-رموز الساعة الثالثة صباحاً-
"أين اختفت تلك الأغنيات؟"
يرفع فاتح المدرس المنفضة البرتقالية، علبة سجائر الحمرا الطويلة، القداحة البيضاء، الهاتف الأخضر. يزيح صورة غوغول، الشمعدان ذا الشموع الثلاث البيضاء الذائبة، عدداً من الرسائل والمحابر الفارغة، إناء الزهور الميتة. يقلب الأشرطة: نصرت فاتح علي خان، بول بغداديان، محمد رضا شجريان، وديع الصافي، عارف صاغ... ولا يجد زكي مورِن.
"أين اختفت؟"
يجلس على كرسي الخيزران. لا يستطيع الآن أن يتذكّر أيّ زائر من زواره الكثيرين ترك له الشريط، وقد باغتتْ روحَهُ هذه الإشارة: الشبه الصريح بين وجهه ووجه المغنّي التركيّ- الحاجبان فاحمان طويلان أشعثان فوق مُقلتين مكحّلتين. نظرةٌ في بريقها مرحُ الغريزة وأساها، تتوقّد باللذّة والألم معاً كما تلتمع العيون المتيقّظة للجنّ الذين يقطنون الآبار والمفترقات والخرائب. خفافاً مثلَه يتنقّلون من عالمٍ لآخر، من سرّ إلى سرّ. في بحر الأخطاء المسمى "الحياة"، يلازمه عالمٌ آخر، لصيقٌ به ويتوقُ إليه. لا ينتهي قلقُ المتنقّلين بين عالمين. يخترق فاتح الجدار تلو الجدار. يزيح أولاً جدار العقل، فيطلّ على فراغ الكون الشبيه برحم كبير. اعتقاده أنّ الملتقى الحقيقي لأعماله هو زمان ومكان آخران غير مرئيين.
-شمس في حفرة-
مرسم فاتح المدرس، في ساحة النجمة الدمشقية، كهفٌ مكتظّ بالأزمنة، تسكنه معه أرواح أطفال لم يُولدوا قطّ، أو دفنوا أحياء في أرحام أمهاتهم، أو ماتوا مثل ابنته هلفي التي انفجر قلبها، وأبقى حذاءها الصغير معلقاً إلى الجدار كالتعويذة.
ينتشل من تحت ركام أوراقه "مفكّرة ناعس الأبدية" التي "تُشترى مرة واحدة لتتوارثها الأجيال". كتب أحدهم على إطارها: ("لا يجوز لمن يحفر بئراً أن يحفر قبراً"، شمس الأئمة السّرَخْسيّ). هل سيخطر للرسّام أنّ "حفر البئر" كناية شعبية عن "فضّ البكارة"؟ سيعثر لدى إمام الحنفيّة على صورة أخرى تتقاطع فيها المصائر. عُوقب السرخسي بالسجن داخل بئر معطّلة ذات أدراج، أمضى فيها كالمدفون حياً خمس عشرة سنة، محروماً من الكتب والضوء. وبرغم ذلك، أملى شروح كتابه الضخم "المبسوط" على تلامذته الذين كانوا يتحلّقون حول فم الحفرة، يدوّنون في قراطيسهم ما يلقّنهم إياه بالهتاف من الظلام تحت الأرض. كان زاد المحبوس ذاكرته. كانت غزارته نزالاً مع اليأس والظلم والنسيان. آلاف الصفحات عبر السنين. تداول الناس أن ربّه قد سخّر له جنياً في البئر يُعِينه على التذكّر والتأليف، ففيهما عزاؤه الوحيد.
"مَن سجنني؟" يتساءل فاتح المدرس، ويجيب نفسه: "الذي يحاصرني مجهول".
-اثنا عشر عصفوراً في إنجيل الطفولة-
كان عمر فاتح المدرس سنتين حين قتل أعمامُه أباه الشابّ. وبرغم توالي المصائب عليه، كتب: "إنّ الفنّ يبدأ بمحبة الأرض ومن عليها"، وعنون عدداً من لوحاته: "الله محبة". "الله" و "المحبة" كلمتان لغزان، أجمل وأبعد من العقل. يعزو اللاهوتيون محبة الله إلى اليُتْم. تلك تجربة جوهرية، فمن خسر أباه يبقى وحده مقذوفاً في عراء العالم.
لم تكن الأناجيل المنحولة منبوذة في بدايات المسيحية، ولا موصومة بالتزوير والهرطقة. كانت صفتها "الأبوكريفا" تعني "المخفيّ" لأنها حكرٌ على فئة ضيقة من الناس. تكتّمت الكنيسة على طفولة المسيح أو غيّبتها، فتخيّلَ تلك السيرةَ المبتورة قديسون ورسلٌ مرّوا بدمشق، وخلع واحدٌ منهم اسمه على أحد أبوابها- "باب توما".
في إنجيل توما، نرى يسوع اليتيم ذا الأعوام الخمسة جالساً، عند غدير مياه في الجبل، يلعب بالطين ويصوغ بيديه الصغيرتين اثني عشر عصفوراً، بعدد حَوارييه في المستقبل. وإذ يستنكر صحبهُ الصغار تدنيسَه نهارَ السبت المقدّس بتماثيل الصلصال هذه، ينفخ يسوع، الولد الطائش، نفسَه الإلهي في منقار كل عصفور، ويقول: "طِرْ! عِشْ وتذكّرني!" فيبدأ التغريد، ثم تفرّ العصافير من بين أصابعه، واحداً تلو الآخر، فترفرف فوق الرؤوس، وسرعان ما تختفي دون أن تتلاشى سقسقاتها.
-قولوا لي من أنا-
(أحجية من الشمال السوري)
عندي في الدار
عصفورٌ من طين
حيٌّ وحزين
يرى العصافير
حوله تطير ولا يطير.
في جناحه الأيمن طفلٌ يحلم
في جناحه الأيسر ضيفٌ ينام.
وأين المنقار؟
في بيتِ الجار،
خنزيرٌ يسند الجدار.
- زفاف في جبال القلمون-
في برية صيدنايا
تعثرتُ بقلبٍ متحجّر
وضعتهُ على رفّ مرسمي
أنام على نبضٍ آت من بعيد
(من "وهج الصور المتباعدة")
لا يعبأ فاتح المدرّس بالمعجزات. إنها "كسل الله". فنّه يجتاز الديانات والأحقاب، يستقطرها دون جهد، ويحيا الزمنَ الذي يشاء. أصابعه المعفّرة بالأحمر والأسود، اللونين الطاغيين على لوحات بداياته، تستعيد أسطورة أخرى من أساطير البدايات. عفرين، أرض طفولته الشاسعة، تعني "التراب"، الأحمر كأنّه محنّى بالدم. شرق الفرات، حين فكّرت الآلهة بخلق الإنسان، نحرَتْ كبشاً ومزجت دمه بطمي الفيضان، ومن هذا الصلصال خلقتْ آدم. تقدّست الحمرة التي خضّبت راحات الخالقين والخالقات. تستعيد الأعراس شعائر تلك الخصوبة حين تُحنّى يدُ العروس لأنها كالإلهة مقبلةٌ على الخلق؛ كما كان الرعاة بها يتبرّكون، فيصبغون ببقايا الحنّاء صوف أكباشهم التي تقود القطعان، مثلما خضّب أبو الحنّ ريشَ صدره بجراح المسيح على الصليب. الكلمات أيضاً ابتكرها رعاة وصيادون، تشرّدت مثلهم وترحّلت معهم، أنجبتْ وماتت، ومن حين لآخر دخلت البيوت والقصور. كلّ لغة تكنز ما ورثته عن أخواتها الميتات أو المحتضرات. كل لحظة، في أربع رياح الأرض، ثمة أيدٍ تكتب وأعينٌ تقرأ، عمودياً في صعودٍ وهبوط لا يهدآن، أو أفقياً كمكّوك النسّاج من اليمين إلى الشمال وبالعكس. هكذا تتقاطع لغات الإنسان، وترسم بسطورها صلباناً لا تُحصى، فوقها تتألم الأكوان وتموت وتُبعَث.
