في وقتٍ سابق من هذا العام، ضمَّ معرض «ثورات شخصية» برعاية السيدة منى أتاسي، أحد عشر عملاً من أعمال فنّانات سوريات رائدات لاستكشاف الهوية الشخصية على خلفية المشهد الاجتماعي السياسي السوري خلال المائة سنة الأخيرة. هؤلاء الفنانات مقيماتٍ في مختلف أنحاء العالم. نتحدّث هنا إلى اثنتين منهما : هبة الأنصاري وألينا عامر، المقيمتان في برلين، عن آرائهما في العرض ، وعن تجربة العيش و الإنتاج الفني في ألمانيا.
أثناء زيارة معرض «ثورات شخصية»، كان من المستحيل المرور دون التوقّف عند فيديو «Blessing with Infection» الرائع من إنتاج ألينا عامر عام ٢٠١٨.يمّثل هذا العمل تأمّلاً في تدخّل روسيا في الحرب السورية والطقس العام الذي تمارسه الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مباركةً الأسلحة. تَظهر فيه الفنانة جالسة على كرسي ذي أرجلٍ مرتفعة جداً، متشّحة باللون الأبيض ، تنظر بفتور إلى الكاميرا وفي حضنها وعاء كبير. و تحتها على الأرض نرى فوهة بندقية مصوّبة نحوها. على مقربة من هذا العمل، كان بإمكاننا رؤية « كتاب الرياضيات» ، عمل التركيب النحتي لهبة الأنصاري، الذي يرمز إلى كتاب رياضيات مدرسي كانت الفنانة قد وجدته في ربيع ٢٠١٤ في مدينة كفر نبل، في بيت مدمر بعد تعرضه للقصف من قبل طيرا ن النظام السوري.
و في حين تختلف الممارسات الفنية للفنانتين، تجمعهما إقامتهما الحالية في ألمانيا. انتقلت أنصاري عام ٢٠١٢ إلى كولن لإقامة فنية ومن ثم الى ميونخ للدراسة في ٢٠١٥، قبل أن تنتقل إلى برلين حيث تعيش هناك منذ عام ٢٠١٧، وتعيش عامر في مدينة هاله الألمانية الشرقية ، بصفة طالبة مستضافة في جامعة الفن والتصميم " بورج جيبيشنستاين كونستوسكول".
سمحَ لهما عرض عمليهما في معرض «ثورات شخصية» بالدخول إلى مقاربات ومجاورات جديدة مع الأعمال متعددة الوسائط لغيرهما من الفنانات المشاركات في المعرض. تقول ألينا عامر: « أكثر ما جعلني أشعر أنني مرتبطة بشكل وثيق بالنهج التنظيمي للمعرض لم يكن كونه تكريماً لفنانات سوريات وأعمالهن فحسب ، بل أيضاً لكونه يركّزعلى الثورات الشخصية والداخلية التي مرّت بها كل من أولئك الفنانات. فعلى سبيل المثال ، لفتني جداً عمل نور عسليّة من الناحية المفاهيمية ، في أسلوب تعاملها مع القسوة الطبية والعلمية التي تحمّلتها والدتها خلال عملية معالجة نظرها المتراجع. وكيف حوّلت نور معاناة والدتها إلى عمل فنّي، كان ذلك مؤثراً جداً.»
على غرار ذلك ، ترى هبة أنصاري أن هناك قاسماً مشتركاً أكثر عمقاً من موضوع المعرض ذاته يربط كل هؤلاء الفنانات وهو عبارة عن « خيط شفّاف يربط كل الإبداع الفنّي والأدبي السوري، إنه خيط عميق وحسّاس لدرجة لا أستطيع وصفهُ. ما أعنيه الحالة التي يعيشها الإنسان السوري، أكثر من "الهوية السورية" لأن الهوية السورية موضوع معقد وغير واضح. كل إنسان سوري يعيش تغيرات كبيرة في حياته، على المستويين الشخصي والعام لذلك تكاد تكون الحالة السورية انجراف أو زلزال كبير دمر كل شيء، وهذا ما أعنيه بالخيط العميق
وهكذا، فإن الأعمال المحددة التي قدّمتاها الفنانتان تتعامل مع القضايا الشخصية والسياسية على حدٍّ سواء. توضّح هبة الأنصاري عن عمل «كتاب الرياضيات» قائلة : « حين فكرت بمشروعي كتاب الرياضيات، كنت أعمل على مزج بين علاقتي بماضي عشته وحاضر أعمل على تغيير مفاهيمه وبديهياته» ، بينما تقول ألينا عامر عن«Blessing with Infection» أنه « قد أثار أسئلة مثل : ما هو المقدّس وما هو النظيف؟» وتضيف :« لطالما ركّز عملي على النظافة وطقوس التنظيف وكيف يمكن لهذه المسائل أن تنعكس ذهنياً في أنماطنا الاجتماعية. غير أنني رغبت في هذا العمل بشكل خاص أن أستكشف استعمال الخطاب "النظيف" في السياسة لتبرير الحروب والدمار الشامل، عن طريق الاستعانة بمفردات تستدعي الخوف من الإصابة "بالعدوى" من الآخرين، بينما هي في الحقيقة تشجّع الناس على التلاعب و محاربة بعضهم البعض وعزل بعض المجموعات".
