جدران دمشق العارية

في مرثاة شاعرية لدمشق وفنانيها وفضاءاتها الإبداعية، يسيل حبر الشاعر والروائي وكاتب السناريو الحاصِل على جوائز عالمية عدة، خالد خليفة.

جدران دمشق العارية - Features - Atassi Foundation

منظر دمشق القديمة والمسجد الأموي

 كان افتتاح معرض استعادي لأعمال الفنان الفلسطيني المشهور مصطفى الحلاج في يناير/كانون الثاني 2020، غريباً عن حياة دمشق العادية خلال العشر سنوات الماضية. فالبلاد الغارقة في فوضى لا مثيل لها، وأزمات معيشية لا تنتهي، كان يناسبها حفريات الحلاج القادمة من زمن آخر.

كنتُ أفكر في الطريق الطويل إلى صالة جورج كامل في المزة بمصطفى الحلاج ولوحاته بالأبيض والأسود وحفرياته التي لطالما تـأملتها لسنوات طويلة وحرستني كملاك حين كانت تغطي جدران نادي الصحافيين حيث كنت أقيم ربع يومي بشكل منتظم ولمدة ١٢ سنة، كتبتُ خلالها أغلب رواياتي ومسلسلاتي. أذكر كم كنتُ محظوظاً بأنني سأبقى أكتب في هذا المكان البسيط الذي يقدّم أطيب قهوة في دمشق، وتكتسي جدرانه أكثر من ثلاثين لوحة لأحد رموز الفن الكبار. لكن عام ٢٠٠٧ أو ٢٠٠٨ اختفت اللوحات فجأة وبقيت الجدران عارية. أخبروني بلهجة شبه معتذرين أن اللوحات عادت لأصحابها. ومن يومها فَقَدَ نادي الصحفيين نصف جماله وفقدتُ نصف شغفي نحوه، والتغييرات التي تمت بعد ٢٠١٢ تكفّلت بالنصف الثاني وأصبح المكان خراباً حقيقياً كأغلب مدن سوريا. 

جدران دمشق العارية - Features - Atassi Foundation

افتتاح معرض مصطفى الحلاج في غاليري جورج كامل. بإذن من غاليري جورج كامل، دمشق

أكاد أقول بأن أي معرض تشكيلي في السنوات الماضية كان حدثاً استثنائياً بالنسبة لي، والعدد القليل من البشر المتبقي في دمشق أنفسهم، يجولون بين اللوحات لدقائق ويتبادلون أخبارهم ما تبقى من الوقت. أصبح أي نشاط ثقافي فرصة حقيقية للقاء أولئك البشر الذين لم يغادروا البلاد. تجول المرارة في أرجاء صالات العرض التي حاولت استعادة عافيتها. لكن كل شيء واضح للعيان، الحرب في كل مكان، في حركة الناس وشفاههم التي تتحرك ببطء، ولا يمكن تجاهل ذلك. الصمت يخيّم على جدران الصالات التي حاولت بشتى السبل ألا تموت. 

الشيء نفسه حاوله الفنان التشكيلي عصام درويش بتنظيم معرض استعادي في غاليري عشتار لمجموعة لوحات من مقتنيات الصالة لعدد كبير من الرواد. لوحاتٌ لفاتح مدرس، محمود جلال، نصير شورى، إدوار شهدا، عبد الله مراد وغيرهم. معرضٌ يشبه صرخة صغيرة للمتشبثين بمدينتهم، يشبه عرض مجموعة فساتين عرس من الماضي البعيد لمجموعة صديقات يحاولن إيجاد فرصة لقول كل شيء عن الحب قبل الموت المحقق. 

معارض قليلة، وُعُودٌ بنشاط مختلف في العام المقبل. أيضاً فعل مصطفى علي في معارضه القليلة، وسامر قزح الذي استضاف معارض جماعية من أهمها معرض النحاتين الشباب، محاولاً إبقاء شعلة صالته متقدة. أشياء قليلة مبعثرة لا تصنع حركة تشكيلية، وكنس الغبار عن الصالات يحتاج إلى توقف الحرب التي لم تتوقف حتى الآن رغم توقف العمليات العسكرية في محيط دمشق. 