حضور المسيح صارخ في عدد من أبرز أعمال فاتح المدرس. يسوع الناصري راسخ في ذاكرة الإنسان، سيّان آمن به أو لم يؤمن. هل انشدّ إليه فاتح لأن المسيح، ضمن أسباب أخرى، فنان ابتعد عن السجالات المنطقية وكانت المجازات طريقته الطبيعية في الكلام والتفكير، ولم يكتب سوى بضع كلمات آرامية على الرمال ما لبثت المياه أن محتها؟
- المسيح يُصلب من جديد -
الصليب أفق يشطره عمود. بين الأفقي والشاقولي جدل قديم: الصلات بين الناس تفتح آفاقاً، والصلاة ترفع إلى الله عموداً يبدأ ولا ينتهي أبداً.
مار أفرام، أسد الكنيسة السريانية وشاعرها، رأى الصليب شجرة المستقبل، والطيرَ صلباناً تطير. جسد الإنسان صليبه. هذا العقاب المستلهم من شكل جسده صار رمزاً فارغاً وتكاثر بغير حدّ. فراغه يتيح أن يُرى من بعيد، في الشوارع، عند المفترقات، على رؤوس الجبال. فراغه سؤال مفتوح: هل أنزلوا الابن عنه وقام حقاً أم سيعلّقون إليه ابناً جديداً؟
-كلب طروادة-
كتب فاتح المدرس إن الفن محرقة صامتة، وقد يُشَمّ اللحمُ المحترق للفنان فائحاً من لوحته.
أواخر صيف 1999. أخّرني زحام دمشق حين ذهبت لأشاهد، للمرة الثانية، لوحته "المسيح وكلب طروادة" في قبو المركز الثقافي العربي بالمزة. في ذلك المركز نفسه، مطلع الصيف نفسه، كان مجلس عزاء رسمي قد أقيم لفاتح، بعد أيام من مجاورته نزار قباني تحت التراب في مقبرة باب الصغير.
كانت البوابة مقفلة. سمعت أحذية تقرع البلاط وراء القضبان. ثم ظهرت فتاتان محجبتان تستنجدان: "حبسونا وراحوا!" كان البوّاب قد أقفل الأبواب كلها قبل انصرافه. فوق رؤوسنا سِلكان بأعلام البعث، ساكنان في الهواء الحار، متفرعان من مانعة الصواعق على سطح المدخل. مبنى كالبلاد: المعمار سوفييتي، والسياج فرنسي، عالٍ ومسنون، حاولتُ القفز فوقه وفشلت. لم أحُمْ حوله لأجد ثغرةً ما، فهذا الحي حيّ السفارات وفيلات الضباط. ذهبتُ إلى مركز الإطفاء القريب، وراء بنك الدم الذي تبرعتُ فيه بدمي مرة، من أجل وثيقة التأجيل من خدمة العلم. كان أربعة من رجال الإطفاء جالسين يشربون الشاي، تحت رقم الطوارئ 113. ستراتهم الكحلية محلولة الأزرار في حرّ آخر النهار. خوذهم على الأرض فاقعة الصفرة. أقدامهم الحافية توحي بالبرد.
كان في باحة هذه الإطفائية كلبٌ أبلق يلعب البالون مع الأطفال، ينادونه "عنتر"، ووجباته من بقايا الشاورما في مطاعم الشيخ سعد. قيل إنه تدرب على اقتحام النيران في معهد روسي، على يد مدرّب لايكا، الكلبة الشاردة ورائدة الفضاء الأولى في العالم. درّبوه على شمّ الدخان، كما كان يشمّ الزهور، وهي لا تستوقف الكلاب عادة، دون أن يبول عليها.
بادرني رجل إطفاء: "خير؟ حريق... غريق؟" شرحتُ لهم ما جرى، واستعجلت الرجوع مشياً إلى المركز. بعد دقائق، امتدّت يد المنقذ على سلّم الإطفائية إلى إحدى الفتاتين المترددتين في الصعود، فصاحت: "لا تلمسني!" أجابها بهدوء: "يا آنسة، صلّي على النبي. كيف سأنقذك من دون أن ألمسك؟". ما إن حطّت أقدام المحبوستين على الرصيف حتى بدأتا تهرولان بخطى مرتبكة، هبوطاً نحو برج تالا. لم تشكرا أحداً. لم تلتفتا.
كنتُ قد رأيت "المسيح وكلب طروادة" من قبل. عُرضت وهي ممزّقة من الخلف، في زاويتها اليسرى العليا، كمن تلقّى طعنة سكين في الظهر. المسيح المصلوب في قلب اللوحة قزمٌ وادع النظرة، في ضعفه الأقصى والأنقى، كمن وصل إلى فداحة المستقبل الذي رآه منذ البدء. جسده ناريّ الحمرة وقدماه الملطختان بالبياض باردتان كالكلس. هذا انتصاره على مصيره، الحزين كما يجدر بكلّ انتصار أن يكون: عرساً وجنازة. لكن، هناك دوماً مَن لا يعبأ بالمأساة. السنطور الأسود مُولٍ ظهره، ذاهباً في عمق اللوحة (لم يعهد الإغريق الخيّالةَ في عصر هوميروس، وحين رأوا للمرة الأولى رجلاً يمتطي حصاناً حسبوهما من بعيد مخلوقاً واحداً).
أردتُ، في زيارتي الثانية التي أخفقتْ، التحقّقَ مما رأت عيناي، أسوةً بالرسول توما. وددتُ لو لمستُ جرح اللوحة.
-بوّاب الجنّة وبوّاب الجحيم-
لا تحزن.
كلُّ الملائكة بلا أحذية... بلا ظلّ
على كلّ حال، يمكنك أن تمرّ
أنت أيضاً بلا ظلّ
(من "وهج الصور المتباعدة")
ملائكة المسلمين تستطيع التشكّل فيما تشاء من الصور، من اللطيف الرئيف إلى الغِلاظ الشِداد والرقيب العتيد وخَزَنة النار والكَتبة، في حين أن ملائكة المسيحيين الأوائل، قبل نشوء علم الملائكة، "مادة عقلية دائمة التنقّل" بعبارة يوحنا الدمشقي، وهم في الديانتين سريعو التنقّل لا تعوقهم الحواجز، أعدادهم لا تُحصى، خفيّون لكن أفعالهم مرئية، لا جنس لهم ولا أنا ولا ذاكرة ولا أسماء (إلا قلة تُعَدّ على الأصابع)، لهم بداية وليس لهم نهاية.
التحولات والتناقضات أسْرَتْ بفاتح المدرس، عبر ظلمات نفسه وظلمات العالم. استخدم في أحاديث ومناسبات شتّى عبارته: "في قلب كل ملاك قاتل محترف". رسم "إسرافيل نافخ البوق الذهبي"، كما رسم ملاكاً بثلاثة عيون مثل توأم سيامي رأسهُ رأسان. قد تخطر لنا صورة الوحش ذي العيون الثلاث على القمصان الصفراء لطلائع البعث، وهو يحتضن خارطة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. كان تلاميذ سوريا يلقَّنون أن عيون هذا الوحش القيُّوم ساهرة لا تنام، وترمز إلى ثالوث البعث: "وحدة حرية اشتراكية"، فاستقى ولد ديريّ تعليقاً من دوّار الدلّة في دير الزور، حيث كان مجهول قد كتب، بحروف صغيرة، تحت لوحة تجمع حافظ وباسل وبشار الأسد: "العدوان الثلاثي على سوريا".
كانت التوائم السيامية برهاناً ملموساً على حقيقة الثالوث في الكاثوليكية، ولا تخلو كنائسها من رسوم حيوانات ووحوش ذوات ثلاثة عيون أو أكثر، من كنائس وادي بوي القروسطية في جبال البيرينيه الكاتالانية إلى كنائس وادي قاديشا الذي فتن جمالُ أخدوده العميق فاتح المدرس، حيث رأى وسط الثلوج مجانين مصفّدين بالسلاسل في مغارة قزحيا.
