛ كاليت، إليزابيث، "المدارس والمتاحف: إضاءات من فرنسا"، "مجلة التعليم المتحفي"، ربيع/صيف، 1994، المجلد 19، رقم 2، ص 14-18.
[4] في الكثير من الحالات، كانت المجموعات المعروضة في المتاحف متعارضة مع السرديات الرسمية التي تروجها الحكومات المعنية. تيسليار، بافول، "تطور التعليم غير الرسمي والتربية المتحفية في المتاحف"، "المجلة الأوروبية للتعليم المعاصر"، ص. 589.
[5] هوبر-غرينهيل، إلينا، "المتاحف والتعليم: الغاية والتربية والأداء (معاني متحفية)"، روتليدج، نيويورك، 2007، ص 5.
[6] الرابطة الأمريكية للمتاحف، "التميز والمساواة: التعليم والبُعد العام للمتاحف"، 1992، ص. 5 (http://ww2.aam-us.org/docs/default-source/resource-library/excellence-and-equity.pdf)؛ إلينبوغن، كريستن م.، "المتاحف كمؤسسة تعليمية: ولادة المتاحف العامة، المتاحف بعد الحرب الأهلية، نقلة في التعليم (http://education.stateuniversity.com/pages/2254/Museum-as-an-educational-institution.html).
[7] باثو، جي. آر.، "المتحف المدرسية والتاريخ الأساسي"، "الرابطة التاريخية"، لندن 1999؛ بلاك، جي.، "المتحف التفاعلي: تطوير المتاحف من أجل انخراط الزوار"، روتليدج، لندن ونيويورك، 2005؛ دياموند، جيه.، "دليل تطوير عملي: أدوات للمتاحف والمساحات التعليمية غير الرسمية الأخرى"، "دار نشر ألتاميرا"، ناشفيل، 1999.
[8] هين، جي.، "التعليم في المتاحف". روتليدج، لندن، 1998.
[9] هوبر-غرينهيل، إلينا، "المتاحف والتعليم".
[10] يشمل ذلك المتحف الوطني في دمشق والمتحف الوطني في حلب ومتاحف تدمر وحمص ودرعا وطرطوس واللاذقية والرقة ودير الزور والحسكة (لم يُفتح بعد) والقنيطرة ودير عطية وجزيرة أرواد.
[11] قصار، هبة، "السياسة والهوية والدور الاجتماعي للمتاحف في سوريا"، إدارة المتاحف والشؤون المتحفية، 36:1، 2021، ص 14-29.
[12] النماذج التي نشرتها المديرية العامة للمتاحف والآثار والتي تمت الإشارة إليها هنا تشمل: "عبدالحق، عبد السليم، "كاتالوغ مصور لقسم الآثار اليونانية الرومانية في متحف دمشق"، 1، 1951؛ عبدالحق، عبدالسليم، "كنوز متحف دمشق الوطني"، "المديرية العامة للآثار والمتاحف"، دمشق، 1966؛ علوش، إ-ف، جندي، أ.، وزهدي، ب. "كاتالوغ متحف دمشق الوطني: نُشر بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسه (1919-1969)، "المديرية العامة للآثار والمتاحف"، دمشق، 1969؛ بوناتز، د.، كولن، ه.، ومحمود، إيه. ريفرز، "أنهار وسهوب: التراث الثقافي والبيئة في الجزيرة السورية: كاتالوغ متحف دير الزور، وزارة الثقافة، المديرية العامة للآثار والمتاحف، دمشق، 1998؛ زهدي، ب. "المتاحف"، وزارة الثقافة"، دمشق، 1998.
[13] عبدالحق، عبد السليم، "المتاحف السورية والتعليم"، "مجلة الحوليات الأثرية السورية"، 1965، ص 79-86.
[14]البني، أ، "دراسات حديثة في علم الآثار والمتاحف في العالم العربي"، "مجلة الحوليات الأثرية السورية"، 1976، ص 265-266؛ بهنسي، أ، "دراسات حديثة في علم الآثار والمتاحف في العالم العربي"، "مجلة الحوليات الأثرية السورية"، 1977، ص 275-280؛ زهدي، ب، "دراسات حديثة في علم الآثار والمتاحف في العالم العربي"، "مجلة الحوليات الأثرية السورية"، 1973، ص 2015-217.
[15] كنجو، يوسف، "دور المجتمع المحلي والمتاحف في نهضة التراث الثقافي السوري"، "مجلة دراسات علم الآثار والتراث في شرق المتوسط"، 6:4، 2018، ص 375-391. doi:10.5325/jeasmedarcherstu.6.4.0375
[16] وزارة التعليم، منهاج إلكتروني، الجمهورية العربية السورية، وزارة التعليم، 2012، تمت الاستعادة في 5 مارس/آذار 2014، من الرابط http://syrianeducation.org.sy/ecurricula/files/ebooks/05/START.html.
[17] قصار، هبة، "دور العامة ونظرتهم إلى المتاحف في الشرق الأوسط"، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه، جامعة فلورنسا، فلورنسا، 2016.
[18] قصار، هبة، "السياسة والهوية والدور الاجتماعي للمتاحف"، 2021.
[19] قصار، هبة، "دور العامة ونظرتهم إلى المتاحف في الشرق الأوسط"، 2016.
[20] قصار، هبة، 2021.
[21] قصار، هبة، 2016.
[22] "المركز الوطني لتطوير المناهج"، المهمة، 2020، تمت الاستعادة بتاريخ 5 أغسطس/آب 2022. http://nccd.gov.sy/about?i=1&t=%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9.
[23] "المركز الوطني لتطوير المناهج"، الكتب، 2020، تمت الاستعادة بتاريخ 5 أغسطس/آب 2022.http://nccd.gov.sy/book?i=4.
[24] "المركز الوطني لتطوير المناهج"، سوريا القديمة، 2020، تمت الاستعادة بتاريخ 5 أغسطس/آب 2022. http://nccd.gov.sy/imges/books/Gr7/hi7.pdf
[25] تسود حالة من عدم الاهتمام بشكل عام في أوساط السوريين بتراث الآثار المنتشر في أرجاء البلاد، ويعود السبب في ذلك إلى الممارسات الاستعمارية التي عفى عليها الزمن، وعدم وجود مشاريع أثرية محلية والسياسات التي اتبعتها المديرية العامة للآثار والمتاحف بدءاً من السبعينيات وصولاً إلى مطلع القرن الحالي، والنظرة العامة للسوريين بخصوص ماهية "التراث" (للمزيد من التفاصيل، يمكن العودة إلى: قصار، 2021).