في هذا العدد السابع من إصدار "المجلة" المخصص لإلقاء الضوء على حركة الفنانين السوريين في فرنسا، أجرينا حواراً مع الفنان السوري منيف عجاج، من مواليد عام ١٩٦٨م ، يقيم ويعمل في فرنسا منذ عام ٢٠١٢م . يروي لنا منيف حكايته وسيرته الفنية ، مستعرضاً كل ما فيها من صعوبات و عوائق و صدف وتحولات ونجاحات.
ولقد بدأ حوارنا العفوي مع الفنان بالحديث عمّا أفضت إليه حال القضية السورية اليوم بعد تسع سنوات على بدء الأحداث وانطلاق الثورة فيها، وما آلت إليه مصائر الفنانين السوريين، بعد تخبطات وآلام و شعور بالعجز، عقبها خروج من هذه الدائرة المُنهكة و رغبة قوية بالنهوض و التجديد و ترميم الذات الفنية و الإنسانية على حد سواء.
«درستُ في روسيا العمارة الداخلية، وكنت أنوي العودة إلى سوريا كمهندس بهذا التخصص.» هكذا يبدأ الفنان منيف عجاج في سرد مساره الفني. ثم يتابع :«في الأكاديمية في روسيا كانت مادة رسم وتصوير الموديل العاري بصيغه المتعددة و تعلّم التشريح الفني ، أساسا لكل الاختصاصات الفنية، فهي مفاتيح لإتقان الرسم بمهارة أياً كان التخصص. لدى عودتي إلى سوريا في عام ١٩٩٦م ، و كموفد لصالح وزارة التربية ، تم تعييني كمدرّس للرسم في بلدة موحسن في دير الزور ، ثم خدمت الخدمة الإلزامية وعدت بعدها مجدداً إلى التعليم. أما ما يخص العمل في التصميم و العمارة الداخلية، فلقد كان من الصعب الدخول إلى الحقل العملي الذي يتطلب نوع من الصلات و العلاقات العامة» و كانت تجربة التدريس صعبة أيضاً : « بسبب نقص المعدات اللازمة و عدم إمكانية تعديل المناهج ، بالإضافة إلى أن حصص الرسم كانت تؤخذ للمواد الأخرى في كثر من الأحيان وأن المجتمع غير مهتم بالثقافة الفنية كما هو مأمول ». بعد هذه المرحلة ، سعى منيف بكل جهد للانتقال إلى دمشق رغبة منه بالاقتراب من الأوساط الثقافية ومواكبة النشاطات الفنية ، وكان ذلك منذ عام ٢٠٠٠م ، حيث بدأ التدريس في المعاهد التخصصية ، مستمرّاً حتى عام ٢٠١٢ قبيل انتقاله إلى فرنسا للالتحاق بعائلة هناك.
و في دمشق ، إلى جانب عمله في التدريس ، يقول الفنان : « كنت أقوم برسم ما هو مطلوب في السوق التجاري للفن ، مثل نسخ اللوحات العالمية أو رسم الأحياء الدمشقية وبيعها. في أحد الأيام طلب مني السيد أحمد قطيط الذي كان يعمل في هذا المجال، لوحات خاصة بي ، بعيداً عن المتداول في السوق ، وهذا ما حدث بالفعل، فبدأت بالعمل بتقنيات مختلفة ، من مائيات و زيتيات و رسوم بالفحم و الرصاص ، و مواضيع أختارها عن دمشق الحديثة و رؤى فنية خاصة.»