لم يكن نادراً أن ينتقد بعض السريان السوريين عقيدة الكاثوليك. كان لديهم تفسيرهم الخاص للطبقات الثلاث في قلنسوة بابا الفاتيكان. لم يقنعهم أن الثالوث كيانٌ واحد خارج العقل وخارج الزمان. لا ينبغي نسيان أن الجنة والجحيم بيتان. لكل بيتٍ حرمات، ولا بد له من حارس يحميه. الحرّاس مخيفون عادة. كان للكلب سربروس في البداية خمسون رأساً ثم خُفّض العدد إلى ثلاثة رحمةً بالرسّامين، مثلما شفع الرسول للمسلمين ليلة الإسراء والمعراج فخفّض الله عدد الصلوات اليومية المفروضة عليهم من خمسين إلى خمس. يقف سِربروس ذو الرؤوس الثلاثة على باب الجحيم، مانعاً المقيمين فيها من الخروج، بينما يقف البابا على باب الجنّة يمتحن الأرواح ويقيّم مستواها في اللغة اللاتينية قبل السماح لها بالدخول.
-النور الأحمر وناره-
البياض لدى فاتح المدرس "هو اللغز والغياب"، نورٌ يلفّه العدم فيحميه ويخنقه. لا نعلم كم مرة عاد إلى "العشاء الأخير"، بين آلاف اللوحات والرسوم التي أنجزها على مدار ستين عاماً. المسيح غائب عن العشاء في المثال المقتنى لدى المتحف الوطني بدمشق، وعلى مائدة لوحة أخرى رسم فقط ثلاثة ملائكة بالأبيض والأحمر.
في "إنجيل العشاء السرّي"، يطرح يوحنا الرسول الأسئلةَ على الآب، الحاضر بصوته وحده، وعلى ابنه الملاك يسوع في عشاء سري. الشخصية الرئيسية في هذا الإنجيل المنحول هي الشيطان الناصع البياض قبل السقوط، والأحمر عند نفيه إلى الأرض. يُستخدم هذان اللونان في الأيقونات لرسم الرسول متّى أو يسوع ابن الإنسان، لكنهما يذهبان بنا أيضاً إلى اليزيديين وزهور نيسان، أي شقائق النعمان، في عيد الأربعاء الأحمر، وبياض أرديتهم ومناديل الكتان الناصعة على رؤوس نسائهم، يعطّرْنها بالثمار: السفرجل شتاء، والشمّام صيفاً.
-عذراء الرمّان-
درج فاتح المدرس على القول إنه يتجدّد كالحية. لعلّ شاعراً مثله، تأمّل طويلاً حضارات الطين في وادي الرافدين، قد توقّف عند اسم الحية، في اللغة البائدة لملحمة جلجامش، المولّد من تجاور كلمتين أو علامتين: "أسد التراب"، لكنه عرف منذ سنيّه الأولى قرى اليزيديين الكثيرة في ريف حلب. رأى بياض جدرانهم المحروس بسواد الحيّة، وهم يتباركون في مآدبهم بفستانها، أي جلدها المخلوع. الحيوانات، كالأطفال والخرافات، تؤلّف بين قلوب الناس. عُبدت الحية في صحراء العرب قبل الإسلام، حيث كانت تسمّى "اللاهة"، وشاع أنّ "الله" مذكّرها.
يتناقل اليزيديون حكايات حَبْ هنّاركِه (حبة الرمان) وشاهماران (ملكة الأفاعي)، ربما سمع بها فاتح الذي شغف بزهور الجلنار. يُقال إن شاهماران امتحنت البشر حين تسلّلت كأفعى صغيرة عبر الفم الفاغر للطفلة النائمة حَبْ هنّاركه، ثم عاشت وكبرت في أحشائها. ظنّ القرويون أنّ الأفعى المتوارية ثمرةُ زنا. خائفةً من الموت، هربت حَبْ هنّاركِه ولاذت ببئر المنتحرين. هناك، تحت قمر الحصاد، فغرت فمها وسع الشدقين حتى لبّتْ ملكةُ الأفاعي النداء السريّ لمياه الأعماق، فخرجت ككلمة الحقّ من أحشاء العذراء، وعادت إلى ذويها في جوف الأرض السابعة، حاكمةً مملكة الظلال. وبهذا امّحى الانتفاخ، المبارَك والمخيف، من بطن الطفلة، شفيعة العاشقات والمتهَمات زوراً، شفيعة المخطوفات والزانيات. لا تزال تعيش بصحبة الأفاعي، تعبر القرون ولا تكبر أبداً، جميلة مضرّجة الخدّين كحبة رمان. لم تعد قطّ إلى أهلها بعدما تبرّأوا منها ونبذوها إلى فلاة الوحوش. كان رجاؤهم أن يندثر ذكرها إلى أبد الآبدين، في تلك البِطاح حيث أكلت الذئاب الأتانَ السوداء.
-عذراء البئر-
إليكِ كبِدُ هذا الملاك
(من "القمر الشرقي على شاطئ الغرب")
تساءل فاتح المدرس: "أيّ شكل للأمّ في عقل الطفل؟"، "لعلّ اللون الرمادي هو آخر ما شاهدته ساعةَ موت أمّي". لوحات عديدة له تحمل هذين العنوانين: "أمّ وطفل"، و"البشارة"، كما رسم "العذراء والطفل الإلهي"، "العذراء والحمامة"، "حواء"، "بشرة الأرض". آخر لوحة رسمها في حياته عنونها: "خُلِقوا ليُصْلَبوا".
في لسان العرب، البشارة هي الجمال والخير، لكنها اقترنت في القرآن بالعذاب الأليم أيضاً، فاعتبرها المفسرون استعارة ضدية أو إعجازاً. ابن عربي جمع الضدين، ورأى أن الحقّ قد قال في الفريقين (السعداء والأشقياء) بالبشرى، أي: "يقول لهم قولاً يؤثّر في بَشَرتهم، فيعدل بها إلى لونٍ لم تكن البشرة تتّصف به قبل هذا". لنتذكر أن اقشعرار الجلود كان مقياس السرياليين لتأثر المتلقّي بالعمل الفني. ذات مرة تساءل فاتح عن بارقةِ الحبور التي تنتاب الإنسان عندما يُنعى إليه أعزُّ أصدقائه.
في "الفتوحات المكية"، آدم أمُّ حواء وأمّه الأرض، وقد سمّي البشر بشراً لمباشرة الله خلقَهُم بيديه. يسمّي ابن عربي الطبيعة "الأم العالية الكبرى للعالم"، وهي "أمّ لما كانت محلّ الاستحالات". وكمثال عن لانهائية التحولات وتبادل الأدوار المفتوح بين الصوت والصورة، بين الأبوّة والأمومة، يورد ابن عربي مثالاً عن نجّار قد يذكرنا بمربّي يسوع، فيقول إنه "مهندس عالم لا يحسن العمل، يلقي ما عنده على سمع مَن يُحسِن النجارة، فكلام المهندس أب وقبولُ السامع أمّ، ثم يصير علم السامع أباً وجوارحه أمّاً".
كانت الكنيسة الأولى بيتاً صغيراً في دورا أوروبوس، طمرته القرون بالرمل والغبار وطين الفرات. عمّت غرفة معموديتها رسومُ الخلاص عبر الزواج والحَبَل والميلاد. لم ترسَمْ بتاتاً آلام المسيح. ما قيل إنه مشيّعات في تلك الجدارية، وهنّ شبيهات بنساء الجنائز في معابد تدمر، كنّ نساء في موكب عرس. هناك، على حائط في بادية دير الزور، رُسمت امرأة وحيدة منحنية على بئر ممسكة بحبل الدلو. على الأرجح، هذه هي مريم وقد تسمّرت في نصف التفاتة، مذعورة ربما، إذ زفّ لها جبريل بشارةَ وحيدها يسوع. محاطة بالفراغ، ربما لأن صوت الملاك مرعب كالزلازل، سمعتْهُ الحيوانات أولاً فولّت الأدبار. اليهود والمسيحيون الأوائل تصوّروا الملائكة وحوشاً. فمثلاً، الملاك الذي بشّر أمّ شمشون بولادة ابنها كان "رهيباً جداً". لكن الملاك غائب عن السكون القلق لهذا المشهد المرسوم في دورا أوروبوس في القرن الثالث الميلادي. لم تكن الملائكة قد ظهرت في الرسوم وقتذاك، وما كانت قد تأنسنت ولا غُرست في أكتافها الأجنحة. لم تكن البشارة قد استحالت هديلاً عذباً لحمامة بيضاء. ثمة خطان ملوّنان يمسّان كالوخزة ظهرَ العذراء في هذه الأيقونة الأمّ، لعلهما دخول الروح القدس جسدَها ليتجسّد الربُّ خفية في داخلها. الربّ طفلٌ. الربّ كلمة. الربّ صورةٌ لا تُرى، نافخُها الصوتُ في رحم أمّ الله. رسامٌ مجهول، هو ابن تلك البلدة المندثرة، رسم لنا صوتَ الملاك.
