15 يوليو 2023
"المعلّم حمّاد، أرجو أن تُحبّ ــ ولو قليلاً ــ هذه القطعة الصغيرة، لأحسّ بأن دروسك لم تذهب كلّها هباءً. مع خالص الحب والتقدير. يوسف عبدلكي، باريس، 8/ 5/ 1987"
بهذه الكلمات يخاطب الفنّان السوري يوسف عبدلكي (1951) معلّمه، الفنان السوري الآخر، محمود حمّاد (1923 ــ 1988)، ليُطلعه على نموذج مصغّر من أعماله. ولنا أن نتخيّل أن عشرات من الفنانين الآخرين، الذين بات بعضهم يُعَدّ اليوم من الأسماء الأساسية في التشكيل السوري، كتبوا رسائل كهذه إلى حمّاد، الذي كان أحد أبرز أسماء الجيل الأوّل من التشكيليين السوريين، وواحداً من مؤسّسي المشهد الفنّي في البلد، إلى جانب أسماء ومعاصرين مثل نصير شورى (1920 ــ 1992) وفاتح المدرّس (1922 ــ 1999)، فضلاً عن تدريسه لعقود في "كلّية الفنون الجميلة" بدمشق.
رسالةُ عبدلكي الصغيرة هذه، وغيرها المئات من الوثائق، باتت متاحةً اليوم في "أرشيف محمود حمّاد"، الذي أطلقته "مؤسّسة أتاسي" السورية للفنون على موقعها الإلكتروني، حديثاً، بالتزامن مع الذكرى المئوية لمولد الفنان الدمشقي، والذي جاء ثمرة لتعاون بين المؤسسة والفنانة التشكيلية والباحثة السورية نور عسلية، وكذلك لبنى حمّاد، ابنة الفنان الراحل.
ولا يُخطئ النصّ التقديمي للمشروع حين يشير إلى أن غنى تجربة الراحل، كفنان طليعي وكمؤسّس مع أصدقاء لـ"كلية الفنون" ثم مدرّس فيها وعميد لها (1970 ـ 1980)، "منح هذا الأرشيف بُعداً وثائقياً في غاية الأهمّية، لاستكشاف المشهد الفني والتعليمي والاجتماعي التاريخي المتعلق بحياة الفنانين" في سورية.
وثائق تخبرنا الكثير عن انهماكه بمأسسة العمل الفنّي في سورية
وهي حقيقة لا نتأخّر في الوقوف عليها في مجمل الملفات الثمانية التي وُزّعت فيها مواد الأرشيف، والتي تضعنا في صُلب المراحل البارزة في تأسيس المشهد الثقافي السوري، إن كان من خلال صور الراحل التي تجمعه مع أعضاء مرسم "فيرونيز"، أحد أوائل المراسم والمشاغل الفنّية في سورية (تعود هذه الصور إلى عام 1947)، أو من خلال الصور والمراسلات الشخصية والرسمية التي تكشف عن انهماكه، لسنوات طويلة، في مأسسة الدراسة الفنية وفي تقديم أفضل المقترحات الفنية، بل وحتى أفضل شكل ممكن من العمران، لطلاب الفنون الجميلة في البلد.
وبالتأكيد، يكتسب الأرشيف أهمّية أُخرى في تقديمه ما يشبه وصفاً خطّياً وتطوُّرياً لمسيرة محمود حمّاد ولآرائه ولمواقفه، كأحد أبرز الفاعلين والمراقبين للمشهد التشكيلي في سورية. ويمكن لنا أن نستشفّ هذه المواقف ليس فقط من خلال صور عن أعماله، قُسّمت إلى مراحل زمانية، بل وكذلك من المقالات والدراسات التي كتبها (يضم الأرشيف أيضاً مقالاتٍ كُتبت عنه)، والتي توقّف فيها عند فنانين سوريين وعرب، أو عند مسائل مثل "الصورة الشخصية لدى رامبرندت" (1969)، فضلاً عن مراسلاته التي تكشف أيضاً عن همٍّ ثقافيّ عام، كما في هذه الرسالة التي وجهها مطلع عام 1967 إلى صديقه الفنان الياس الزيات (1935 ــ 2022): "في خضمّ هذا البحر من المعارض والإنتاج المختلف الوجوه والاتجاهات، وجدتُ أننا في كل ما قمنا به حتى الآن، وما سنقوم به في المستقبل، نحن بحاجة إلى جرأة لا متناهية وإيمان قوي، لنعبّر عن شخصيتنا المفقودة ولنتوصّل إلى لغة نخدم بواسطتها الحركة الفنية في بلدنا. ونحن بحاجة إلى احتكاك أوسع مع ثقافات البلاد الأخرى حتى لا تتعود عقولنا وأبصارنا على منهج ثابت غير متحرِّك تحرُّكَ الحضارة الحديثة. إنك تجد نفسك تجاه حماس الآخرين للعمل متحمّساً مثلهم، ولا شيء أضرَّ للفكر من العزلة، والروتين اليومي الذي نعيش فيه.