بهذه العفوية يخبرنا منيف كيف وجدت مهارته العالية بالرسم ، المصقولة أكاديمياً، منفذها إلى اللوحة. وتالياً، قاده اطلاعه الدائم على المستجدات على الساحة العربية ، ومتابعة الأحداث إلى الانتقال لنوع آخر من التعبير، و بدأ يهتم بالتعبير عن قضايا معينة دون غيرها ، كان أبرزها ما يلامس واقع الاستبداد السياسي و مصادرة الحريات. يقول منيف : «عندما بدأت أحداث حرب العراق ، تأثرت كثيراً بصور سجن أبو غريب و مقتل صدام حسين و أبنائه. قمت برسم هذه الصور، و لقد عُرضت في الأردن في غاليري زارا عام ٢٠٠٧م ، حيث كانت السيدة مديرة الصالة ماريان ساحوري تهتم بالدرجة الأولى بالقيمة الفنية رغم قسوة الصور، قبل الاهتمام بإمكانية البيع (وهو حق طبيعي لصالات العرض أن تسعى للبيع). لكن هذه بعض هذه الأعمال لم يصوّر وجوهاً بشرية، إنما وجوه حيوان الحمار» ولدى سؤالنا فيما إذا كان للحمار رمزية معينة يبتغيها ، أجاب منيف بأن : « ليس هناك ترميز محدد ، إنما هو كائن أخفي خلفه شخصيات مختلفة، لكن الطريف أنه و من دون أي شروح ، بدا غالباً من مفهوم أنه يشير إلى رجال السلطة، وهذا ما حدث عندما زارت المعرض سيدة أمريكية متخصصة في تاريخ الفن وكانت مصرّة أن إحدى اللوحات تمثل صدام حسين».
قبل ذلك، كان منيف قد أقدم على مغامرة قلّ من يتجرأ على القيام بها، حيث أرسل في عام ٢٠٠٣م لوحة بقياس كبير تصوّر بورتريهات وقورة لثلاثة حمير، للمشاركة في بينالي اللاذقية، وبما أن الفنان كان يعلم في داخله أنه يخفي ورائها شخصيات معينة ، قد شعر بالخوف في لحظة ما ، و بدأت تتفاقم في داخله أسئلة حول خطورة هذه الخطوة، إلّا أنها عبرت ، بل وحازت على الجائزة الثالثة في المهرجان!
يقول منيف : «في حدود عام ٢٠٠٨، انتقلت للعيش في حي المهاجرين، أثناء عبوري اليومي كنت أرى رجال المخابرات في كل مكان ، ينتشرون على جانبي الطريق ، من كل شجرة يتدلى هاتف يجلس تحتها عنصر من عناصر الأمن، كل بائعي الأكشاك يرمقوني بنظرة مخابراتية تثير التوتر . وهنا كنا بدأنا نشعر باشتداد الخناق على أعناق السوريين و صارت قصص المعتقلات و التعذيب تتسرب ، حتى دخلت إلى لوحتي ، فرسمتُ صور التعذيب و أفعال الإهانة ، من اقتلاع الشارب و الضرب . في عام ٢٠٠٩م أقمت بهذه اللوحات معرضي الثاني في غاليري زارا في الأردن ، حملَ عنوان «لحظات ما قبل الفجيعة» وكنت أصوّر فيه أحوال الضحية. بعد وقت قصير ، رحت أصوّر الجلاد.» وهنا نسأل منيف ، عن حقيقة هذه المفارقة ، فهو يرسم الجلاد عارياً كما الضحية ، فما هي دلالة هذا العري ؟ فيجيب بأن العري في اللوحة بالنسبة إليه «هو عنصر جمالي بصري وأن رسم الجسد قد بات من البديهيات بالنسبة إليه ، فلا يبذل أي جهد فكري من أجل بنائه في اللوحة ، إنما يتجلّى بكل عفوية».
لاحقاً أقام منيف معرضاً في مرسمه الشخصي في دمشق عام ٢٠١٠م على مسؤوليته الشخصية بحضور أفراد و ممثلي صالات العرض من المهتمين . ويعتبر هذا المعرض خطوة شديدة الجرأة، ففي هذا الحي حيث رجال الأمن مزروعون في كل زاوية، قام منيف بعرض لوحات تناهض العسكرة و تصوّر السجانين و الضباط بصورة منفّرة ، إلى أن قامت الثورة في عام ٢٠١١م. وهنا يقول الفنان « لقد كسرت الثورة المحظورات وهدمت كل الجدران دفعة واحدة ، بدأنا نرسم من دون مواربة ، ونصوّر الأحداث بشكل الصريح ، وكان لابد من العمل على إعلان موقف واضح مساند للثورة السورية ، و العمل على توثيق ما أمكن من يومياتها».