-النأمة-
صنّف فقهاء الإسلام الصوتَ الداخلي إلى "وسوسة" ينفثها الشرّ كالسمّ في الدم، و "إلهام" ينير به الخيرُ القلبَ ويشرحه. الأذن الأولى التي سمعت كلامَ الخالق هي العدم. لا أحد يعلم إن كان صوتُ الصمت واحداً أم متعدداً، شيخاً أو طفلاً، رجلاً أو امرأة؟ هل هو ذاته في صدور جميع الناس، قديمٌ لم يتحوّل قط منذ الأزل؟ بأيّ أذن يُسمَع؟ صوتُ مَن يأمر يد الرسام: "قف هنا!"
يقول فاتح المدرس إنه يرسم بأذنيه، يرهفهما ليسمع الدقائقَ في الطبيعة وأصواتَ الطفولة الهائمة في شساعة ذاكرته: "هذه الأصوات هي أنا"-
أصوات الريح في الساعة الثالثة عصراً عند هبوبها خلل عرزال الصفصاف، بين عيدان السوس، بين أجمات القصب، على التيجان البنفسجية للقرقفان، بين سنابل الشعير؛
أصوات النهر الذي أحبَّهُ وأغرقه؛
عواء الذئب؛ صياح الديك؛ صراخ امرأة شريرة؛ نباح كلبه تِرّو؛ نعيق الغربان؛
رفرفة أجنحة العصافير حول نثار الحب على الثلج قُبيل وقوعها في فخاخ مغزولة من شعر الماعز؛
همهمة أمه حين تعضّه عضات الحبّ في معصميه وظهره، وهفهفة فستانها في مساكب البابونج؛
صوت جدته تغني بنبرة ضعيفة مقتلَ خاله، وهي تحجب عن عينيها ضوء شمس الصباح مسندةً ظهرها إلى جدار من الحجر الأسود؛
أصداء طلقات في الوديان أيقظته حين كان عمره 22 شهراً، محمولاً على ظهر جدته صالحة التي كانت تهدهده في حقل العَجّور، فبدأت الخائفة تكلم نفسها. أدرك حفيدها لاحقاً أن تلك الطلقات البعيدة أرْدَتْ أباه صريعاً في صباح جميل من صباحات الصيف...
-سيدة جبل الزيتون-
اشتُقّ أزرقُ الوشم من الأزرق الفاهي للحليب. كان أطفال القرى والبوادي السورية يوشَمون أثناء رضاعتهم. تمزج الأمّ قطرات من حليبها بهباب فانوس، ثم تدقّ الواشمةُ المزيجَ في البشرة الرقيقة للرضيع. أحياناً، كانت إبرة الوشم هي الإبرة الطاردة للجن، ذات الخرزة الفيروزية، المغروزة في القماط.
في صباح مشرق من صباحات الربيع، لاحق فاتح الطفل خالته بين الهضاب الملآنة بالزيتون. كان أخوها قد رفسها فقتل ابنها داخل بطنها. رآها تنتبذ صخرة قصية، قرب النهر، لتريق ما فاض من آلامها. طُهر حليب الأمّهات الذي يقسم به القرويون يستلزم مكاناً طاهراً يُسكَب فيه دون أن يُداس. أنصتَ فاتح. سمع ملياً بأيّ حزن اعتصرتْ خالتُه صدرها وراء الصخرة، بأيّ نعومة انهمرتْ على العشب رشقاتٌ دافئة من الحليب والدمع.
-موت أدونيس-
للوحات فاتح المدرس قِدَمٌ آخر سابق على الأسطورة واللاهوت. الطفولة والفقر يعمّقان هذا القِدم، فتشفّ تكويناته كالهواء وتكلح كالتراب، العنصرين الجوهريين اللذين يسودان تجربته كلها. لا أحسب أن أساطير القوميين السوريين وأمجادهم قد استهوته، ولا استهواه حقاً طريقهم السياسي الذي انتهجه صديقه أدونيس في بداياته. نشر كلاهما قصائدهما الأولى في مجلة "القيثارة" الشهرية التي كانت تصدر باللاذقية، وتحررها "جماعة الشعر الجديد". هنا قصيدة، منشورة سنة 1947:
الوجه الشمعي
ستفحّ الأعاصير المنتقمة أبداً خلف نافذتك العمياء!
وسيتجمّد الوهم الأخضر كعيون الأفعى
بين جفنيك الوحشيين!
ومطارق الماضي ذات الصرير،
هل تحسبينها ستكفّ يوماً ما عن خفقها
على لحم قيثارتك الخرساء؟
ألا ما أروعكِ من ذعر ليس له أفق يا صغيرتي،
وحيرة يمضغها النسيان
كما يمضغ الخريف أوراق أشجار اللوز،
لقد حوّلتك العنكبوت المعبودة
إلى وجه شمعي،
فما أروعك!
فاتح المدرس
أستاذ اللغة الإنكليزية في تجهيز حلب
(من كتاب "تراب الشرق" الماثل للطبع)
للصديقين "اللدودين" أسطورتان مختلفتان كلياً- الأولى اعتنقها علي أحمد سعيد، "فلاحاً" هبط من جبال العلويين وجاب العالم، إذ كنّى نفسه باسم الإله الذي يصرعه خنزير بري فيزهر دمه شقائقَ نعمان؛ الأسطورة الثانية أخفى وأمكر: "بَرازي"، كنية عايشو الفلاحة الكردية والدة فاتح المدرس التي رسمها مراراً، كما رسم خالاتها فاتِه ونازِه ورِندِه وجدّته صالحة برازي... "بَراز" هو الخنزير البرّي باللغة الكردية، ولا تزال تستخدم حتى اليوم في مديح الشجاعة.
-المسرحية انتهت. اَسدِلوا الستارة-
أجَلّ فاتح المدرس معلّميه، رغم خروجه عن المدارس كلها.
أحدهم غالب سالم، خريج أكاديمية الفنون في روما وأستاذه لمادة الرسم في المدرسة الثانوية بحلب. قبل أن تنتهي الحياة بغالب سالم في المصحات، وقبل أن تقتطع تركيا لواء اسكندرون، صحب طلابه إلى وادي الغار في أنطاكية؛ دعاهم هناك ليتأمل كل منهم ورقة شجر واحدة في تلك الغابة التي تحوّلت فيها دافنِهْ إلى شجرة غار، كما جاء في "مسخ الكائنات" لأوفيد، حيث "دافنِه العذراء تأمل بالنجاة والإله العاشق أبولو يطاردها، خائفاً من فشله في الإمساك بها". فمن أجل رسم الشجرة الجديدة لا بد من البحث عن الشجرة الأخرى المتوارية داخل الشجرة. الاحتمالات لا نهائية. الأهم هو العثور على اللامرئي.
وهبي الحريري، أستاذه الآخر في الثانوية، علمه احترام السرّ الكامن في الأشياء، تلك الشرارة الغافية التي ينبثق منها كلُّ فنّ- برْقٌ في الركام إذا لمع شفى التعاسات كلها، ثم تعود الحياة إلى سالف رتابتها، الرحيمة تارة والمخيفة تارة أخرى. تلك الأسرار الصغيرة التي يهملها العقل هي سَدى الرهافة.