جدران دمشق العارية - Features - Atassi Foundation

افتتاح معرض في غاليري عشتار. بإذن من غاليري عشتار، دمشق

الأكثر قسوة ما يعانيه الفنانين الشباب، خاصة طلاب الفنون الجميلة الذين يتخرجون في السنوات العشرة بصمت، كأنهم في حداد، لا احتفالات صاخبة ولا ترقُّب لفنان الدفعة البارز الذي سيحتل مكانه فوراً بين أساتذته. الآن ستتخرج دفعة الحرب العاشرة وتذهب إلى النسيان أو تهاجر إلى أمكنة أخرى للبحث عن الدفء. فقد أصبحت الحياة هنا صقيعاً لا يمكن احتماله، وتحولت البلاد إلى مقبرة كبيرة حتى أشد المتفائلين أمثالي لا يعتقدون بأمل الشفاء القريب. لا مكان لهؤلاء الفنانين الشباب لعرض لوحاتهم، لا زبائن يبادلون لوحاتهم حتى بثمن الألوان. 

باع السوريون أصلاً أكثر من نصف مقتنياتهم وهرّبوا النصف الأخر إلى منافيهم الجديدة. ولتهريب وبيع اللوحات في الحرب حكايات مضحكة وسط المأساة. الكثير من البيوت سُرقت بالكامل، إلا أن المكتبات واللوحات بقيت كما هي معلقة على جدران نصف مهدمة دون أسقف أو أبواب. الجميع يتندر بأن "الحرامية" و"الشبيحة" لا يعرفون قيمة لوحة لصفوان داحول أو حمود شنتوت أو لؤي كيالي أو عبد الله مراد. ماذا ستفعل اللوحات وحيدة حين يضيع كل شيء وتتهدم المدن والبلاد؟ لا شيء. 

أبحثُ عن إجابات وأنا أبحث عن أصدقائي الباقين. أسير إلى مرسم صديق العمر فادي يازجي، حين يفتح لي الباب الطويل المطلّ على باحة الدار الكبيرة ذاتها، أشعر بأن كل شيء على ما يرام، أجول في المرسم الفوضوي، أطمئن أن فادي مازال يعمل دون توقف، يكدّس اللوحات  والتماثيل والموتيفات والدراسات. في كل مكان زاوية جديدة. غصّ المكان الضيق، لكن فادي لم يعد هو نفسه، لقد أصبح أكثر ألماً، أكثر تقبلاً لكل الخسارات، وحيداً مع ملائكته التي تطير في السماء المغلقة. 

جدران دمشق العارية - Features - Atassi Foundation

مرسم الفنان فادي يازجي. بإذن من الفنان

أكملُ طريقي في وقت آخر إلى مرسم صديقي يوسف عبد لكي وأراقب زهوره ومشاريعه التي لا تتوقف، مازال لدى يوسف ذلك التوق الكبير للمغامرة، وحين أصل إلى مرسم الفنان الكبير عبد الله مراد الذي ينتظر معجزة لن تتحقق. لكن ابتسامته الخجولة وقوة الإبداع في قلبه تشعرني بأمل كبير. كل مرة أتأمل لوحات فادي عبد الله مراد الحاضر بقوة إلى درجة شعرت لأول مرة بمعنى الحضور الأبدي. نعم فادي عبد الله مراد سيبقى في قلوبنا ولوحاته ستبقى للأبد. 

أفكّرُ في أحزان أصدقائي الرسامين، وأتبادل معهم أخبار من هاجروا، يخبرونني أصدقائي بخجل عن معارضهم المقبلة بعدم يقين، أصبحت المعارض حولية، تبدأ الصالة بنفض الغبار ثم تتوقف من جديد، الجميع يعرف بأنها تمارين تنفُّس قبل حبس النفس الأخير. 

جدران دمشق العارية - Features - Atassi Foundation

 

كل صالات دمشق اليوم يغطّيها الغبار، والجميع يتساءل ماذا تفعل اللوحة في الحرب؟ أتابع جولتي على أغلب النشاطات المتقطعة. أحاول ألا أغيب، أريد مصادفة أصدقاء قدماء أضعتهم في الحرب، وفي الأمكنة البعيدة عن العاصمة، في المدن الصغيرة التي كانت مراكز ثقافية مازال الشباب يرسمون.

مازال ملتقى الدلبة في مشتى الحلو يجذب الفنانين والجمهور، كذلك الأمر في سلمية ومصياف حيث مرسم الفنان سامر إسماعيل يجتمع شباب وتلاميذ ويرسمون. يجول بينهم سامر بهدوئه وخبرته الطويلة في التعامل مع التعليم، الشيء نفسه في اللاذقية وحمص وباقي المدن السورية، حيث تحاول صالات البلاد أن لا تموت، كما يحاول الفنانون أن لا تجف ألوانهم. في انتظار لوحات الحرب الكبرى التي ستهزم الحرب وتحولها إلى ذكرى، أحاولُ، أنا أيضاً، ألا أفقد الأمل.