بعد انتقاله إلى فرنسا، تابع منيف عمله الفني بكثافته المعهودة ، لكنه في خلال عام ٢٠١٤م ، قد عاش فترة من الإحباط و الشعور بالعجز ، وتكاد تكون هذه الحالة قد أصابت جميع الفنانين السوريين في هذا العام بالذات ، فهو العام الذي تلا مجازر استخدام السلاح الكيماوي وأودى بحياة الآلاف من السوريين، وكان قد مضى سنوات ثلاث على انطلاق الثورة و بدأ اليأس من رد فعل المجتمع الدولي يصبح يقينا. لكن الفنان استعاد لاحقاً كثافة عمله الفني، فبالإضافة إلى العديد من المشاركات الجماعية ، فأقام ثلاثة معارض شخصية تحت عنوان« تفاصيل». كان أبرزها معرضاً يعتبره مفصلياً أقيم في مدينة ليمونج عام ٢٠١٧م. وأهمية هذا المرض بالنسبة إليه هو« رمزية المكان ، فلقد كان سابقاً مسلخاً للحيوانات، و قد عُلّقت اللوحات على سكك المسالخ ، يتصدّرها لوحة تصوّر بشار الأسد».
في العام الماضي أنضم منيف إلى مجموعة فناني غاليري بيرغو[1] في قطاع الدوردون[2] في الجنوب الفرنسي. وقد انخرط الفنان مؤخراً في تجربة شديدة الغنى و الحساسية ، و هي ورشات عمل في مصحّ فوكلير النفسي[3]، تبعها طلب مصحّ جوت بوست[4] لإقامة تجربة مماثلة لما حققته التجربة من نجاح و تفاعل لدى المرضى. ويقول الفنان عن عن هذه التجربة : « في البداية بدأت التجربة بمحض الصدفة، لكني عندما ذهبت لزيارة المكان ، استرجعت على الفور نص للكاتب السوري فادي عزّام يتحدّث فيه عن زيارة له إلى مشفى ابن سينا للأمراض العقلية في دمشق، وصور صادمة ومؤثرة وصلتنا من مشفى للأمراض النفسية قد تم إنشاءه في الشمال السوري لمحاولة معالجة آثار الحرب ، وقد هُيّأ لي أنه سيتاح لي رؤية أفراد مرضى حالاتهم تشبه حالة السوريين الذين فقدوا صوابهم تحت وطأة جنون الحرب، لكني سرعان ما رأيت الأمر بصورة مختلفة ، ورحت أستغرق في العمل مع المرضى و استكشاف ما يمتلكون من قدرات تعبيرية، وهم أيضاً كانوا يحاولون استكشافي. وأما عن التجربة في مصح جون بوست، فمن المقرر أن تنتج عرضاً متخصصاً بالبورتريه في متحفهم في الشهر الخامس من العام ٢٠٢٠م.» ينهي منيف كلامه بالقول : «بعد التجربة الأولى صرتُ أكثر قدرة على تحديد الاحتياجات و المتطلبات اللوجستية و المعنوية للوصول إلى نتائج مقنعة و مُرضية ، حيث كان معظم المرضى يبتهجون لدى رؤيتهم النتائج»
اليوم يتجّه منيف إلى إقامة ستدوم ثلاثة أشهر في أحد مساكن المهاجرين القاصرين في مدينة تولوز، و هم من الأطفال الذين قد عبروا البحر وحيدين أو مع بعض المعارف، واستلمت الدولة الفرنسية رعايتهم لغاية بلوغهم السن القانوني للعيش منفردين. سيقيم منيف معهم ورشة فنية ، علّها تكون متنفسا تعبيرياً لهم ، أو باباً لاستكشاف الذات أو حتى سبيلاً للسلام الداخلي.