فيما بعد، سافر فاتح إلى إيطاليا، حيث أقام وعمل في روما بين عامي 1954 و 1960. كان أستاذه في أكاديمية الفنون هو فرانكو جنتلليني. يقول عنه فاتح: " كان مُقلِاً جداً، يرسم بضعة أعمال في السنة. إنه من أشفّ الفنانين ألواناً وألطفهم بناء. كنت أرى في عينيه كلّ أحلام كارافاجيو".
مراهقاً، اختبر جنتلليني العمل بالسيراميك في مسقط رأسه فاينزا. مطلع شبابه، رسم الكثير من العجائز المتقاعدين والفلاحات والناس العاديين في الشوارع. كتب الشاعر جيوزبه أونغاريتي إن لوحات صديقه جنتلليني مفعمة بالتراث والهدوء، بالألفة والشِّعر، ورآها مستمدّة من أعجوبة بدائية تتجلى في الميل إلى الرسم باستخدام الأتربة والرمال، "إنها تجعلني أحلم بالجداريات التي رسمها جيوتو في دير بومبوزا بعد أن زارها بدعوة من دانتي".
على منوال سلفه دي كيريكو، كان جنتلليني مشّاء المدن، دون أن يحوّل التجربة إلى سؤال فلسفي. رسم ساحات روما وشوارعها وجسورها، أسواقها وواجهات محلات ألبستها ومناظر من ضواحيها، حيث سيارات وشاحنات "تعمل محركاتها على النبيذ بدلاً من البترول". لعل فرادة جنتلليني في معماره الفنّي هي استخلاص السحر من الواقع. استأثرت بانتباهه على الخصوص الكنائس والكاتدرائيات، ولكن، كما يذكر دينو بوتزاتي، "لا أحد يدخل كنائس جنتلليني، ولا أحد يخرج منها". تبدو لوحاته مسرحاً صغيراً الممثلون فيه كالأطفال يقلّدون مشاغل الكبار، أو هي، بتعبيرٍ آخر، "دخول ميتافيزيقا الديكور الإيطالي إلى الكوميديا دلّارتِهْ". الحياة ديكور ونحن العابرون أمامها لا نطيل الوقوف أمام أي شيء. نلقي عليها نظرة عابرة، ساهمة غالباً، لاهية أحياناً كمن يرى بطرف عينه امرأة جميلة تمرّ قربه بالصدفة- المحظوظ مَن يحظى بنظرة منها.
الفن لعبة مادتها حياة الفنان، والمسكوب في ثناياها عمره كله. العابرون أولى بالفرجة من الصروح. ولائم البيوت العادية أولى بالاحتفاء من العشاء الأخير. لا أسرار ولا باطنيات. اللغز الوحيد هو الحياة نفسها. الباعة الجوالون ورواد المقاهي، الموسيقيون في الحدائق، الخطيبة وخطيبها على ضفة التيبر، بائعات السمك وبائعات الكستناء... هؤلاء هم الحكام الحقيقيون لهذه المملكة الزائلة، ولعل أوضح معالمها هو المرح الصافي كالثرثرة بين الأصدقاء، كالطفلة تلعب الحجلة المرسومة بالطباشير على الأسفلت.
عاش جنتلليني الحرب العالمية الثانية في إيطاليا الفاشية. شهد البؤس والموت في أشنع أشكاله. لو كانت الحرب مسلية حقاً فلربما كان قد تخلّى عن تمسّكه بالسلم وصار محارباً. غير أن العنف مطرود من عالمه، حتى لو جرّدت الحرب لوحاتهِ من الألوان المشرقة لتملأها بالبرد والانتظار والترقّب. لعله أراد أن يحوّل أفدح التراجيديات إلى قصيدة للأطفال أو رسم من رسومهم، فما تبقى من الفردوس المفقود ليس إلا الخرافة وحطام الديكور: صخور السيرينات في كابري، أقنعة وقبعات من ورق الجرائد، دمى ممزّقة من كرتون، زوارق غريقة على شاطئ مهجور.
-المتلفّتون -
درّس فاتح المدرس، لسنوات طويلة، الفلسفةَ اليونانية القديمة وفلاسفة ما قبل المسيحية المشرقيين، في كلية الفنون الجميلة بدمشق.
يروي يمليخو، في "حياة فيثاغورس"، نزولَ فيثاغورس عن جبل الكرمل المقدس، "هادئاً، واثق الخطى، دون أن يلتفت"، إذ لم يره أحد يلتفت إلى الوراء. فاتح يلاعب الأساطير لكيلا تثقل على الروح بالضجر أو الفظاظة. بدلاً من تحويل المعبودات المحلية إلى صنم صغير، والمعبودات الكونية إلى صنم أكبر، حوّل الأصنام إلى دمى لتعود إلى حقيقتها. لعلّه، على منوال الهنود الحمر، رأى المستقبل وراءه، والماضي يتقدمه. في غاباتهم، شمال أميركا، عاش حيوانٌ نجا من الإبادة، لم تره عين ولا سمعته أذن، لأنه دائم الاختباء وراء شيء ما. لا يُرى مهما التفت الناظر وبأيّ وسيلة استعان. لن تسعف في وصفه أية لغة مهما عظمت. لا جدوى من الاستعانة بالعدسات والمرايا. لا جدوى من التربُّص به أو الإسراع إليه. لعله حيوان مقيمٌ وراء النظرة، صامتٌ في حضوره الدائم ولا شكل له. أيكون هذا هو الحدس؟
-الوجه الآخر من الظلّ-
خلق فاتح المدرس عوالم تتخطّى صانعها، ولا تفقد فيها الأفكار والأحلام ماديتها، ثم تأتي عين الناظر وتمنح تلك الأشياء ثوباً لا مادياً كمَن يبحث عن ظلال الصوت. أحسب أن الاهتداء إلى اللون قد حيّره أكثر من الشكل. مناخ لوحته أهمّ من موضوعها، المجموع فيها أدقّ من الأجزاء، كأنها المرةَ تلو الأخرى مشهدٌ واحدٌ يحاول أن يخلق فيه من الصفر كلَّ ما اختبره وكلّ ما تخيّله. كتب مرة: "من الصفر يتولّد رائعُ الواحد". كان هذا قسَمه أمام نفسه، وربّما تقزّزه من عصره، لأن الصفر شرف كل بداية وطُهرها الأوحد، ولأن "المعرفة المسبقة شهادة على موت اللوحة قبل ميلادها"، ولأن "الذاكرة لا تلد فناً". العين مختنقة بغبار المعرفة. الصفر، مثل السرّ ومثل الخطأ، منطلقُ فاتح في مسعاه المستحيل إلى منتهى الصدق ومنتهى الحساسية. الصفر هو الملاذ الأخير للبراءة، لأن العقل طافح بالقاذورات، يبحث عن الحقيقة فيقتلها؛ لأنّ العقل تسليته القتلُ والمفاهيم تتصاعد منه كدخان المعارك، في جنون الحضارة الراهنة المخزية، المروّجة الدؤوبة لسلعة الفهم؛ لأنّ العقل مثل المتاحف مليء بالجرائم والمسروقات والرقباء؛ لأنّ العقل عبْد القتلة واللصوص، على منوالهم يرسم الحدود ويختلس ويرشو وينهب كل ما يطاله، وحين يقحم نفسه في الفنّ تبدأ الكليشيهات، فيختنق الفنان بمشاعر العبودية، وتتحول الذاكرة إلى بئر مردومة بالنفايات. لهذا استوقفتْ فاتح أجزاءُ العقل الخاملة المعطّلة عن العمل. لهذا آمن أن الحدس هو النُّبل الوحيد الممكن.