قد يكون عامل الانتقال ،وبعيداً في الكثير من الأحيان، أحد مسببات مشاعر العزلة ، بالنسبة للفنّانتين اللتين تنقّلتا على نطاقٍ واسع. لكن وفي وسط التغيرات، هنالك متّسع لروابط جديدة. بالنسبة لعامر، تُرجم هذا الأمر إلى الإحساس بالانتماء للمجتمع الذي وجدته في مدينة هاله. أما بالنسبة لأنصاري، فهو التأثير الحيوي الذي أضْفته برلين على عملها. تقول أنصاري : « كل مدينة أعيش فيها تمنحني تجارب جديدة، تنقلت مؤخرا" بين مدن كثيرة، لكن لفتتني الأشجار في برلين، والمساحات الشاسعة داخل المدينة، وعلاقة الناس مع أشيائهم القديمة التي يرمونها في الشارع، شىد يشبه الكشف.انتقلت بين عوالم متباعدة منذ طفولتي، الانتقال من ليبيا الى سوريا، كان تجربة غنية علمتني الفروق الشاسعة بين طبيعة الأشياء وقسوة الأماكن الجديدة. فعليا" هذه الصورة النمطية مكرسة حول الانسان السوري في ألمانيا أو أوروبا، إن كنت طالبا" أو فنانا" أو طبيبا" أو عاملا" .. لا فرق مباشر يتم التعامل معك بمنطق "أنت لاجئ" وبالتالي يتم الحكم مسبقا" على شخصيتك وعملك. الكثير من الصور النمطية السطحية يروجها الإعلام عن الناس، وأحيانا" الحكومات تساعد في خلق هذه الصور.. لكن لا أعتقد أن هذا يؤثر بالعمق على التعامل مع عملك الفني على المستوى الزمني الطويل"
إذاً، تحت مسمّى « ثورات شخصية» ، ما الذي كان أكثر أهمية بالنسبة لكلّ منهما ؟ تقول أنصاري : « صعبة الاجابة على هذا لانوع من الأشئلة، أو أكاد أقول أنني لا أملك إجابة، لأنني لا أزال أختبر علاقتي مع نفسي ومع محيطي وأختبر الفن.. إذ لم تحدث تغييرات كبيرة على المستوى الشخصي لأصفها بالثورة الشخصية. أنجزت عدد من المشاريع الفنية، وجربت فيها تقنيات مختلفة وجديدة، أعتبر أن هذا انجاز بالنسبة لي. والانجاز الأهك هو البرفورمنس، وتجريب هذه العلاقة المختلفة بين لاجسد والعمل الفني."
أما بالنسبة لعامر، فإن العامل الرئيسي كان التحوّل من الهندسة المعمارية إلى الفن. تَشرح ألينا عامر : « إن أهمّ ثورة شخصية بالنسبة لي كانت الانطلاق في مسيرتي الفنية خلال الحرب ، والتحوّل من ممارسة الهندسة المعمارية إلى الفن في ذلك الوقت. لذا، بعد انتقالي إلى برلين، وعند بداية التدخّل الروسي في سوريا عام ٢٠١٦، شعرتُ بدافع لتوجيه عملي وأبحاثي أكثر إلى المسارٍ السياسي. أنا نصف سورية ونصف أوكرانية ، وأتكلّم اللغة الروسية فمن المستحيل ألّا أشارك فيما يجري . إن الحرب في سوريا واقعة حقيقية ، شئنا أم أبينا ، وهي تدفع الفنانين إلى البحث عن مفردات للتعامل معها ، ليس كردّة فعل مباشرة تجاه الحرب نفسها، لكن كطريقة للتعبير عنها.»