رأى فاتح أن خطّ الحياة الذي يربط أعمال الفنان كلها، منذ الولادة وحتى الموت، متوارٍ عن العقل. "لي عمل واحد مرسوم على مدى ستين عاماً"، "فالرسام، مهما تنوّعت أساليبه على مرّ الزمن، يرسم لوحة واحدة مقطّعة إلى آلاف الوحدات". النور الذي رسم به ينبثق من كل الأنوار التي رآها واختزنها كنباتات البرية. كانت حاجته إلى المكان كحاجة الجذر إلى حنوّ التراب. التراب هواءُ لوحته، به يطهّر عقله كما تغسل به الفلاحات صحونهنّ التي ولَغْتها الكلاب.
-ظهيرة في نيسان-
لم ينسَ فاتح المدرس قطّ المخلوقات التي رآها في براري عفرين. ما يقوله عن موزاييك عالمه، أي تلك الوجوه المضلّعة التي ترصف أرض لوحته، إنما تراه الذبابة، ذات العينين الناريتين اللتين ترصدان الكائن من زوايا مختلفة في اللحظة نفسها، فتجزّئ الواقع كالرسامين التكعيبيين، ولكن من دون تحطيم الصورة أو تشويشها. معظم الحشرات التي طاردها فاتح الطفل وسمحت له أن يلتقطها، تتّسم عيونها بهذه الرؤية إياها، الفسيفسائية المركّبة. هكذا ترى النحلةُ والدبور وليث عفرين، وكذلك يرى اليعسوب سماويُّ الجسد أبنوسيُّ الأجنحة الذي لم يهجر ضفاف نهر عفرين، ساكناً معلقاً في الهواء كالأرض فوق المياه في ترانيم القيامة.
رباعيات الشعر الياباني نبّهت فاتح إلى ما يُسمّى "الأبعاد السحيقة لمجالات الإحساس". لعله صادف حكاية التلميذ الذي ألقى على باشو قصيدة هايكو كتبها أثناء تجوالهما في الحقول محفوفين باليعاسيب: "يعسوب أحمر/انزعْ جناحيه/ يصِرْ قرن فلفل"، فأجابه المعلّم الناسك المترحّل: "مات اليعسوب. أهكذا تخلق الحياة؟ قرون الفلفل الأحمر/ضعْ لها الأجنحة/وانظرْ: اليعاسيب". وصاياه مليئة بالمفارقات، وإحداها: "تجنّبْ أسماءَ التفضيل تزددْ حباً للعالم وتقلّ رغبتك فيه".
-المصلّية الصغيرة-
لم ينقطع فاتح المدرس عن استعادة ناس القرى فوق الهضاب والجبال شمال سوريا، وعلى الأخص شمال حلب وغربها، حيث تقمّط الفلاحات أطفالهنّ مُخفياتٍ أياديَهم وأقدامهم، فيُحكِمن شدَّ القماط حتى تجحظ العيون كعيون الآلهة في تماثيل إيبلا، ويبدو الجسدُ الصغير مشدوداً كالإصبع المضمّدة لا تُرى منه إلا بَصْمته: الوجه. هكذا يهدأ الباكون، ينوّمهم دفء أقمطتهم خانقة الضيق حتى نخالهم أمواتاً. ما أبقاهم في الزمن، ساكنون ويرتحلون إلى المستقبل ويصيرون أطفالاً نوّمتهم غازات الموت في الغوطة الشرقية التي كان فاتح قد رسم أطفالها وفلاحيها وكرومها. ما أبعد مُقمَّطيه عن المومياوات. ما أبعدهم عن شرانق الحرير في مخانق القَزّ. ما أقربهم إلى عروس المطر، كأنّهم دمى يستنزل بها الفلاحون ماءَ السماء في مواسم القحط. كل عروس عود يابس من نبتة المكنسة تلفّها الطفلات بشرائط ملوَّنة ممزَّقة من الفساتين القديمة للأمهات. بينهن مصلّية صغيرة تدعو أن ترتدي في الربيع حقلاً من الحنطة، مزيّناً بشقائق النعمان في سهول كيليكيا. تلك صلاةُ مَنْ ربُّها في قلبها، وسط ما تبقّى من سقوط الديانات كلّها. أحياناً، يبدأ الفن حيث تنتهي الصلاة.
-الطلقة والشاهد-
حين سئل فاتح المدرس لماذا آثر البقاء في سوريا، أجاب أجوبة متنوّعة عبر السنين: "عدتُ إلى هذه السماء الودودة التي بَنَتْني، والأرض التي شكّلتني"؛ "قليلٌ من الأخضر يكفيني لأستطيع أن أرى تحرّك الضوء على الصخور"؛ "لا أستطيع أن أفارق شجرة التّوت في داري، ولا صوت نقيق الضفادع في نهر قويق، ولا رنين طاسات "أبو كنجو" بائع العرقسوس، كما أنّي عاجزٌ عن اصطحاب كلّ هذه الأشياء معي".
يتداول أكراد عفرين أن الدوريّ تخلّف عن سرب الطيور التي هاجرت إلى الشرق بحثاً عن الله، لأنه لا يستطيع أن يفارق داره. لم تقنع أعذاره الهدهدَ الرسول، رأسَ الرحلة، فكان العقاب قيداً خفيّاً حرم العصفور من المشي على تراب موطنه. إنه يناجي النبي سليمان في هذه الصلاة:
آذارك دافئ الضوء بارد النسمات.
يا ملك الجنّ والإنس،
ابتليتني بالحذر.
وهبتَ فراخي عراة للقطط
أبحتَ أعشاشي للثعابين.
ندُّ الجاموس الأسود، أنا العصفور،
ألذّ لقمة تُشوى في التنّور.
نزِقٌ وكلامي سريع.
أنا مهرجك،
الهارب من مدخنة إلى مدخنة،
خطوتي قفزة صغيرة،
وساقاي في قيدك، يا فقيه الطير، ساق واحدة.
إحداهما الغروب والأخرى الشروق،
إحداهما الحبُّ والأخرى الخوف.
بأيّ الأحمرين سأبدأ وعلى أيّ سأنتهي؟
بهما أقفز من حجر إلى حجر
لأقطع نهر الأيام.
شددتُ إلى البيت روحي
فأطلقتَ جناحيّ وغللتَ الساقين.
فُكّ قيدي.
فكّه بخاتمك، يا سليمان الملك،
يا من تاجهُ قصرُ عصافير وقلبه معبد.
أنا مغلولك منذ ألف ألف عام،
بالمشي أكرمتَ الغراب وحرمتني.
كلّمتَ النمل
ونصيبي صمتك ما أقساه.
عصيتُك فاعفُ عنّي.
كيف لي أن أترك هذه الدار،
وإن زُرِعَتْ بالموت، بالبنادق والفخاخ؟
كيف سأهجر ترابَ فنائها وريشي منه؟
لا شرق ولا غرب.
رجائي هذه البقعة الصغيرة وحدها،
وشاهداي الأعميان الشمسُ والقمر.
سأبقى هنا.
بيتي مهجور وأنا الجنيّ أسكنه.
أودّع الشمس بالمشاجرات
وداع الهاتفين بطلوعها.
حنجرتي شحذها الصبر
وغنائي لا يُشكَر.
تتلوّى في حوصلتي دودة ذهبية نبشتها من يابس الروث،
وبيضتي حبة لوز ملبّسة بالسكّر.
شرابي سراب. عيني قطرة نور شعّت في هَول الأيام.
للكلمات حدودٌ كالجراح، ولا حدّ للحزن.
أخطائي الصغيرة باهظة الأثمان.
ألا راحمَ للحمقى،
يا ساترَ العيوب بالحبّ؟
يا من بِاسمِهِ تُفْتح الأبواب،
رجوتُك فُكَّ قيدي:
إصبع السبّ والشهادتين تضغط الزناد،
والطلقة الصغيرة تصفّر على الطريق إلى قلبي الصغير...
-نسيجُ وحدِه-
التجريد لدى فاتح المدرس هو الطهارة. قال مرة: "إني أقف على حافة التجريد"، "وإذا نظرتَ في أعماق التجريد رأيت شكلاً خفياً"، "يتجاور لونان فيُولد من المجاورة لونٌ ثالث لا وجود له إلا في ذهن الناظر". قد تشدّنا في لوحاته طراوةُ الطين، أو نداوة الكلس قبل أن يجفّ، فتكاد العين تتنفّس ما ترى منتعشةً بالبرودة. لوحاتٌ أخرى له تلمس العين بدفء مضيء، لكأنه مبثوث من خشونة الصوف في سجّادة على حائط مشمس. مهما صرخ الأحمر فيها يبقى هادئاً. تتوازى الشرائط الملونة في أردية تكويناته، سميكة كالبسط المقلّمة التي كانت الفلاحات ينسجنها من الخرق والألبسة البالية في قرى حلب. كنّ يظهرن في الربيع على أطراف السباخ والمستنقعات، وعلى رؤوسهن بُقَج ضخمة خفيفة، مملوءة بالعشب أو الريش: أرياش الطيور المهاجرة كالكراكي، والنحام الوردي، والحدآت، وأبو منجل الأصلع... لتطريز السجاجيد وحشي اللحف والمخدات. ربما عبرت إحداهنّ لوحة "كفر جنة" لفاتح المدرس، وارتسم طيفها في الأفق البعيد مثل كلب على أهبة النباح.
تحت شمس نيسان، في موسم الجزّ، كان الرعاة يخرجون مقصاتهم الضخمة، والنساء يمشّطن الصوف المجزوز بأمشاط خشب ضخمة ذوات أسنان حديدية، واحدها أطول من الأطفال حين يقيسون بها قاماتهم، ثم يغسلن الصوف ويصبغنه ويغزلنه، ثم يمتّنّ الخيطان بنقعها في المياه الباردة للينابيع. ما من ليف واحد يمتصّ اللون كليف آخر. التدرجات لا نهائية، ممزوجة بروائح نيسان: الأسود الفاحم من مغلي قشور الرمان وطين المستنقعات. الأصفر الفاتح شديد الهشاشة من جذور المشمش. الأحمر الفاتح من جذور القصب الدبقة. الوردي كديدان الأرض من ثمار الخرّوب. الرصاصي، المستمدّ من الحديد، يأكل النسيج كالعثّ. الأحمر، الفاقع المشترى من السوق، يسمى "صباغ الكرخانة"...
كانت النساجات في ريف حلب يبدأن من دون أي نموذج مسبق، منقادات لألطاف التحولات. الأحصنة داخل رؤوسهن ترجمتها أصابعهن إلى ديكة، والنرجسة إلى زهرة أقحوان، والشمس اللاهبة إلى حبة ليمون تكاد العين تشمّ فوحها. كل هذا الجمال محمول على خيوط خفية تتعامد كالصلبان.
كانت النساجات الكرديات يضفرن خصلاً من شَعرهنّ في البسط، ويخترن لوناً برتقالياً زاهياً لسجادة النوروز. لكل منهن في سجادتها شكلٌ خفيّ. كن يعبثن بصرامة الهندسة، فيغيب التناظر تماماً عن الأشكال التي يخترنها من معيَّنات وزهور وأسماك، وقد يضفن ريشة قبرة أو قطاة إلى سجادة المهد، لأن كليهما طائر لا يهاجر، يتماهى وترابه فلا تميّزه العين إلا إذا طار، ولأن القبرة تهجر عشها بين السنابل إذا لمس غريبٌ بيوضها.
كانت بسط الشركسيات قطنيّة الحواف، تُزركش بمخالب ومناقير من نسور القوقاز التي حملها أجدادهن معهم، ولم تفارق الذاكرة أصابعهن. كن يضفرن أرياش اللقالق بين الخيطان، فتتساقط أوبارها بمرور الوقت وتبقى سيقانها قاسية كالأظفار. كنّ يأتين بها عادةً من مملحة الجبول التي رسمها فاتح بألوان الشمع سنة 1961.
الأرمنيات، الأمّيات كسائر النسّاجات، كنّ يكتبن تاريخ البساط من الخلف، بالمقلوب أحياناً. ثمة رهبان تتلمذوا عليهن. كانت التركمانيات المستعدات للزواج ينسجن البسط مثل جدار مزروع بالكلاليب والزهور، في قلب كل زهرة عينٌ حارسة. تلك أشكال تصادف وسط آسيا. بأمثال تلك البسط كانت تُغطّى الأرض أو المهود أو فراش الزفاف. كان الأطفال الموتى يكفَّنون بسجادات الصلاة، ذات الألوان الطبيعية للصوف: السكري والبني والرمادي، أو يكفنون بسجادات مهودهم- أكفان ملوّنة، طاهرة، خشنة كلباس الخزّ عند الرهبان، دافئة كأيدي الفلاحات.
-قصص الجبال الشمالية-
بعد الفقر والخوف، اللعنتين المديدتين اللتين تخطّاهما مطلع شبابه، يصعد فاتح المدرس أدراج جبل تستاجيو في روما. هذا الجبل، في الواقع، تلّةٌ للنزهات شرقي نهر التيبر، يرتادها قلة من عشّاق التنزّه في الأماكن المهجورة. علَتْ هذه التلة عبر القرون. مادّتها ملايين الجرار والخوابي والدّنان الفارغة التي هشّمها الرومان، وأهالوا فوقها الكلس والتراب كي يقبروا الروائح الحامضة للنبيذ وزيت الزيتون. تلك الروائح تحمل فاتح إلى صخور المعاصر في المدن الميتة.
"تنتهي حدود المتوسط حيث تختفي بساتين الزيتون". مفردة "الزراعة" كناية معروفة عن "الانتظار". يزرع الفلاحون موتاهم على رؤوس التلال في سوريا، فيبقى الموت ماثلاً ومتوارياً، مشرفاً عليهم من أجمل الأماكن، يرونه من بعيد، من كل الجهات، كأبراج المعابد. تعاقب الفصول يلوّن مثاويهم كمرور السحاب، مظللاً ومضيئاً الوهادَ وأشجارَ السفوح بتدرجات النهديّ، الفضي، السماوي، القرميدي، الليلكيّ، الخمريّ، الرمّاني، الليموني، الفستقي، العفني... للضوء مذاق. للظلال رائحة. تلك الطبيعة ألهمت فاتح الكثير الكثير. ظلّت روحه سارحة في أرجائها. غالباً ما يغشى مناظرَه ضبابٌ خفيف كأنه بخارُ كلمة لُفظتْ ولم يسمعها أحد.
- اللعب والميت-
الماضي يغطّي الماضي عبر أرجاء سوريا. ثمة لُقى من عصور شتّى، لا تزال الأمطار تنبشها على أكتاف التلال. كان الأطفال يلملمونها، فيلعبون الداما بحبات الخرز والنقود القديمة ويغلبون الشيوخ، أو يصففون شظايا الزجاج وفلَقات الفخّار في أعمدة صغيرة مقلقلة بين شواهد القبور. اللاعب يقذف العمود بحجر، فإذا هدمه هرب، ثم يعرقل بقيةُ اللاعبين محاولاتِ رجوعه ليعيد بناء عموده الذي انهار: كِسرةُ فخّار تفوح بضوع نبيذ خفيف، أخرى تشرّبت زيتَ زيتون، ثالثة مزخرفة بحرف يوناني يشبه القبّعة، شظايا بلور أخضر من مدامع الرومان تغشاها زرقة فاهية- ذاك الأزرق ملحُ دموع ذرفها اليتامى والأرامل والثكالى على موتاهم.
-الاحتفال بالفقر-
النظرة هي امتداد الجسد عبر الهواء. الهواء نظرة ندخلها، والدخولُ عبر الوجه رجوعٌ إلى النفس.
القلة والاكتظاظ والضيق سماتُ الفقر والنسك. ترتفع الوجوه في فضاء لوحة فاتح المدرس، وأحياناً تزدحم، تحت العبور الساحق للزمن، فتجمع الرقةَ إلى الصلابة والاتساع كالقروش التي كان الأولاد يثبّتونها على السكك ليضخّمها عبورُ القطارات؛ أو قد تبدو وجوهه المنضّدة كالوجوه المضغوطة والمقلوبة في قواعد الأعمدة البيزنطية، صابرة على عبء وألم كبيرين، وفي خطوط تقاطيعها يتمادى النحت الآشوري وملامح الريفيات في حوض العاصي أو ملامح البدويات ذوات القامات المستقيمة في حوض الفرات. معمار عمله الرموز والوضوح، المناداةُ والصَدّ، في آن واحد. معماره خللٌ متوازن، أحد أعمدته "الصورة ذات العطاء السيكولوجي". يقول فاتح: "رسمتُ وجوه النازحات اللاتي التقيت بهنّ على أرصفة محطات السفر مع أطفالهنّ، لا يعرفن أين يذهبن وماذا بانتظارهن. رأيتهن ينظرن إلى أفق غير موجود، أو هكذا خيّل إليّ، وتذكرت خالاتي في المرتفعات الشمالية ينتظرن أحداً ما راح ولم يعد أبداً. هذه وجوه تتّهمني، وتتّهم كلّ مَن يراها. تتكلم بصمت وابتسامة فيها الكثير من التساؤل الذي لا يرتجي جواباً".
-جميلاً كورقة صفراء في شجرة زيتون-
يعلّق فاتح المدرّس وجوهه إلى عمود لا يكتمل، لا يبتعد عن وجوه الموتى الذين تلاشوا في التراب، ولا يبلغ أبداً وجه الله. هذه أبراجه المائلة في صرح طفولته المسقوف برحابة السماء، أو ربما مدافنه التدمرية، أو مأوى مخلوقاته الخيالية ووحوشه وفلّاحاته ورُعاته ونسّاكه ومجانينه العموديين. ترعرع بين الرعاة، بين أخواله الأكراد المغامرين، يطعم الجداء ملحاً وسكراً من يده، يرعى الحيوانات "ويأكل من الأعشاب نفسها التي تأكلها، ويكلم الفراشات والأحصنة". كبير العموديين مار سمعان بدأ راعياً أيضاً، كمعظم القديسين والأنبياء، وكان قد سكن في شبابه بئراً وكهفاً، قبل أن يقضي بقية حياته صائماً متنقلاً على قمم الأعمدة- لازمها حتى صار عماد الكنيسة، سجيناً يستشرف أضعف نأمة للروح، مطلاً طوال الوقت على أعاجيب الضوء والجمال المخيف للطبيعة في وِهاد المدن الميتة. الطبيعة لا تعرف الرحمة، ولا الأبعاد والمراتب والاتجاهات. فوق الجبل الذي يحمل اسم سمعان، احتذى الرهبان بقديسهم وداووا قروحهم بالغبار. كان لكلّ راهب جرّةُ توبته، يواري فيها منيَّ الاحتلام حين يضحك عليه الشيطان في المنامات. الطهارة جوهر العزلة، ولا بدّ من بقعة طاهرة لدفن ماء الحياة إذا تدفّق من محبس الجسد.
النظرة أوسع من أية صورة. بعد ألف عام، وسط الخرائب، يفتح راعٍ جرةً من تلك الجرار المختومة فيجدها خاوية. حين يقلبها تطيّر النسائم غبارَ محتواها وتحمله إلى الكروم والبساتين، سابحاً في الهواء الأزرق للوديان صوب جبال الأمانوس، عبر سهل جوما الذي يشقّه نهر عفرين. هناك، ذات ليلة مقمرة من ليالي أيار، يجلس الفلاحون وضيوفٌ من البدو بسراويلهم الزعفرانية وعوائلهم، على الصخور البنفسجية والسمراء، المنقطة بصُفرة الطحالب، يحتفلون بالنظر إلى غصون الزيتون المزهرة، في تماوجها على السفوح. بينهم فتى قصير كالجنّي يتهجّى المصير "من نطفة الأمس إلى رفات الغد". للتو رأى أمّه، بضربتين من مشط يدها اليمنى تطبع صليباً على عجين الخبز، ثم تغطّي الطشت بمنديل رأسها القديم. وحده يرى بقايا الرهبان والتيوس والدموع طافية في الأعالي تحت ضوء القمر. سيفضّض هذا الغبار أوراقَ الزيتون، ويدخل زهورها الصغيرة ليستقرّ في قلوب ثمارها. وذات يوم، سيحطّ الغبار رحاله في دمشق، على رفوف مرسمٍ تحت الأرض في ساحة النجمة.
إشارات
النصوص المنشورة هنا مقتطفات من قراءة طويلة غير منتهية في عوالم فاتح المدرس. كانت نواتها الأولى هي النص الذي كتبته أواخر 2019 من أجل الترجمة الإنكليزية لكتاب "فاتح وأدونيس: حوار"، الصادر باللغة العربية لدى غاليري أتاسي سنة 2009.
-العبارات بين أقواس التنصيص قالها فاتح المدرس أو كتبها، باستثناء:
"المعجزات كسل الله" من "كتاب اللاطمأنينة" لفرناندو بيسوا؛ "من نطفة الأمس إلى رفات الغد" من "تأمّلات" ماركو آوريليو التي أحبها فاتح المدرس حبّاً جمّاً؛ "شاحنات تعمل محركاتها على النبيذ بدلاً من البترول" لآلان بوسكيه؛ "دخول ميتافيزيقا الديكور الإيطالي إلى الكوميديا دلّارتِه" لآلان جوفروا؛ "تنتهي حدود المتوسط حيث تختفي بساتين الزيتون" مستوحاة من بردراغ ماتفيْيِفيتش.
-العديد من عناوين النصوص عائد إلى عناوين لوحات فاتح المدرس:
رموز الساعة الثالثة صباحاً، 1993؛ زفاف في جبال القلمون، 1977؛ المسيح يصلب من جديد، (1980)؛ المسيح وكلب طروادة، 1967؛ النور الأحمر وناره، 1974؛ سيدة جبل الزيتون، 1981؛ موت أدونيس، (لم أجد لها تأريخاً في المصادر المتوافرة)؛ الوجه الآخر من الظل، 1988؛ ظهيرة في نيسان، 1973؛ المصلّية الصغيرة، 1972؛ الطلقة والشاهد، 1983؛ قصص الجبال الشمالية، 1980؛ اللعب والميت، 1979؛ الاحتفال بالفقر، 1993.
-تواريخ لوحات أخرى مذكورة في النصوص: الملاك، 1971؛ إسرافيل حامل البوق الذهبي، 1995؛ العشاء الأخير، 1964؛ بشرة الأرض (1955)، العذراء والحمامة (1970)، حوّاء 1965؛ كفر جنّة، 1952؛ ولوحات عديدة عبر السنين عنوانها أمّ وطفل و البشارة.
-كلب طروادة: شريك الواقعة وشاهدها صديقي خليل حَمِه.
-المسرحية انتهت. اَسدِلوا الستارة: هذه العبارة، في إحدى الروايات، هي الكلمات الأخيرة لبتهوفن على فراش الموت، وقيل بل إنه قال باللاتينية: "صفّقوا يا أصدقاء، المهزلة انتهت". كُتب قسم من هذا النص استناداً إلى كتابات مختلفة تناولت أعمال جنتلليني، كتبها: جيوزبه أونغاريتي، دينو بوتزاتي، ألان بوسكيه، ألان جوفروا، بيير باولو بازوليني، ألبرتو مورافيا.
-نسيج وحده: جزء من المعلومات المتصلة بالسجاد في قرى حلب مستقى من الشاعر الدنماركي ياسبر برغ الذي اقتنى مجموعة نفيسة من تلك السجاجيد.
-القمر الشرقي على شاطئ الغرب، ديوان مشترك لفاتح المدرس وشريف خزندار باللغتين العربية والفرنسية، منشورات مطابع الجمهورية، دمشق 1962.
-ديوان فاتح المدرس وهج الصور المتباعدة 1980-1984، تقديم جاك الأسود، كما جاء في الكتاب القيّم لسمر حمارنة كيف يرى فاتح المدرس، دمشق 1999.
ختاماً، لا بدّ لي من التنويه بكتب ووثائق وتسجيلات ومقابلات مع فاتح المدرس ضمن أرشيف مؤسسة أتاسي.